سلطة الهندسة الثقافية وأهميتها في عالم الاقتصاد المعرفي..بقلم: د. مناهل ثابت
تاريخ النشر : 2017-08-13
سلطة الهندسة الثقافية وأهميتها في عالم الاقتصاد المعرفي..بقلم: د. مناهل ثابت


*سلطة الهندسة الثقافية وأهميتها في عالم الاقتصاد المعرفي..*

*بقلم: د. مناهل ثابت**
لقد كانت قلة المفكرين في العالم دائماً نتيجة طبيعية للصعوبة التي يقتضيها التفكير المركز، وبهذا تهرب العالم من مسؤولية التفكير، وسلك طريق الراحة الذهنية فوجد التقليد مسلكاً خلاباً لمعظم ما يريد القيام به، بل وكان تبني الأفكار الجاهزة، بدلاً من تنمية قدرته على التفكير المركز بديلاً حيوياً، لمعالجة صعوبات حياته، وتدبير معيشته، وتصريف شؤونه.

وللسبب نفسه خسر معظم المستثمرين في هذا العالم استثماراتهم، حين هبوا سراعا لتبني الأفكار الجاهزة بالطريقة ذاتها، سواء في الفكرة التي تقوم عليها مشاريعهم، أو في طريقة التعامل مع المشاكل والمخاطر التي تبرز لهم خلال تنفيذهم لتلك المشاريع.

وإذا أردنا الحديث عن الاقتصاد المعرفي والاستثمار الثقافي عربيا فلنطرح سؤالاً مهماً هو: لماذا يتهرب أرباب المال، ورجال الأعمال العرب من الاستثمار في عوالم الثقافة والمعرفة؟

إن المشكلة العصيّة التي تواجه أي استثمار ثقافي، في الوطن العربي هي عدم وجود أرضية واعية، وبيئة مثقفة ليؤسس ويشيد عليها تصوراته، وهذا ما لا يتحصل بسهولة، في أي مكان في العالم، ونتيجة لهذا ينفر المستثمر من سوق المعرفة والاستثمار في الثقافة، لأن المشكلة التي يواجهها ليس لها علاقة برأس المال.

وإنما بخلق الوعي لدى الجمهور المستهدف، من أجل أن يتقبل سلعة المستثمر ويتفاعل مع مشروعه وهذا لا يمكن شراؤه بالمال أو تحصيله سوى بآلة زمنية تعيد تصميم التاريخ وتعيد تصميم الذهنية البشرية في هذه المجتمعات، بالعودة إلى ماضيها، فيزدهر حاضرها، وعياً وفكراً وثقافةً، وعلماً، فتصبح جاهزةً وملائمة لوجود سوق معرفي فيها، ويجدي أي استثمار ثقافي فيها!

وقد كانت مسألة إحداث التغيير وصناعة الوعي محل جدل تاريخي، تجسدت في المثالية والمادية، فماركس يقول: «ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، إنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم». وقد بدأ ماركس بدراسة المجتمع الإنساني من الواقع المادي الذي يعيش فيه.

هذا هو الذي يحدد واقعنا الحي وليست الأفكار التي نؤمن بها هي التي تحدد ذلك، وعلى الرغم من ذلك هناك تفاعل معقد بين الواقع المادي والأيديولوجيات التي تبادر بشرح هذا الواقع، أو في كثير من الأحيان، التعتيم عليه على حد تعبير ماركس.

أما هيجل فيرى أن الوعي هو ما يصنع البيئة المثقفة، والواقع المثالي، وهذا لدى هيجل، وهما شرط تحصيل الوعي لدى الأفراد؛ وقد قال إنجلز معبراً عن الرأي الأول لماركس: «إن نمط تفكيرنا يختلف حسب وجودنا في قصر أو في كوخ».

والتنمية بطبيعتها تشترط دائما ضرورة الإنسان المثقف فهو المستهدف وهو أيضاً من ينظم لفعالية التنمية ولذلك فحضور الوعي لديه مشروط في أي هندسة مالية أو ثقافية حتى يتم إنجاز ما تضعه الهندسة المالية والثقافية من خطة تتقدم بها عجلة التنمية. ولذلك فشروط التنمية وتحقيقها تنطبق أيضاً على الهندسة الثقافية، بل إن هذه الأخيرة جزء أصيل في عملية التنمية وأس من أسسها.

ومثلما أشرت فإن الرأسمالية الحديثة قد ابتكرت علم الهندسة المالية، وضمنته كافة محتويات العلوم الإدارية، التي ظهرت قبله، وزادت عليه بأمر التنبؤ بالمخاطر، واحتواءها في حال وقوعها.

وأما ما يربط الهندسة المالية باقتصاديات المعرفة، فهو أن الهندسة المالية هي الضامن الوحيد، الذي تطمئن به السوق المعرفية، إذ يضع كل الاحتمالات الخاصة بالمشاريع الثقافية، ويعمل على الاحتياط لأي فشل، بل ويصنع الحلول اللازمة التي تقي أي مشروع ثقافي من الفشل، بل إنها أيضا تزيده مناعة بالطرق التي تنتهجها خطتها لطريقة سيره، ودراسة الجدوى التي تقدمها الهندسة ليتهندس بها أي مشروع تنموي.

من هذا نجد أنه لا يجب تجاهل المخاطر التي قد يتعرض لها أي مستثمر في قطاع الثقافة، خصوصاً في البلاد العربية، وصناعة الوعي واقتصاديات المعرفة، وهذا لا يتحقق إلا بالاستعانة بخبراء الهندسة المالية، والثقافية والنظر بمنظارهم ومن خلال عدستهم.

إن البيئة الواعية لا تتحصل إلا بمنهجية تنموية مخطط لها بإجادة ومعرفة عميقة ببواطن الأمور، وقدرة على سبر أغوار مخاطرها، وما قد تتعرض له من إشكاليات تعيقها، وهي تبدأ من الأسرة، فالمدرسة، ثم المحيط الذي يعيش فيه الفرد.

ولذلك كانت أغلب المشاريع الثقافية دائماً تلاقي بروداً في مواجهتها، والتعامل معها، واستاتيكية تؤذن بفشلها قبل بدئها؛ ولعل وجود الإنسان الواعي في هكذا بيئة مرهون بحرصه، واجتهاده الذاتي، وليس ببيئته، وما يحيط به، هذا إن افترضنا أنها هي من تصنع وعي الأفراد دائماً، ورغم ذلك إلا أن هذا لا يمنع أيضاً في أن يشكل المكان الذي نعيش فيه ثقافتنا ووعينا ولكن في أحايين قليلة.

إن الحديث عن الاقتصاد المعرفي عربيا هو شبه غائب تقريبا لكن هناك نماذج يمكن ذكرها كالإمارات العربية المتحدة التي بدأت في تبني بعض الأفكار المعرفية منها مشروع الفضاء وعام الابتكار لتكون منصة لانطلاقة فكرية ترجعنا للعصر الذهبي. وكذلك رؤية محمد بن راشد المستقبلية في إنشاء متحف المستقبل.

المقام لا يتسع لتقديم افتراضات لما يجب انتهاجه لتحقيق حالة من الوعي تؤهل البيئة المجتمعية لأن تكون أرضية مناسبة لتزدهر فيها أسواق الثقافة والاقتصاد المعرفي ولذلك لنا في القادم حديث.