لا إبداع في ظل الدكتاتوريّة والمبدعون هم أبناء الحرّية وعشّاقها بقلم:د. كاظم ناصر
تاريخ النشر : 2017-04-20
لا إبداع في ظل الدكتاتوريّة والمبدعون هم أبناء الحرّية وعشّاقها بقلم:د. كاظم ناصر


المبدعون هم أبناء البشريّة جمعاء. وطنهم العالم بأسره، ألمواطن عندهم أخيهم الإنسان أينما وجد، رسالتهم إنسانيّة شموليّة لا تستثني أحدا، دينهم البحث عن الحقيقة والنطق بها والدفاع عنها، وهدفهم محاربة الجهل والظلم، وتغيير العالم وجعله أكثر إنسانيّة وازدهارا.
إنّهم يتجاوزون بتفكيرهم العصبيّات السياسيّة والدينيّة لأنهم أكبر وأعظم بعقولهم وأفكارهم من السياسة والسياسيين، وأكثر فهما لمعنى الدين والتدين من رجال الدين والمتزمّتين. الدين عندهم علاقة شخصية بين المؤمن وربّه لا يجوز لأحد أن يتدخّل فيها، ولهذا فإنهم يعتبرون إحترام الإختلافات في العقائد، والممارسات المقدّسة والعلمانيّة حق للكل الإنساني لا جدال فيه.
إنهم يقدّمون لمجتمعاتهم أفكارأ جديدة خلاّقة تتناقض مع مكوّناتها العلمية، والدينية، والسياسية، والثقافية. ولهذا فان أفكارهم غالبا ما تضعهم في مواجهة مباشرة مع القوى السياسية، والدينيّة المتخلّفة التي ... تدينن كل شيء وترفض التغيير ... حفاظا على مصالحها وامتيازاتها، وتحارب أفكارهم، وتعتبرهم خطرا يهدّد وجودها، وتعاقبهم بالإقصاء، أوالسجن، أوالنفي، وأحيانا القتل كما يحدث في الكثير من الدول التسلطيّة الديكتاتوريّة.
لهذا إحترمتهم وكرّمتهم كل الأمم، فدوّنت أسماءهم في تواريخها، وحافظت على أعمالهم الإبداعيّة واعتبرتها جزأ من تراثها الثقافي والحضاري .آلاف من هؤلاء الشجعان الذين ساهموا في تغيير مجرى التاريخ ورحلوا عن عالمنا منذ آلاف أو مئات السنين، ما زالوا يعيشون معنا بأعمالهم وأفكارهم النيّرة .إنهم بدون شك أبناء الإنسانية جمعاء، لأنهم علّمونا قيم الإيثار، وأناروا لنا طريق الحريّة والتقدّم والازدهار.
التاريخ يثبت أنه .. لا إبداع .. في غياب الحرّية والديموقرا طية. لو أخذنا الدول الديموقراطية الأكثر تقدّما في العالم كمثال على هذه الفرضية، لتبيّن لنا أنها حقّقت تقدّما هائلا في علومها وآدابها وفنونها وثقافاتها، وبنت مجتمعات حديثة عظيمة بعد ... دمقرطتها ... وحصول مواطنيها على حرّيتهم السياسيّة والدينيّة والتعبيريّة.
وإذا أخذنا جائزة نوبل التي تعتبر الأعظم في العالم لتكريم المبدعين كدليل على العلاقة بين الحرّية والديموقراطية والابداع ووجود المبدعين، يتبين لنا أن الأغلبية الساحقة من الذين حصلوا على تلك الجائزة كانوا من الدول الديموقراطية التي تحترم العقل والإختلاف في الراي، وتحمي الحريّة الفكريّة والمفكّرين، وتشجّع الأفكار الابداعيّة وتدعمها ماديّا وتقنيّا ومعنويّا .
ما يتبع يوضّح ما سبق ذكره بالأرقام : أي أنه من بين 900 عالم ومفكر حصلوا على الجائزة، فان الدول العشرة الأولى في العالم بعدد الحاصلين عليها هي : الولايات المتحدة 353، بريطانيا 125،ألمانيا 105، فرنسا 61، ألسويد 30، سويسرا 25، أليابان 24، كندا 23، ألنمسا 21، إيطاليا 20.
بإلقاء نظرة على تلك الأرقام، يتضح لنا أن جميع هذه الدول ديموقراطية ، وأن السويد التي لا يزيد عدد سكّانها عن عشرة ملايين نسمة قد حصلت على ثلاثين جائزة، وسويسرا ثمانية ملايين حصلت على خمسة وعشرون جائزة، بينما مصر بعدد سكان يزيد عن تسعين مليونا لم تحصل إلا على أربع جوائز، إثنتان منها .. مسيّسة .. نوبل للسلام منحت لأنور السادات ، ومحمد البرادعي ، وواحدة في الآداب حصل عليها نجيب محفوظ ، والأخرى حصل عليها محمد زويل في الكيمياء. أما العالم الإسلامي البالغ عدد سكانه مليارا ونصف، أي خمس سكان العالم، فكان ما حصل عليه 13 جائزة ، منها 7 للسلام أي أن ما حصل عليه العالم الاسلامي بأكمله أقل من نصيب الدنمرك التي يبلغ عدد سكانها أقل من ستة ملايين مواطن والتي حصلت على 14 جائزة.
تخيّلوا لو أن الدول الديموقراطية والصناعية الكبرى ألأكثر تقدما في عالمنا هذا، كانت دولا تسلّطية ديكتاتورية يقودها جهلة إستبداديون ألغوا العقول، وأقصوا المبدعين ونفوهم واضطهدوهم كما حدث ويحدث في الوطن العربي، ما الذي كان يمكن أن يتحقق؟ لو أن ذلك حدث، لكان العالم ما زال يعيش حياة مشابهة لحياة ما قبل القرون الوسطى بلا صناعة، ولا زراعة، وبدون تعليم وفن وشعر وآداب، ولكانت الكرة الارضيّة تشبه ما كانت عليه في القرن السادس الميلادي.
المبدعون جعلوا للحياة قيمة بتجديدها وتطويرها وأنسنتها. لقد أصلحوا الزمان والمكان، وغيّروا أنماط التفكير الإنساني بانتاجهم العظيم في المعارف، وجعلوا الحياة ممتعة ومثمرة وتستحق أن تعاش. لقد غيّروا العالم بعقولهم وتضحياتهم، وأثبتوا بانجازاتهم العظيمة أن البحث العلمي والتفكير الإنساني يجب أن لا يقيّد بحواجز سياسية، أو دينية، وإن الحرّية هي أساس التقدم والإزدهار والتغيير البنّاء لأنها للعقل كالأسجين لا يستطيع أن يعيش ويبدع وينتج بدونها.

شهد العالم الاسلامي خاصة في العصر العباسي تطوّرات علميّة وثقافية هائلة ساهمت مساهمة فعّالة في تطويره، وأثّرت في حياة وثقافات شعوب العالم في ذلك الوقت . لقد حدث ذلك لأن العباسيين، وعلى الرغم من خلافاتهم وصراعاتهم على السلطة والمراكز، إكتشفوا أهمية العلم القصوى في بناء الأمم، فشجّعوا الابداع وأكرموا العلماء وحموهم.
العالم بأسره كان رافضا للحرّية الفكرية في ذلك الوقت، وكان رجال الدين المتحالفين مع السلطات السياسية والمعادين لإعمال العقل يهيمنون على صناعة القرار السياسي والإجتماعي في دول العالم، لكن العبّاسيين كانوا الأقلّ ظلما، والأكثر انفتاحا وتشجيعا للعلم والعلماء وقبولا للتغيير الاجتماعي.
واقعيّتهم وفهمهم للإسلام في ذلك الوقت، وانفتاحهم على العالم وقدرتهم على التفاعل والتعامل معه، أتاحت لهم الفرصة للإستفادة من التراث العلمي والثقافي للشعوب الأخرى، وشجّعت العلماء في دولتهم على البحث العلمي والإبتكار، ومكنتهم من بناء دولة عظيمة إمتدت حدودها لتشمل أجزاء مختلفة من الكرة الأرضية. لكن هذه الدولة المترامية الأطراف، بدأت تنهارعندما زادت الصراعات بين حكّامهاعلى السلطة، وأقفلت باب الإجتهاد، وحاربت الحرّية الفكريّة، واضطهدت الأقليّات من أتباع الديانات الأخرى، وقتلت ونفت العلماء، وظلمت الناس، ونهبت ثروات الأمة.
ما يحدث اليوم في وطننا العربي من ظلم، وتخلّف، ودمار نتج بدون شك عن التسلط وغياب الحرية واليموقراطية . الانسان العربي لم يجرب الحرّية، ولم يعرف قيمها السامية وجمالها طيلة تاريخه . لو كان العربي حرّا في تفكيره، وسيدّا في وطنه، لما سمح لوضع غير إنساني كهذا أن يستمر .
غياب الحرّية قتل الإرادة الإبداعيّة عند المواطن العربي، وأذلّه، ودفعه إلى الاستسلام لجلاديه . وكما قال احد الحكماء" من الصعب جدا أن تحكم شعبا مثقّفا ومن السهل جدّا أن تحكم شعبا جاهلا ." الشعب المثقف يفهم ما يفعله الحاكم ويحاسبه على أخطائه، أما الشعب الجاهل فإنه لا يستطيع أن يكتشف أخطاء وتجاوزات الحاكم ليحاسبه عليها، ومن السهل جدا خداعه وتضليله بالأكاذيب والكلام الأجوف كما يحدث في عالمنا العربي الآن .
العربي يعيش في عالم إستبدادي لا علاقة له بالحرّية كما يفهمها العالم المعاصر. إنه مقيّد العقل ومسلوب الإرادة، ويعيش في سجون إسمها أوطان محاطة بعساكر ومخابرات الدولة وبأسوار من الجهل، والقهر، والفقر ! إنه يذكرني بحقيقة تقول إنه لا يمكن للإنسان أن يكون ... جاهلا وحرّا، أو مثقّفا وعبدا ... في نفس الوقت.