رمضانيات 3 بقلم:عبد السلام عابد
تاريخ النشر : 2017-06-19
رمضانيات 3   بقلم:عبد السلام عابد


رمضانيات 3 (جديدة )

من بيدر الحياة

رمضانيات 2017م

عبد السلام العابد

(10 )

     رمضان شهر ٌ كريم ، وعبادة دينية  نتعلم منها دروسا ً كثيرة ً في الحياة، ومن بينها : التدريب على تحمل المشاق والمتاعب والصبر، وعدم اللجوء إلى التبرم والشكوى، والتحلل من كل الالتزامات والمسؤوليات ، ولا سيما تلك التي تتطلب الانتصار على الأهواء والرغبات.

     إنّ للصبر حلاوة ً ، وثماراً زكية، وتحقيقا ً لانتصارات ٍ مؤزرة ، ولن يتحقق النجاح والفلاح، إلا بعد المرور بتجارب الصبر .قال تعالى: " والله مع الصابرين " . وقال الشاعر:

    

وَقَلَّ مَنْ جَدَّ في أمْر ٍ يُطالبُه ُ ///  فاستصْحَب َ الصّبرَ إلا فاز َ بالظّفَر ِ

11

      حينما تجنح الشمس نحو الغروب، وتلملم خيوط أشعتها الذهبية المتناثرة في فضاءات الأرض ، ووهادها وشعابها، وجبالها ورباها وسهولها، يبدأ العد التنازلي، لانتهاء يومِ رمضاني صيفي طويل وحار. وعندما تمتد الظلال والأفياء، وتتعمق وتختزن في ذراتها الخفية بعضا من النسمات الرطيبة المنعشة، يميل الجو إلى الاعتدال، فترق نفسُ الصائم ، وتشفّ كبلورةٍ بيضاء ، ويعتدل مزاجُه  وتعتريه شحناتٌ من الفرح والسعادة والارتياح .

     ينظر إلى الأفق البعيد ، فيرى قرص  الشمس قد غاب، وحلّ مكانه الشفقُ مخضباً بالحمرة، ما يعني أن موعد إفطاره الإلهي  المحدد قد اقترب . ويا لها من فرحة نفسية، وسكينة  روحية !!... ويا لها من لحظة إيمانية مشرقة !!، حين يشعر الصائم أنه أطاع خالقه العظيم،و قدم واجبه الديني على أكمل صورة .  وتبلغ سعادته ذُروتَها لحظة اجتماع أفراد أسرته ،  حول مائدة إفطارٍ شهيةٍ  مليئةٍ بأكواب الماء العذب ، وبأطباقٍ متنوعة مما يسّر الله تعالى لهم، من نعمٍ لا تُعد ولا تُحصى.

12

    تعرض لحادثٍ مروع، كاد يقضي عليه، وظل غائبا عن الوعي عدة أيام، وحينما فتح عينيه ، وجد جسمه ممددا في غرفة العناية المركزة، والأنابيب تمتد حوله من كل جانب.  لمح حول سريره الممرضين والأطباء، وأخته الكبرى الحنون، وأخاه العطوف الحبيب. دمعت عيناه، وحاول أن يتكلم،ولكنه لم يستطع.

      مرّ يومان، وتحسنت صحته بعض الشيء ، ولكنه كان في صراع مع نفسه، بين عنصري الشر والخير،وتوصل إلى اعتراف صريح بخطيئته، وآثامه،وندم أشد الندم على ما فعله  بحق إخوته، وتوصل إلى قرار حكيم. طلب من أخيه ورقة وقلما، وكتب: سامحوني... أخطأت ... ستعود لكم العقارات والأراضي والأموال التي بسطت يدي عليها بالخداع والتزوير والكذب...!. كم كنت ظالما لكم يا إخوتي وأخواتي!. كم كان  لكم عليّ أفضالٌ ومآثرُ كثيرة!!. لم تقصرا ، في تعليمي والوقوف معي، في محطات حياتي كلها، وقابلت هذا الإحسان بالإساءة. الحمد لله على هذا الحادث القاسي الذي هزني، وأعاد لي ضميري الذي كان في غفوة، لأعيد لكم حقوقكم، وأبدأ حياتي من جديد.

13

      رغم سنوات عمره التي زادت عن تسعين عاما، وفقدانه لذاكرته، إلا أنه ما زال مواظبا على قراءة القرآن الكريم. نسي كل شيء... نسي كل منْ حوله، لا يعرف أسماء بناته وأبنائه وأحفاده، وحتى زوجته التي أمضى عمرا طويلا، وهو يعيش معها تحت سقف واحد، لا يدرك أنها انتقلت إلى رحمته تعالى ، قبل سنتين .

      رأيته وهو يجلس في سريره، ويفتح مصحفاً ذا حروف كبيرة، ويقرأ دون توقف. طلبت منه أن يقرأ السورة بصوت مسموع، ففعل،وكانت قراءته ممتازة وسليمة تماما من الأخطاء اللغوية والنحوية. أبناؤه البارون الذين يقدمون له الرعاية  قالوا: نسي والدنا الحبيب الحياة، وما فيها من حلاوة ومرارة، ومباهج وهموم،ولكنه ظل مواظبا على قراءة الذكر الحكيم، من خلال هذا المصحف الذي ظل رفيقا دائما له  منذ زمن طويل!!. فسبحان الله الذي دعانا إلى القراءة في أول كلمة نزلت على سيدنا محمد عليه السلام: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق )...!!.