هيام قبلان والكتابة بدم القلب ..!بقلم:شاكر فريد حسن
تاريخ النشر : 2017-09-12
هيام قبلان والكتابة بدم القلب ..!بقلم:شاكر فريد حسن


           هيام قبلان والكتابة بدم القلب ..!

شاكر فريد حسن 

هيام قبلان قامة ابداعية سامقة وصنوبرة كرملية شامخة الحروف ، استطاعت ان تحفر اسمها عميقاً في صخرة الأدب ، وتفجير ينابيع الابداع عندها من خلال لغة عميقة ودلالات جديدة وصور شعرية مستحدثة ومبتكرة ، فهي شاعرة وقاصة وروائية وناقدة ، واحد الأصوات الشعرية النسوية الجريئة الشجاعة الواثقة من نفسها في الحركة الشعرية الفلسطينية داخل الخط الأخضر ، والمتميزة بحداثة الشكل والمضمون والصورة وجدة الرؤية الفنية المعاصرة للواقع والناس والمجتمع ، والمتسم شعرها بالتوحد الوجداني الواعي بالهموم الكبيرة التي ترزح فوق كتفي وطنها . انها تتميز بالتجربة الشعرية الفنية الخصبة واللغة الشعرية الجزلة والصور القياسية الحديثة والمضمون الفني الجمالي ، وتأتي دفقاتها الشعرية زخات عاطفية حارة من خلال منظور " التوحد" بمعناه الفلسفي الفكري ، والقصيدة " القبلانية " مرتسم فني يضم مجموعة من اللوحات الشعرية المليئة بالظلال والألوان والأصوات والحدس والحلم .

هيام قبلان شاعرة فريدة كالعقد الفريد ، معتقة كالنبيذ ، من طراز جديد ، ارتوت من بحر العشق الصوفي والحب الوجداني ، وتركت القلم يزهر بالحروف والكلمات ، ويرسم المشاعر العاطفية الانسانية ، وغمرت نصوصها بشكاوى النفس وتباريح الوجد والشوق ومرارة الغربة والحرمان .

معرفتي بهيام قبلان تعود الى سنوات السبعين من القرن الماضي ، من خلال كتاباتها المنوعة في صحيفة " الأنباء" اليومية المحتجبة ، حيث توسمت واستشرفت لها مستقبلاً شعرياً وأدبياً يانعاً ، لما تتمتع به من موهبة مطبوعة وروح شاعرية مرهفة وامتلاك للغة وثراء في المفردات والكلمات .

هيام قبلان الآتية من ربوع قرية عسفيا الرابضة على سفوح جبال الكرمل ، حيث الطبيعة الغناء الخضراء وكروم الدوالي المتدلية والمناظر الطبيعية الخلابة التي تنعش القلب والروح وتبهر العين ، جاءت الى الدنيا العام ١٩٥٦ ، وترعرعت في كنف أسرة دافئة تتكون من أب  سوري وأم من اصل لبناني وكرملية الموطن ، زرعا فيها ثقافة وفكر وعادات تختلف عن فتيات اخريات ، ومنحاها الشجاعة والاصرار والثقة بالنفس ، تطل على حيفا وبحرها وشاطئها الجميل ، فتأخذنا الى ابعاد واعماق في المشاعر والاحاسيس والفكر ، ويحملها الشوق والحنين العاصف اللاهب الى البعيد ، الى وطن الآباء والأجداد .

انهت هيام دراستها الابتدائية في مسقط رأسها ثم انتقلت الى الناصرة والتحقت بمدرسة الفرنسيسكان الداخلية ، وانهت تعليمها الثانوي فيها ، بعدها اكملت دراستها الجامعية في جامعة حيفا وحصلت على شهادة البكالوريوس ء. في موضوع التاريخ ، وموضوع التربية العامة والخاصة في اللغة العربية وآدابها في الكلية العربية بحيفا ، كذلك التحقت بكلية اورنيم وانهت دراستها بموضوع العلاج عن طريق الفن / الرسم والموسيقى بما يسمى " ثرابيا ".

عملت هيام لسنوات في صحيفة  " الصنارة " بالناصرة ، ومذيعة ومعدة للبرنامج الأدبي الثقافي في راديو المحبة .

بدأت هيام قبلان الكتابة في جيل مبكر ، ولم تكن تدري او تعلم ان الذي تكتبه هو شعر أم لون أدبي آخر ، وكانت اولى تجاربها نص بعنوان " خائفة " واستمر هذا الخوف الى ان علم والدها انها تعشق الكلمة وتحب الكتابة فشجعها ووقف الى جانبها حتى سكنها القلم وادمنت عشقه ، وراحت تهرب مع اقلامها واوراقها الى الكرم القديم المطل والمشرف على جبل الكرمل حيث عناقيد الدوالي والعنب حاملة رسالة العودة من اجل الخلاص .

تقول هيام قبلان : " سكنني الشعر والابداع وأنا على مقاعد الدراسة الابتدائية ففتحت نافذتي لاستقبال هذا الجنون الذي ما زال يلاحقني حتى اليوم ، اراه في كل شيء ويلاحقني الى كل مكان ، بي من ماء ونار ، من غضب رسكون ، من حب وثورة ، من حزن وفرح ، تسكنني الحياة فأرنو اليها بكل حب دون التفكير بالنهاية أو الموت يسكنني طفل احافظ عليه حتى لا اشيخ كما يشيخ العمر .

وتأثرت هيام قبلان في بداياتها وبواكيرها الشعرية ، كما اعترفت بذلك ، بجبران خليل جبران ونزار قباني ومحمود درويش ، فمن جبران تعلمت المحبة ، ومن نزار الحب والحرية ومن درويش التمرد وعشق الوطن والطموح .

هيام قبلان شاعرة رائدة اقتحمت محراب الأدب وارتدت عباءة الشعر ، واثقة من كتابتها وثقافتها ونفسها ، وتحلت بالكاريزما والالقاء الشعري الجميل ، وصدقت زميلتها الكرملية الشاعرة هيام أبو الزلف حين قالت عن هيام :

هيام الشعر جاءت بالكلام 

فكان الطيب من نفح الهيام 

وكان اللحن يأتينا بسحر 

فتصبو الروح شوقاً للتسامي 

اليك الحب من قلبي يسيل 

كنهر نحو بحر من سلام 

شاركت هيام قبلان في العديد من الندوات والامسيات الشعرية والادبية والثقافية في اليلاد والخارج وفي عدد من المهرجانات الشعرية في تونس والمغرب وفي معرض الكتاب الدولي في القاهرة ، ولها نشاطات متعددة في المنتديات الأدبية ، وحققت شهرة واسعة محلياً وعربياً وعالمياً ، وحصلت على درع مؤسسة " المثقف " للثقافة والأدب والفن لمؤسسها الكاتب والمفكر العراقي الكبير ماجد الغرباوي ، عن المرأة الناقدة .

صدر لهيام قبلان عدداً من المجموعات الشعرية والنصوص القصصية والروائية من اهمها : " آمال على الدروب ، همسات صارخة ، وجوه وسفر ، انزع قيدي واتبعني ، لا ارى غير اصلي ، وبين اصابع البحر ، طفل خارج معطفه ، ورائحة الزمن العاري " .

هيام قبلان لديها رغبة عارمة في الكتابة الابداعية ، فهي الرئة التي تتنفس منها ، ولا تزال تكتب بحماس البدايات ، رغم واقع البؤس والاحباط وغياب الاهتمام بالقراءة والثقافة والكتاب .

اتخذت هيام قبلان قصيدة النثر طريقاً لها بفتية عالية ، وجاءت تصرصها مرصوفة بالاستعارات والتشابيه والصور الشعرية الجديدة العميقة والتعابير البلاغية الراقية ، ويلفها الغموض والرمزية بشكل عفوي احيانا، وتمتاز بالرومانسية الشفافة الحالمة ، ومترعة بالدفء الشاعري  والسحر والجمال الشكلي واللفظي والفني ، وتسيل عذوبة ورقة وأحاسيس أنثوية وانسانية مرهفة متأججة ومتزنة ، ولغتها رومانسية حالمة ومعبرة تحلق في سماوات الخيال البعيدة ، والفاظها رشيقة ،وشعرها واضح بسيط ولكن عميق الابعاد والمغزى ، واسلوبها تعبيري ، وصورها حسية .

تعالج هيام قبلان معظم القضايا الانسانية الاجتماعية والسياسية والوطنية والقومية والهموم الفلسطينية فضلا عن هموم المرأة والقضية النسوية ، انها تحكي عن الرحيل والانتماء والغربة والحزن والثورة والوطن  ، وتكتب للقمر والشمس والحجر والشجر وكل ما هو جميل وانساني في الحياة .

وفي قصصها تطرح مواضيع من صميم حياتنا وواقعنا الاجتماعي والسياسي المعاش ، وتتناول التخلف المجتمعي والزيف القائم والمظاهر السلبية السائدة في مجتمعنا العربي ،وتتطرق لهموم المرأة ودورها في مواجهة قيود التخلف الموروثة ، وهي تناصر المرأة في معارك الحرية والثورة ، وتنتقد الرجل الشرقي وتكيل له الاتهامات ، وتنشد الحرية والمساواة للمرأة العربية .

ورواية هيام قبلان "رائحة الزمن العاري " تصور وتتحدث عن امرأة ارملة تعيش في مجتمع شرقي ذكوري ، واستغلال جسدها ونهشه بأكثر من محاولة ومشهد لرجولة بائسة ، وكما يقول الشاعر الفلسطيني محمد حلمي الريشة : " لم تزل حياة المرأة تكرر حياتها انها ترويها في حالة الطفلة المغتصبة والمراهقة المقهورة والزوجة المسلوبة والمطلقة المشبوهة والأرملة الشقية كما الوطن المنهوب ، والخيانة التي باتت وجهة نظر ، والرجل العضوي الذي يشهر شهامته من ببن ساقيه ، هي رواية واقعية رومانسية تجمع ما ببن جسد المرأة المغتصب والوطن المسلوب ومصادرة الاراضي وتلقي الضوء على قضية التجنيد الاجباري وملابساته .

وما يبعث على التقدير والاعجاب في الرواية تلك اللغة الرقيقة الرصينة لهيام قبلان ، التي يلتقيها القارئ في نسيجها ، فهي لغة عادية انسيابية بعيدة عن الزخرفة اللفظية والتنميق الشكلي ، انها لغة تجمع بين البساطة وقوة والسبك والجمالية ، ما يؤكد قدرتها على تطويع اللغة ، وعدم حاجتها الى أليات مساعدة وادوات فنية ترقى بلغتها .

تراوح هيام قبلان في صورها الشعرية بين بلاغة السورياليين وشفافية الرمز بين وحدة الواقعيين المحببة ، لذا فان القارىء لقصيدتها يحس بالغرابة والدهشة ، ولعل ذلك الاحساس هو ما يسميه بعض النقاد الفرنسيين بالصدمة الشعرية التي تحدث اختلالاً تفسياً عميقاً في نفس القارئ والمتلقي بقصد جذبه الى عالم المبدع والاستغراق فيه مما يؤدي الى خلق علاقة جدلية ، وهذا ما تطمح وتسعى اليه هيام قبلان بشكل دائم .

وتنهال صور هيام وأفكارها في تناسق هارموني متناغم وترابط عضوي متماسك وتتقاطع الصور والأفكار في خطوط داخلية مكتنفة تنبثق من خلالها رؤية فنية شفافة نستشف عبرها موقف الشاعرة الفني والفكري والحضاري من محيط التجربة العام بكل صوره وأشكاله ودلالاته ومعانيه ، وبذلك تؤكد هيام قبلان على اصالتها الشعرية ومقدرتها الابداعية والفنية في التعبير عن مكنوناتها وخلجاتها وعواطفها ومشاعرها ومواقفها وتجاربها في سياق تعبيرهاعن عواطف ومشاعر وتجارب الآخرين .