أن تكون محررًا لغويًّا!بقلم:إياد الرجوب
تاريخ النشر : 2017-05-06
أن تكون محررًا لغويًّا!بقلم:إياد الرجوب


أن تكون محررًا لغويًّا!

إياد الرجوب 

إن الإطراء الذي كنت ألاقيه من الزملاء وأرباب العمل والأصدقاء والمعارف أثناء عملي في التحرير اللغوي خلال النصف الأول من سن التقاعد الحكومي، جعلني حتى اللحظة أشعر بالفخر بأنني محرر لغوي أكثر من أي فخر بأي شيء آخر، رغم انتقالي منذ أكثر من أربع سنوات للعمل بمجال آخر لا علاقة له باللغة أو أي من أخواتها.

وحتى هذا اليوم، فإن قلبي يتقافز طربًا لكل اتصال أو تواصل معي كمحرر لغوي، سواء من داخل الوطن أم خارجه، من أفراد أم مؤسسات، من مسلمين أم ديانات أخرى، وسواء للاستفسار أم الاستشارة أم العمل أم طلب المساعدة أو النصيحة اللغوية.... إلخ.

في التحرير اللغوي لا سلطان عليك إلا كفاءتك، فأنت الملك بلا منازع، تلعب بأركان دولة اللغة كما تشاء، تستبعد هذا الركن وتأتي بركن غيره، تؤخر العمدة وتقدم الفضلة، ترفع وتثبّت كما يحلو لك، تعزل من سياقك وزراء عفا عليهم الزمن وتضع آخرين جددا على كراسيَّ تليق بهم، تتلذذ بشطب "السلطة الوطنية" كاملة لترسِّخ مكانها "دولة".

أحيانا تغيّر التاريخ  فتقدمه أو تؤخره دون أي تردد، وأحيانا تعدل قوانين قديمة سها المشرّع الأول عنها فعدلها مشرّع تالٍ.

تحرك عاطفتك عبارة فرح لطيفة ظلت صامدة وسط فقرة مليئة بالحزن والعنف، فتمد يدك إليها برفق لتنقلها إلى نص يزهو بها، إلى حيث مكانها الطبيعي.

إذا لم يعجبك تبوء قائدٍ مقدمة ما؛ يمكنك وضعه في المؤخرة قبل أن يرتد إليك طرفك.

في التحرير اللغوي أنت تخرج من عباءة مكانك لتحلق في الأفق البعيد، فأنت تحرر ما بين يديك ليقرأه ذاك القائد أو الرئيس أو الملك أو الزعيم، ليقرأه ذاك الخطيب أو المعلم أو المذيع، ليقرأه ذاك الشاعر أو الناقد أو الكاتب أو الأديب، ليقرأه الناس جميعا.

أجمل ما في التحرير اللغوي هو أنه يجعل من التواضع صفة سائدة في ذاك المحرر الملك الذي لا سلطان عليه، ويخلق منه شخصية مكتفية بذاتها لا تبحث عن شهرة أو مكانة أو منصب، فقمة المتعة والفخر والشعور بالإنجاز والعظمة لدى المحرر اللغوي أن تنعته بأنه محرر لغوي وكفى، وكفاه فخرا في ذاته أنه كذلك، فهو يقرأ النصوص ويحررها قبل جميع الناس، وحينما يجلس بينهم ويراهم يستمعون لخطابات القادة أو خُطب الأئمة أو المرافعات أو عِرافات الاحتفالات أو التقارير المتلفزة أو نشرات الأخبار أو المسلسلات أو الأشعار أو الأغاني، أو يقرأون الكتب والصحف، حينها يشعر بالسعادة الغامرة ويقول في سره: هؤلاء كلهم يسمعون ويقرأون ما مر من تحت يدي، وحسبي بذلك فخرا.

حينما يسمع المحرر اللغوي إطراء الناس من حوله على قوة لغة ذاك الخطيب أو الزعيم أو المذيع أو الكاتب أو الأديب، .. إلخ، يشعر بالغبطة تغمره ويبتسم لنفسه ويقول في سره مرة أخرى: دعهم يفسرون الأمر كما يشاءون وينسبون قوة اللغة لمن سمعوه أو قرأوا له، فيكفيهم أنهم يجهلون سرّي في قوة تلك اللغة، ويكفيني أن ذاك القائد، أو الرئيس، أو الملك، أو الزعيم، أو الخطيب، أو المعلم، أو المذيع، أو الشاعر، أو الناقد، أو الكاتب، أو الأديب، كلهم يعترفون بأن تلك القوة في لغتهم التي حازت على كل ذاك الإطراء تعود إلى هذا المحرر اللغوي.