التشويش النقدي بقلم : د. محمد عبدالله القواسمة
تاريخ النشر : 2017-08-12
التشويش النقدي
د. محمد عبدالله القواسمة
قد تعترض سبيل الناقد الحقيقي قبل قراءة العمل الأدبي، أو في أثناء قراءته عملية تشويش غالبًا تنطوي على تمجيد العمل، والإعلاء من شأنه، والحكم عليه بالتميز، والاهتمام بما فيه من حسنات والتغاضي عما فيه من عيوب، والدعوة إلى دراسته وتقديره أكثر مما يستحق. وربما على وصفه بالإعجاز تحت ما يسمى النقد الانطباعي. وإظهار صاحبه بأنه فريد عصره ذكاءً وإبداعًا.
تظهر عملية التشويش هذه في احتفالات إشهار الكتب، وتوقيعها، وكذلك في بعض المؤتمرات والندوات التكريمية. ومن تمظهراتها ما يكتب إزاء عنوان بعض الأعمال الأدبية بأنه رواية. وهو في الحقيقة غير ذلك، قد يكون حكاية، أو سيرة، أو كتابًا في أدب الرحلات. ومنها ما يجئ من مدائح، وإطراءات، وشروحات، وتفسيرات، وشطحات غريبة في المقدمات والتقديمات التي تتصدر الأعمال الأدبية، وفي قراءات بعض النقاد وغيرهم.
يلاحظ أن من يقوم بالتشويش النقدي هم مثقفون، من بيهم: الإعلامي، والصحفي، والناشر، والناقد، والمؤلف نفسه. فالإعلامي أو الصحفي يركز في العادة على النواحي الإيجابية في العمل الأدبي، ويتجنب ذكر النواحي السلبية لأن وظيفته الإخبار والإعلان عن العمل وليس النقد الموضوعي، وغايته جذب الناس وإرضاؤهم. وكذلك الناشر فليس همه غير الترويح للعمل، وتسويقه، سواء أكان جيدًا أم رديئًا؛ لإظهار حرصه على تقديم الأجود من الكتب. أما المؤلف فالغاية من مدح عمله توجيه القراء والنقاد لفهمه كما أراد، وليس كما هو في الحقيقة. أما الناقد الذي يتصدى لمدح عمل رديء دون مراعاة لمنطق النقد وقواعده فليس من دافع إلى مثل هذا النقد غير تجنب غضب المؤلف، وغضب أقرانه وأهله وعشيرته، أو الحصول على مكاسب مادية أو معنوية.
لا شك أن هذه العملية تربك الناقد الموضوعي حقًا، وتشوش عقله، وتؤثر في طريقة تناوله النقدي، وربما يسري إليه الشك في ذائقته الفنية، وقدرته النقدية، وثقته بنفسه. لهذا قد يلجأ إلى إعادة النظر، ومراجعة ما توصل إليه مرات ومرات ليتأكد من نتائجه. وربما تصل به الحال إلى الإحساس بالخديعة إذا كان العمل رديئًا، وكان البون شاسعًا بين ما توصل إليه بنفسه عن ذلك العمل الأدبي وبين ما صرح به عنه أصحاب النقد التشويشي. لعل من أشد أنواع العذاب النفسي أن يكتشف الإنسان أنه خدع من أناس كان يتوقع منهم النصيحة الصادقة، والنقد السليم.
لا يقتصر الضرر الذي تلحقه عملية التشويش على ما يقوم به الناقد بل تلحق العملية الضرر بالقارئ العادي أيضًا؛ إذ تستنزف منه المال، وتبدد الوقت، ويجد نفسه في فخ من الخداع والكذب، أو في أسر الرؤى المشوشة. كما أن هذه العملية تلحق الضرر بالذوق الجمالي الجمعي، وبالقيم الجمعية السامية لتحل مكانها المجاملة، والتعصب، وحب الظهور، والحرص على المصالح الذاتية.
لا شك أن تقدم الحركة النقدية في بلادنا يتطلب من النقاد التنبه إلى هذه الظاهرة، ظاهرة التشويش النقدي، وإدراك خطورتها في ترويج الروايات والمجموعات الشعرية الهابطة، والمسرحيات الهزيلة، والأفكار الساذجة. والعمل على التخلص منها قبل بدء قراءة الأعمال الأدبية، ومواجهتها بالعقل الناقد، وكشفها؛ فليس كل ما يقال أو يكتب مفيد في كشف الحقيقة الأدبية؛ فكثير من الأقوال والكتابات ما هي إلا مشوشات نقدية، وراؤها مصالح وأهواء خادعة.
[email protected]