قراءة نقدية في نص " موناليزا" للشّاعر عادل إبراهيم حجاج
بقلم الناقدة: ياسمين الدرديسي
لقد باتت دراسة الأعمال الأدبيّة بشكل عام والنّصوص الشّعريّة بشكل خاص تسعى إلى فهم روح النّص الأدبي فهماً عميقاً يتجاوز شكله، متعمقا في دلالاته، كاشفًاً مكنوناته، فلا يأتي فعل التّأويل مجرد إسقاطات تحوم حول النّص، يبتدعها القارئ من مخيلته بصورة عفويّة أو طرق تقليديّة، وإنّما من خلال مفاتيح مهمة ورئيسيّة يلتقطها القارئ الواعي في ثنايا العمل الإبداعي، إما صريحة واضحة، وإما محجوبة مضمرة، ما إن يحاورها القارئ إلا ويتكشّف عنها اللثام مبدياً جمالياتها ودلالاتها وأسرارها.
بالوقوف عند الشّاعر عادل إبرا هيم حجاج ومحاولة قراءة نصّه " موناليزا" في محاولة لفهم أبعاده، والوصول إلى أعماقه، والوقوف على دلالاته القريبة والبنى العميقة نجده يشي بدلالات غائبة حاضرة في نصّه بداية من العنوان إلى الخاتمة، ولأن العنوان هو هوية النّص التي تشكّل وجوده، وترسم ملامحه، وممر العبور الحقيقيّ إلى النّص، فقد وسمّ الشّاعر نصّه بعلامة لا تمحى، وأثر لا يخفى، علامة عنوانيّة مميزة، استعارها من لوحة الرّسام ليوناردو دافنشي مصدر الإلهام والخصب، حيث الابتسامة الغامضة سر السّحر، وهنا يبدأ العنوان بطرح تساؤلات عديدة، من هي موناليزا الشاعر?وهل وجودها وجود بالقوة والفعل?وهل لهذه العتبة النّصيّة صلة بالدّاخل النّصي? فإذا ما حاولت العبور إلى النّص للوصول إلى مدى الاتساق بين عنوانه وفكرته برمتها، يستوقفك مدخل افتتاحي استهله الشاعر بالتّشبيه
"كأنّها الشّمس"
تجد فيه أركان التّشبيه حاضرة باستثناء وجه التّشابه بين موناليزا الشّاعر والشّمس، فالشّمس إشراق ووضوح وكشف وضياء، وموناليزا الشّاعر كذلك، لكن صورتها هنا جاءت مخالفة لصورة الشّمس المعتادة في الوصف، فما الذي غيّب بسمتها، وحجب سعادتها، مثلما تحجب السّحب شمس السّماء، تساؤلا نجد النّص يجيب عليه عند الولوج إليه، وبمواصلة فعل القراءة نجد الشّاعر يشرع في وصفها بما يثير في النّفس لواعج الحزن والألم، ويدمي الفؤاد من خلال تعاقب الأوصاف التي تمهد تدريجيّا في التّعرف على الموناليزا، فيذكر :
تقوس الحنين في وجنتيها
تخبو الأقمار في عينيها
مثقلة القدمين
غارقة في جروح ثكلى
فلم اختار الشّاعر هذا الوصف دون غيره،على الرغم من أنّها كما الشّمس تعكس نورا و تمنح حياة? هل لأنّها غارقة في جروح ثكلى بفعل قوة أكبر منها ولا تجد لها منصفا ولا طبيبا مداويا? أم لأنّها ضحيّة الظّلم والذّل والاستبداد والأحزاب? أم لأنّها طفولة مشردة معذبة تبحث عن أمل صعب المنال عندما قال:
خصلٌ مبعثرة تبحث أملا
أم هل للفقر الدّور الفعليّ الذي أصبح ملمحا بارزا في مجتمعنا، يتحكم بمصائر البشرية، ولا نستطيع محاربته، فكانت له اليد الطولى في تغييب البسمات عن الشّفاه، ليستقر الحزن والوهن بديلا عنها
قرط يترنح وحيدا
رفيقه قرّر الرحيل بلا عودة
ويستكمل الشّاعر المشهد القاتم الذي رسمه فيصل بنا إلى الابتسامة الغامضة الخجولة التي نقشها دافنشي بالألوان فجاءت محيرة ومميزة لها سحرها الخاص، بينما الشّاعر سطّرها بالحروف ليصنع لها الخلود بطريقة مغايرة، فغاية الفن واحدة، وإن اختلفت الأشكال فيقول:
ابتسامتها صبح خجول
تلك الابتسامة المشوبة بحزن دفين، تعكس جمال روح، ونقاء قلب، وصفاء سريرة،ابتسامة تذهل من يحاول تفسيرها، فليس هناك تفسير مقنع يشفي ويهدي حيرة السّائلين . وفي مشهد آخر جاء لقاء الشّاعر مع الحزن والألم لقاء عناق طويل، رسم من خلاله صورة للألم والأسى في أشد وأعنف صورها، فنجده يعيش حالات مختلفة توالت عليه، وجعلت منه فريسة لليأس والضّياع والحيرة، هي خفقان وأشلاء وسراب وجهد ومجاهدة وبكاء ونحيب وضعف وهشاشة قلب وخضوع واستسلام لمشاعر كادت تنال من قلبه، فيصف ثورة مشاعره قائلا :
خفقان يتسلل إلى حرفي
يبعثر أشلائي
أجاهد لأرفع رأسي
تكحلت أوصالي بالنحيب
قلبي أصبح أكثر هشاشة
وبملاحقة المعنى لاستكمال الصّورة نتوقف عند المشهد الأخير الذي يسدل فيه السّتار على بطلة قصته"الموناليزا" بنكران وجحود ما قد رأت عيناه من طفولة موؤدة لا تجد لها منصفاً ومدافعاً يلوذ عنها صفعات الطّغاة وسوط الجلاد، إنّه رفض لحياة ذليلة، وواقع ليس فيه حق لطفولة الأطفال، فيعلن براءته من المشاركة في قتل الإنسانيّة، ولا يترك باباً مفتوحاً للأمل، فالواقع أكبر من أن يغيّره بمفرده، فيواصل قائلا :
جف قلمي.... الورق لعنت
قبل أن أكتب السطر الأخير
أعلن براءتي من كل حرف
فهذه الخاتمة لا تناسبني
هنا اعتراف صريح يقره الشاعر بأنّ خاتمته لا تتناسب معه، كأني به أراد أن يقول أنّ رسالته عن الأمل والتفاؤل ومحاولة بعث الحياة لن تصل، فالضّحية يجتاحها الضعف ولا قوة لها، والجاني لا ينصت ولا يسمع، فيبقى الأمل حبيس الأمنيات. وفي نهاية هذه القراءة يمكنّني القول بأنّه لا يمكن اعتبار نص عادل إبراهيم حجاج مجرد كتابات أو إسقاطات على الورق، بل هي أكبر من ذلك، إنّها أفكار ورؤى وتجارب ورسائل تملك القدرة على الإصلاح والتغيير وخلق روح الأمل والتّفاؤل والمقاومة من أجل البقاء والحث على الثّبات والتّجذر وحب الحياة والتّشبث بها . بعد هذه الجولة في محراب موناليزا الشّاعر نخرج ببعض المقتطفات منها:
1- أحبّ الشّاعر الإنسان والإنسانية، فجاء شعره ملتزماً بقضايا المجتمع والإنسانية المعذبة لعله يستطيع أن يحررها من أسرها.
2-جاء العنوان محفزاً على مواصلة القراءة، مختصرا فكرة النّص، يعكس أبعاده ومراميه
3-_جاء الاستهلال محيراً، يستفز وعي القارئ، يحاور ويستثير أفق توقعاته بما يكتنف من دلالات غائبة تستدعي من القارئ الواعي استحضارها
4-جاءت الخاتمة مختلفة، خلت من الأمل في دلالة منه على تأزم الواقع، وصعوبة قدرة الفرد وحده على التغيير .
النص:
موناليزا.. .........
كأنها الشمس
تقوس الحنين في وجنتيها
تخبو الأقمار في عينيها
مثقلة القدمين
غارقة
في جروح ثكلى
خصلٌ مبعثرة
تبحث أملا
قرط يترنح وحيداً
رفيقه
قرر الرحيل بلا عودة
ابتسامتها صبح خجول
تعلق بشرفٍ مهجور
يرسم نحيباً حول عنقي
رفقاً إلهي
خفقان يتسلل إلى حرفي
يبعثر أشلائي
أتشبث بسراب غيمة
ترتل آياتي
بلا هدى
غرقت في حمقي
فقلبت كأسي
أجاهد لأرفع رأسي
تكحلت أوصالي بالنحيب
من يرد لي بصري
قلبي أصبح أكثر هشاشة
معلقاً
على طرف شِعري
كفرتُ
بنهدٍ يقطر خمرا
بشتاءٍ قد مر قهرا
جمعت صحف الناسكين
تباً لقد صليت
أميرتي
أعتذر منك
وسادتي تبللت بالدمع وجعاً
وتستدرجني لوثة عقلي
لأنكر ما رأيت
في أفنيتي مئة حلم
تحاصرني
وخطى هاربة تتوسدني
كلما حاولت الكتابة
تخثرت
جف حبري.. الورق لعنت
قبل أن أكتب السطر الأخير
أعلن براءتي من كل حرف
فهذه الخاتمة لا تناسبني
قراءة نقدية في نص " موناليزا" بقلم: ياسمين الدرديسي
تاريخ النشر : 2017-04-09
