ذُلَّ مَن لا سيفَ لهُ
بقلم/ شفيق التلولي
غزة لا تحتمل أي مناورات غير محسوبة ولا أي قرارات غير مدروسة؛ إذ أن ما أقدمت عليه الحكومة من قرار يقضي إلى تصفية رواتب موظفي غزة لا يضر بأُسرهم فحسب، وإنما يُطال الحياة الغزية برمتها؛ حيث تعتبر الرواتب عصبها وسر صمودها العصيّ عن الإنكسار أمام كل محاولات سلخها عن الوطن.
فغزة التي وقفت أبية ضد كل مشاريع التشظي والإنقسام وأبت إلا أن تكون جزءاً أصيلاً من الوطن على الرغم مما تعرضت له من كل أشكال الظلم لا يُعقل أن تُغتال بسيف الراتب وتحت حجج غير منطقية ربما تحمل نوايا أخرى لا يُحمد عقباها.
إن الرابح الأكبر في هكذا قرار هو الإنقسام وما من الممكن أن يترتب عليه من نتائج؛ فهو بمثابة إلقاء قنبلة قد تنفجر في وجه الجميع، وربما يؤسس للتخلي عن المسئولية الوطنية تجاه غزة؛ وبالتالي يُسهم في تقويض المشروع الوطني الفلسطيني ويُذكي روح الإنفصال.
كما وأن هذا القرار يُضر بحركة فتح ويضعها في موقف لا تُحسد عليه، ولا نظنها تقبل بذلك مطلقاً؛ لا سيما وأنها رائدة المشروع الوطني الذي دفعت من أجل الحفاظ عليه ما دفعت في كل مكان وخاصة في غزة التي ما زالت تذود عن حياض شرعيتها.
وعليه فإننا نناشد السيد الرئيس الإيعاز لرئيس الوزراء وقف هذا القرار فوراً وعدم العودة إلى مثل هكذا قرارات تنال من حقوق الموظفين التي كفلها القانون.
لست مع أن تكون الإستقالات من أطر حركة فتح أولى الخطوات الإحتجاجية كردة فعل على القرار الظالم القاضي باقتطاع رواتب موظفي غزة على طريق تصفيتها؛ فثمة الكثير مما يمكن أن تفعله أطر الحركة عوضاً عن استقالتها مبكراً.
إذ أن هذه الإستقالات لا تعتبر حلاً، كما وتُعفيها من وجوب مواجهة هذا القرار، وهي أقصر الطرق وأسهلها للتنصل من المسئولية المترتبة عليها لإسقاط هذا القرار الجائر؛ فالإستقالات عادة ما تأتي في خطوات لاحقة حال عجزها عن تحقيق ما ناضلت من أجله ولم تحرزه.
ونُذكر بأن حركة فتح ليست الجهة التي أصدرت هذا القرار ولن تكون كذلك، إنما حكومة وفاق الشاطئ المفترضة ومن أسهم بذلك، الحكومة التي فشلت منذ لحظاتها الأولى في بسط شرعيتها وإعادة غزة إلى حضنها، واليوم تتوج فشلها بالقائها بعيداً وكأنها لقيطة أو دخيلة على الجسد الفلسطيني.
صحيح بأن الدور الأكبر مُلقى على عاتق حركة فتح التي اختارت الدفاع عن حقوق موظفي غزة من التغول والإستلاب على اعتبارها تمثل أساس الفعل الفلسطيني واجتمعت على التصدي لذلك القرار المجحف.
لكن هذا لا ينفي دور الكل الوطني بعيداً عن التجاذب الجهوي والفصائلي، وفي هذا السياق نقدر أصوات الأصدقاء الذين خرجوا عن صمتهم في ضفتنا الفلسطينية وعبروا عن رفضهم شطب رواتب غزة آملين أن تزداد ليعلو الصوت.
إن مسلسل تصفية رواتب غزة قضية وطنية ذات تداعيات إنسانية وسياسية كبيرة تفرض على الجميع مواجهتها بحكمة واقتدار على قاعدة:
"درء المفاسد أولى من جلب المصالح"
أمس التقينا بعد عشرة ويزيد، رأيتُ في عيونهم حسرة، أحسستُ بالألم الذي يملأ قلوبهم، شاخت وجوههم واشتعلت رؤوس بعضهم شيباً، وآخرون غزى لحاهم، وغاب من بين صفوفهم الشباب الذين طحنتهم ماكنة البطالة وعدم فتح فرص العمل وحقهم في الوظيفة العمومية.
يا الله أين ذهبت أعمارهم التي أفنوها دون التدرج في سلم ما يستحق هذا العمر؟! ويا لهذا التوحش والقتل الذي طالهم دون رحمة حينما نُزع عن أنوفهم خرطوم الأكسجين في جريمة منظمة؛ لتجري عليهم تجربة الموت البطيء خارج غرف الإنعاش.
عشرة أعوام ويزيد وهم رواسي لا تميد؛ تعرضوا لما تعرضوا له؛ لم يساوموا أو يقايضوا وانزرعوا في هذه الأرض؛ دفاعاً عنها من جنوبها إلى شمالها وليحافظوا على كامل ترابها من التفكك والإندثار؛ واليوم أدركوا بأنهم كانوا في غيبوبة عميقة على الرغم من كل ما قدموه من انتصاراً لشرعية الوطن الواحد.
جاءوا إلى ميدان الجندي المجهول بغزة يرفضون التخلي عن حقهم في الوجود على هذه الأرض الطيبة المباركة كرماء لا أذلاء، يطالبون بعودة ما اقتطع من رواتبهم ظلماً لصالح خزينة مالية حكومة الوفاق الوطني والتي يجب أن تمثل غزة والضفة الغربية والقدس لا أن تمثل جهة بعينها؛ وتدريجيا تمسح من سجلاتها موظفي قطاع غزة بعد نفاذ قرار الإستقطاع الجائر الذي أكل رواتبهم.
غداً لنا موعد آخر في ذات المكان وسينطلق هؤلاء الموظفون وأسرهم من رفح حتى بيت حانون وصولاً إلى ميدان الجندي المجهول بغزة وسيستمرون في هذا الحراك؛ حتى نيل حقوقهم وسيسقطون كل محاولات الإنفصال عن هذا الوطن رافضين تعزيز وتكريس ثقافة التجزئة الجغرافية والحسابات الجهوية؛ ليسقطوا أربابها ومن ينادي بها.
وإلى أن يأتي يوم غدٍ؛ اقرعوا الأواني والأطباق والطناجر الفارغة، إقرعوها في بيوتكم وفي الشوارع والطرقات، لا ترتدوا بزاتكم العسكرية ولا ياقاتكم البيضاء، لا تقصوا أظفاركم؛ فما حك جلدك غير ظفرك، أسقطوا الإنقسام وانتصروا بالوطن للوطن، كونوا سيفاً مسلطاً مشرعاً يأبى الذل والهوان.
لا تقتلوا غزة مرتين.. ما ضاع حق وراءه مطالب، والسلام على من حفظ الوطن.
ذُلَّ مَن لا سيفَ لهُ بقلم شفيق التلولي
تاريخ النشر : 2017-04-08
