الخريطة العربية بين سايس بيكو ومشروع الشرق الأوسط الجديد بقلم: هناء مهدي
تاريخ النشر : 2017-08-13
الخريطة العربية بين سايس بيكو ومشروع الشرق الأوسط الجديد بقلم: هناء مهدي


الخريطة العربية بين سايس بيكو ومشروع الشرق الأوسط الجديد
            بوادر سايس بيكو جديدة، تكاد تمزق المنطقة العربية برمتها، بعد سلسلة من الثورات، وجملة من المؤامرات التي تفننت في صياغتها الديبلوماسية الأمريكية، والمخططات الصهيونية، من أجل شل القدرات الدفاعية العربية، والسيطرة على الإرادة السياسية والإيديولوجيات الدينية الإسلامية، ومن ثم تملك زمام أمور الشرق الأوسط ونهب الخيرات العربية والأموال الخليجية.
           ولعل التساؤلات التي تطرح بحدة، تلك المتعلقة بمصير الربيع العربي الذي حمل شعارات نبيلة تواقة للحرية والعدالة الاجتماعية، ثم ما لبث أن تحول عن مساره الحقيقي ليصبح برنامجا لتنفيد الإستراتيجية الأمريكية.
          تساؤلات أخرى تفرض نفسها بإلحاح من قبيل، ما الذي حققه الوجود الأمريكي في العراق؟ كيف نشأت الحركات الإسلامية المتطرفة؟ وكيف استطاعت قوات "داعش" أن تسيطر في وقت قياسي على مساحات عربية شاسعة؟ ولماذا سلسلة من التطاحنات والحروب الأهلية والصراعات الدينية والنعرات الطائفية، وهذا التوثر العربي الغير مسبوق الذي انفجر بين يوم وليلة؟
         ثم لماذا استفاق الحلف الشرقي على حين غرة لتقصف الصواريخ الروسية المقاومة السورية؟

         تجرنا هذه التساؤلات إلى الإستقراء التاريخي للأوضاع العربية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وانتصار الحلفاء بقيادة ابريطانيا وفرنسا واتفاقهما على  تقاسم الأراضي العثمانية وفقا لإتفاقية سايس بيكو سنة 1916 والتي شطرت الخريطة العربية إلى مساحات صغيرة، وفرضت حدودا بين أقاليمها.
        هذا التقسيم سيصبح ثنائي الأبعاد بعد ظهور القطبية الدولية، حيث سينقسم العالم بين معسكرين شرقي (شيوعي اشتراكي) بزعامة الإتحاد السوفياتي. وغربي  (رأسمالي ليبرالي ) تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية. ولم تستثنى الدول العربية من هذا التقاطب، خاصة وأن بعض الأنظمة العربية تمخضت عن انقلابات عسكرية بمباركة  ودعم سوفياتي،  كمصر والعراق وسوريا واليمن والسودان وليبيا. وتمظهر هذا التقاطب في التسابق نحو استقطاب أحلاف جديدة، والسباق نحو التسلح والحروب بالوكالة وغزو الفضاء...وهو ما أطلق عليه بالحرب الباردة. إلا أ هذه الحرب لم تعمر طويلا، إذ سرعان ما خمد فتيلها في العقد الأخير من القرن الماضي بعد سقوط جدار برلين متوجة بذلك القيادة المنفردة لأمريكا للعالم.
العالم العربي في ظل نظام القطبية الأحادية
           بعد ارتكاسة المعسكر الشرقي وانحلال حلف وارسو، وجدت الدول العربية نفسها بين مطرقة أمريكا وسندان المخطط الصهيوني، وبدأت مرحلة جديدة في إدارة شؤون العالم بالقيادة المنفردة لأمريكا. وباتت القوى العالمية الكبرى تابعة ومهادنة للسياسة الأمريكية، خاصة بعد الدعم الأمريكي (العسكري والسياسي والإقتصادي "مخطط مارشال ") الذي خلق لدى الدول الأوروبية نوعا من الإحساس بالدونية وشعورا بأنها ستظل مدينة لأمريكا  وأنها في حوج إلى الإحتماء تحت المظلة الأمريكية .
              بعد سياسة الإحتواء التي طوعت القوى الغربية والشرقية، وانفرادها بالسيطرة على العالم، عملت الإدارة الأمريكية على نشر ثقافتها وفرض قوانينها عالميا، وخولت لنفسها صلاحيات واسعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول. وفرض تبني قوانين جديدة عليها. وتعميم نظام العولمة، بما يعني قولبة الشعوب والدول الأخرى قيما ونظما ومناهج تفكير (فيما يعرف بالنزعة المركزية الغربية).
 وذهبت الإستراتيجية الأمريكية أبعد من ذلك، حين انتبهت إلى دور الصراع بين الشعوب في ترجيح الكفة الأمريكية والسيطرة على الثروات العربية. وتبنت سياسة محبكة لتحقيق نواياها المبطنة عبر خلق المزيد من بؤر التوثر في العالم العربي والإسلامي. وتجندت لاستنزاف الدول والشعوب، بل وتدميرها بالكامل، كما وقع في العراق وسوريا وأفغانستان... وتكتيكا لخطة حرب مرسومة سلفا. وهكذا وطأت الجيوش الأمريكية الأراضي السعودية والكويتية للدخول إلى العراق وتفعيل المخطط الأمريكي ميدانيا، فأورثتها فتنة مذهبية وولدت نعرات طائفية وأجهضت الأحلام الشعبية التواقة للوحدة العربية. مقدمة مشروعا جديدا لشرق أوسط كبير، على الطراز الأمريكي، قدمته وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس فيما أسمته "مشروع الفوضى الخلاقة لشرق أوسط كبير".
             الإعتبارات التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق استراتيجيتها لا تخلو من أهمية بالنسبة إليها : الحفاظ على مكانتها في المنطقة كقوة عظمى، وتأمين مصادر الطاقة، وضمان علاقتها الاقتصادية وتحالفاتها مع الدول العربية وخصوصا دول الخليج، وتأمين ديمومة بيع الأسلحة ومحاربة امتلاك السلاح النووي، وضمان أمن إسرائيل...
            تبنت الاستراتيجية الأمريكية مبادئ سامية لكسب الولاء الدولي: تنمية العالم العربي، تعزيز قيم الديموقراطية، مراقبة مدى احترام حقوق الإنسان، وفسح المجال لشراكات عالمية (الشراكة الأورومتوسطية) و(مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط) وتقديم مساعدات، وتسهيل عضوية منظمة التجارة العالمية، وتعزيز ترتيبات الأمن.
            هذه الشعارات والمبادرات كانت هي الحيل التي اعتمدتها أمريكا لتسريع مخططاتها وتفعيلها عمليا بعد تدمير العراق والقضاء على قوة طالبان في أفغانستان فعمدت على خلق أزمات وتجندت للإشراف عليها وتوجيهها وإشعال فتيلها لتبلغ أعلى مداياتها بما يخدم مصالحها.
الربيع العربي ومخلفات الثورات الشعبية
              خلف التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط استياء شعبيا في الأقطار العربية ضد الحكام الخانعين وسياستهم التي لا تناغم الهوية العربية الإسلامية لمجتمعاتها، وظلت الشعوب العربية تعاني من انعدام قيم الديموقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان في ظل سلطة تخدم المخططات الاستعمارية الغربية والمصالح الأجنبية على حساب شعوبها التواقة للحرية الحالمة بأمجاد أمة عربية إسلامية.         
              انطلقت ثورات الربيع العربي من تونس وسرعان ما انتشرت شرارتها شرقا وغربا، أسقطت بضع أنظمة استبدادية كما هو الحال في مصر وتونس وليبيا واليمن، وغيرت دساتير عربية -المغرب تونس والأردن وسوريا- ولكنه فشل في خلق نظام ديموقراطي أو نظام سياسي يترجم الإرادة الشعبية، ويستجيب لانتظارات وتضحيات الشعوب، لقد خلق حالة من ثقافة العنف اللامسبوق وقوى إرهابية خلقها الغرب ودعمها من أجل تنفيد استراتيجيته لتفتيت العالم العربي والتطبيق العملي لما يسمى الفوضى الخلاقة من أجل خلق دويلات جديدة ومجتمعات مقسمة إلى عصبيات طائفية ومذهبية وعرقية لا تفتأ تتجزأ كل لحظة وحين مادامت محموكة بمعادلات الصراع
الشرق العربي وبوادر حرب باردة جديدة
            مما سبق إيراده، لامراء أن الولايات المتحدة الأمريكية أضحت المتحكم الوحيد في المسرح الدولي، ولتحقيق مصالحها الشرق أوسطية، أقدمت على  خلق استراتيجية جديدة شكلت طفرة نوعية في سياستها الخارجية تساير مصالحها في المنطقة، وهكذا قلب الرئيس الأمريكي السابق  أوباما الطاولة على حلفاءه الخليجيين. وخلص الى أهمية التحالف مع إيران وطي ملفها النووي، داعما المد الشيعي في الشرق الأوسط. من أجل إنجاح مشروع أمريكا الجديد لتقسيم الشرق العربي وخلق مزيد من الصراعات الطائفية و حروب بين المذهبين السني والشيعي.
         نجاح الاستراتيجية الأمريكية في السيطرة على السياسة الشرق أوسطية حرك الدولة الروسية التي أفل نجمها نهائيا فدفعها إلى اتخاذ مواقف جادة وصلبة اتجاه آخر معقل نفوذها في الشر ق الأوسط، وهي سوريا، وهناك اتحدت المصالح الروسية و الإيرانية بالتصدي للنفود الأمريكي ومحاولة جدب الدول العربية المناهضة للسياسة الأمريكية وخاصة سوريا ولبنان (الجناح السياسي لحزب الله) الى هذا التحالف.
الإستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط عرفت تطورات غير مسبوقة  في عهد ترامب الذي ضرب عرض الحائط سياسة سابقيه ومخططات أوباما على وجه الخصوص، رافضا التحالف مع إيران ودعم المد الشيعي في المنطقة. وتنكر للاتفاق النووي الموقع معها. 
خطة ترامب الشرق أوسطية تعهدت بمحاربة داعش والقضاء على الإرهاب، وتم التنسيق مع السعودية والإمارات ومصر، أسفر ذلك عن تأجيج  أزمة عربية جديدة، توجت بمقاطعة قطر بوصفها "داعمة للإرهاب".
العصر الذهبي للسعودية ودول الخليج بدأ يتلاشى  بشكلٍ مُتسارع  بسبب المخططات الأمريكية الرامية لتأجيج الاضطراب، وخلق حالة من عدم الاستقرارفي المنطقة، يليها تهديد وابتزاز من أجل منح الحماية. مقابل إفراغ الصناديق العربية مما ادخرته من أموال لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية. 
السياسة الأمريكية لن يهدأ لها بال في الشرق الأوسط حتى تحول العالم العربي إلى خراب بعد أن استنزفت خزائنه وشلت إرادته، ليبقى المستفيد الأكبر من هذه الأزمات هو دولة إسرائيل.

   هناء مهدي