قـراءة في أدب الطاهر بن جلـون - 2 بقلم: خالـد امشـوف
تاريخ النشر : 2006-04-23
قـراءة في أدب الطاهر بن جلـون - 2 بقلم: خالـد امشـوف


يتناول من المواضيع أشدها غرابة وأقربها الى المجتمع, يتحدث في " موحا الأحمق, موحا الحكيم " عن شخصية يختلط فيها الجنون بالحكمة, شخصية تنتقد الواقع وتكشف عن عيوبه, تتحدث بصدق وأمانة لدرجة نعتها بالجنون الذي لم يكن في الحقيقة سوى جرأة كبيرة في التعبير عن واقع الحال. فموحا إذن ربما كان تلميذا لعبد الرحمان المجدوب أو ترجمة أخرى له.

لايتقيد بن جلون بنسق معين في رسم معالم أبطال روايته, وإن كان يتشبت بالتركيز على الوسط الذي يجلبهم منه, يربطك بخيط من الأحداث ثم يسحبك الى عوالمه التي شكلها بحرفية أدبية شيقة.

في " ليلة الخطأ " تكلم عن مغرب آخر, عن جانب يكتنفه الغموض وتلبسه الغرابة, جعل من زينة نقطة تقاطع فصول روايته, كان يوم ولادتها هو يوم وفاة جدها, الذي رفض مباركة المولودة وفضل الرحيل الى العالم الآخر, كان يوم حزن أكثر مما هو يوم فرح. جاءت زينة الى الدنيا وهي تحمل شرارة الإنتقام بين عينيها, حلت كلعنة مسلطة على كل الرجال, أقسمت أن تنتقم ليلة الشأم, ليلة الخطأ.

في رواية " الصديق الأخير " تكلم عن الصداقة الأفلاطونية التي جمعت صديقين لمدة ثلاثين سنة, علاقة بريئة وقوية في وجه الزمن رغم إكراهات الحياة, لم ينل منها الرحيل والإغتراب الذي عاشه محمد كطبيب عضو في المنظمة العالمية للصحة, التي فرضت عليه الإستقرار في السويد, وبقاء علي وفيا للمغرب حيث يدرس مادة التاريخ والجغرافيا, بل إزدادت علاقتهما قوة وصلابة, ليأتي المرض اللعين ويصيب رئتا محمد بالسرطان, فيقرر قطع علاقته بصديق عمره علي, حتى يبعده ويجنبه الأحزان التي حتما ستعصر قلبه, وربما الى آخر قطرة دم فيه, فهو يعرف مدى الحب الذي يكنه له, فيفتعل خصاما ويقطع كل صلته به وقلبه يموت حزنا وألما على صديق وفي لن يجده بجانبه وهو ينتهي وينهي معه صداقة مثالية رافقته طيلة سنين عمره, لكن حبه له وخوفا من تعريضه لصدمة قد تأثر على صحته, دفعه الى الإعتزال في غرفة حزينة وسرير بئيس وسط أدوية كف عن تناولها لعدم جدواها, آخدا ورقة وقلم ليكتب آخر كلماته لعلي معتذرا عن إساءته له. يبقى الأسلوب المتميز العامل المشترك الذي يتكرر من خلاله الطاهر بن جلون في كل أعماله, يتقمص دور الراوي بشكل جميل, يتحدث عن كل شيء وفي كل شيء, يوزع أفكاره وآرائه على كل المواضيع, لايكف عن إستعراض ثقافته الأدبية وحبه الشديد للسينما, يتحدث عن الجنس بلا حرج, يحكي بكل بساطة لا يجبرك على سمع ما يقول أو قراءة ما يكتب, فهو على العموم لا يتكلف ولا يتصنع.

لم تغير " صلاة الغائب " من إتجاه الطاهر بن جلون الأدبي في شيء, فهي, على العكس من ذلك, تعبر عن السمة الخاصة والطابع الغالب على جل الأعمال التي ميزت طريقة كاتبنا في الحكي, حيث إستسلم لمخيلته وأطلق العنان لقريحته في نسج الأحداث والوقائع من أجل إمتاع القارئ وسحره.

وجد نفسه مضطرا بخوض الحديث في موضوع ليس من صلب إختصاصه, لكنني أعجبت بنقاشه, فقد بدا مستغربا نوعا ما من سؤال إبنته الصغيرة عن الإسلام, وما سر علاقته بالإرهاب, حتى أنها فكرت في التمرد على تعاليمه قبل أن يتدخل ويشرح لها المفهوم الحقيقي للإسلام. شروحات ومفاهيم جمعها بعد ذلك في كتاب أسماه " شرح الإسلام للأطفال ". تعرفت من خلال هذا الكتيب على الجانب الديني والعربي من حياة الطاهر بن جلون, فثقافته لم تترك مجالا إلا ونهمت منه ما يكفي لإرواء عطش السائل, لم يتكلم عن الإسلام فحسب بل تطرق أيضا للعصور الذهبية للأمة العربية وما أفادت به الغرب في مختلف العلوم, تكلم عن إبن سينا كأول طبيب مارس الجراحة وعن علومه التي ظلت تدرس في الجامعات الأوربية حتى آوائل القرن السابع عشر, وعن إبن خلدون مؤسس علم الأجتماع ومقدمته الشهيرة..., وعن اللغة العربية ومساهمتها في إغناء لغات أخرى من خلال مصطلحات وكلمات تدل على أصولها العربية.

شكلت رواية " حرودة " نقطة إنطلاق إبداع بن جلون, كما شكلت بداية إعلان ثورته ضد الطابوهات, فقد كشف بها المستور من خبايا عالم المرأة وتمرد على العادات والتقاليد التي يفرضها هذا الوسط, كان ذلك غريبا على القارئ وهو يرى الكلمات تلتهم كل ناحية من جسد المرأة في فترة السبعينات, كانت بداية صعبة غامر فيها بمستقبله الأدبي الذي لايزال آنذاك جنينا يحتاج الى قارئ متفهم ليخرجه الى حيز الوجود. ثارت غيرة القراء الذين ينحدرون من نفس الوسط الذي جاءت منه حرودة بطلة القصة, منادين بخيانة الأمانة الملقاة على عاتق الطاهر بن جلون كأديب مغربي وعربي, فقد كان لابد من موضوع كهذا لإخراج الرواية من طابعها التقليدي, ولإخراج القارئ من برجه العاجي.

يرجع الفضل للكاتب الطاهر بن جلون في رفع الحصار عن العديد من المواضيع التي لم تأخد حقها الكافي في التعريف بها, كما يرجع له الفضل في إزالة الغموض الذي إكتنفها والشوائب التي ظلت عالقة بها بتلميع صورتها و إعادة إنتاجها بشكل أدبي جميل أعاد الإعتبار إليها.