الحالة السياسية الفلسطينية مناكفات وعثرات وتساؤلات لا تنتهي بقلم:د. أحمد يوسف
تاريخ النشر : 2017-03-20
الحالة السياسية الفلسطينية مناكفات وعثرات وتساؤلات لا تنتهي بقلم:د. أحمد يوسف


د. أحمد يوسف

من هو الذي يجب أن يلام فيما بلغته حالتنا على الساحة الوطنية من آلام؟! هل هو الرئيس محمود عباس أم هي فتح الكبرى أم التيار الإصلاحي – كما يحب أن يُعرف  - التابع للنائب محمد دحلان، أو حركة حماس أم هو الشعب الذي أناخ الفقر والجوع وتسلط الأجهزة الأمنية كبرياءه، وأصبحت تحصى عليه الأنفاس والكلمات؟!

لن نختلف على أن الاحتلال هو من يتحمل – بجوهر الأشياء - الكثير مما آلت إليه حالتنا السياسية من تراجع ووهن وإفلاس، حيث إن دوره هو أن يبقينا مشتتين بلا إحساس، يلعن بعضنا بعضاً بوقاحة وإسفاف، حتى أن أحدنا لم يترك لمناضلٍي الطرف الآخر عِرضاً سليماً من الأذى أو حُرمة أو تاريخ!!

إذا راجعت حركة حماس وحاولت رصد مواقفها وتصريحات قادتها فإنك لن تعدم كلاماً طيباً يقال باتجاه المصالحة ورغبات تحقيقها، كما أن من يقرأ سطور تصريحات بعض هؤلاء القادة لن تعجزه الحيلة في الوصول إلى تحليلات أنهم لا يريدونها، وأنهم يبيتون للاستقلال بقطاع غزة، ويرسم لك ملامح لدولة غزة التي يعتقد بأنها قادمة، ويحاول شطب كل النيات الطيبة والكلمات الأمينة والصريحة بأن مشروع حركة حماس التحرري لا معالم فيه لتلك الدولة، وهناك عشرات التصريحات وعلى كل المستويات أن "لا دولة في غزة، ولا دولة بدون غزة". ولكن بسبب حالة الاستقطاب والخلاف المستشري، يصبح الموقف "لقد أسمعت لو ناديت حيَّاً".

وبالمقابل، إذا تتبعت تصريحات فخامة الرئيس والناطقين باسم حركة فتح وما تقوم به حكومة الحمدالله، وصلت إلى ذات القناعة حيث تتناكر المواقف وتتعدد معانيها في سياقات غياب وحدة لها أو اتفاق على الشكل الذي يجب أن تخرج عنه. فأنا كحمساوي لطالما امتدحت ما في توجهات البعض من إيجابيات بالرغم من أن الرؤية لدي أن إخواننا في حركة فتح لا يريدون مصالحة ولكنهم يراهنون على انهيار حركة حماس، من خلال تركها تواجه مصيرها الذي يفرض كارثيته الاحتلال والحصار والانقسام، ولطالما سجلت عتاباً على الرئيس أبو مازن كونه كبير العائلة الفلسطينية، وراعي مسيرة شعبنا، والذي بيده كل مفاتيح الحلول، وهو من ننتظر بحكمته ونباهته السياسية أن يقودنا إلى المحجة البيضاء، والتي توافقنا عليها في وثيقة الوفاق الوطني، ولكن - للأسف - كانت خيبة الأمل هي ديدن ما نحن عليه كفلسطينيين سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية.

لا شك أن الشارع له دهشته التي تعبر عن صدمته من غياب القدرة على التوافق بين جميع فصائل العمل الوطني والإسلامي على أجندة وطنية ملزمة للجميع، بالرغم من إعلان موسكو الذي تمَّ التبشير به؛ وأنه خلال ساعات سيذهب الجميع للرئيس بهدف الإعلان عن حكومة وحدة وطنية.. وفجأة توقف الحديث عنه، ولم نسمع أحداً يعقب، وكأن شيئاً لم يكن!! 

اليوم، ومنذ أكثر من شهرين، ونحن لا نسمع أو نشاهد إلا فعاليات يقوم بها النائب محمد دحلان والتيار الإصلاحي التابع له، وبغض النظر عن موقف حركة حماس، فإن هؤلاء الإخوة من حركة فتح هم من أكثر الفاعلين حراكاً لإعادة بناء وهيكلة حركة فتح في قطاع غزة، والسبب كما يطرحه قيادات ونشطاء هذا التيار هو عملية الإقصاء والتهميش الذي تعرضوا لها من جهة عناصر متنفذة محسوبة على الأخ الرئيس أبو مازن.

نعم؛ كنا نسمع عن فصل عناصر وقطع رواتب وملاحقات للبعض بدعوى أنهم محسوبون على النائب دحلان، الأمر الذي أدى إلى تشكيل تيار غاضب من هذه السلوكيات مع عجزٍ للمحكمة الحركية من معالجة ذيول هذه القرارات، التي اعتبرها البعض جائرة، ولا تعكس إلا حكم الفرد وتسلطه.

بصراحة، هناك ما يبعث على القلق من تداعيات هذا الخلاف بين الرئيس ودحلان، حيث عجزت أطراف وازنة داخل فتح من معالجته، كما أن الرباعية العربية لم تتمكن هي الأخرى من وضع حدٍّ له من أجل مصلحة الحركة، بل ترتب على هذا الإخفاق توتر علاقات السلطة والرئيس أبو مازن مع أطراف هذه الرباعية وخاصة مصر والإمارات وربما السعودية كذلك.

وعليه؛ فإن يأس حركة حماس من التواصل والتوصل إلى مصالحة حقيقية مع الرئيس وحركة فتح التي يقودها، وتراجع منسوب الثقة به وبمن حوله، يدفع حركة حماس إلى أن تفتش لها عن بدائل وخيارات أخرى، بهدف إيجاد شركاء لتقاسم أعباء ما يتعرض له قطاع غزة من ظروف صعبة، كرَّسها الحصار الظالم المفروض على ساكنيه من ناحية، إضافة إلى ضعف الفرص والامكانيات التي يواجهها الكثير من أبنائه، بسبب البطالة وعدم القدرة على السفر عبر مصر للبحث عن أماكن عمل أخرى في الدول العربية والغربية من ناحية ثانية.

وإذا أخذنا أيضاً خيارات دحلان والتيار التابع له في الحسبان، وجدنا أن القطيعة قد أوصلها الرئيس بشكل شخصي إلى الحالة التي يمكن القول معها أن "لا تلاقيا".. الأمر الذي اضطر قيادات هذا التيار للبحث عن فرص للقاء مع حركة حماس؛ الخصم الأشد والمأزوم مثلها، حيث بالإمكان مع بعض التفاهمات والتنازلات جبر الكسر التاريخي بينهما، وهذه مسألة غير مستحيلة، ويمكن الوصول إلى تفاهمات وتسويات يجتمع معها الطرفان "الشتاتين" بعدما ظنا أن لا تلاقيا.

من هنا؛ يمكن فهم طبيعة هذا الغزل القائم والقاءات التي تجري على الملأ وخلف الكواليس بين الطرفين، والتي توحي بأن خطوة كبيرة قد تتحقق، من أجل خاطر عيون شعبنا العظيم، وبهدف تخفيف الحصار عنه، وإيجاد أجواء أفضل لأبنائه.

رسالتنا لفخامة الرئيس: الطبيعة لا تقبل الفراغ

من المعروف في عالم السياسة وأدبيات الحكم والعلاقات الدولية بأن "الطبيعة لا تقبل الفراغ"، سواء أكان هذا الفراغ جغرافياً أو سياسياً أو حتى اجتماعياً.. لذلك، فإن كلاً من تيار دحلان وحركة حماس مع غياب وجود السلطة ودورها في قطاع غزة، كان لا بدَّ لهما أن يلتقيا، وأن يتبادلا إشارات تطمينية مفادها "يا جماعة ملناش إلا بعض".

 ففي لقاء ربما هو الأول من نوعه، والذي جمع عدداً من القيادات الشابة والمخضرمة للطرفين - بشكل غير رسمي - قبل عدة أيام، حيث تمَّ تبادل وجهات النظر حول ما يمكن عمله للتسريع في اتخاذ خطوات عملية لبناء الثقة واجتماع الشمل، وقام كل طرف بتقديم تصوراته وبصورة أقل ما يقال فيها أنها إيجابية وتعكس رغبة الجميع العمل على تخطي الأزمة القائمة أو المأزق الذي أوقعنا فيه أنفسنا وقضيتنا، لعجز القادرين من كلٍّ منَّا على التحرك وإدراك التمام.

صحيحٌ، أن لكل منا حساباته ومخاوفه التي عبر عنها، والتي سيتم امتحانها عند التطبيق، ولكن هذا توجس وقلق مشروع، حيث إن كلاّ منا لم يختبر مصداقية الآخر، وأثر فؤوسنا لم تزل علاماتها على الرقاب منذ يونيه 2007، ولم نتسامح ونتغافر بعد، ولم تأخذ العدالة مجراها في تسوية الكثير من المظالم، وترضية أصحاب ولاية الدم،  فالحاجة ماسة اليوم لأن نمضي في البحث عن طريقة لتوفير المال لتحقيق المصالحة المجتمعية، وطي هذا الملف والتفرغ للمواجهات الحقيقية التي تتطلب وحدتنا وحشد طاقات الجميع بما في ذلك إخواننا في رام الله، حتى وإن بدت المصالحة عند البعض منهم أنها ليست أولوية!!

سؤال الحال: لماذا كل هذا التشنج والغثيان؟! 

في ظل واقعنا المأزوم والمنقسم على نفسه سياسياً لن يشعر أحدٌ منا بالراحة، ولن تكون أحوالنا بخير، وكما يقول المثل: "لا مع سيدي بخير ولا مع ستي بسلامة"!!

فإذا تحدث الواحد فينا بلغة فيها ذكرٌ حسن على بعض مواقف الرئيس (أبو مازن) خرج من يمدحك، وكذلك من يلعنك!!

وإذا ساقك القلم أو مشهد عشت فعالياته لأن تذكر موقفاً أو نشاطاً لدحلان أو تياره "الإصلاحي الديمقراطي" كما يطلقون على أنفسهم، جاءك من يعقب بإعجاب ويقدم الثناء، وكان على الجانب الآخر - بالطبع - من بسفاهته ووقاحة لسانه لا يبقي لك ذكرا!!

نعم؛ نحن نعاني من حالة استقطاب قوي ومشين، وهي تفرض عليك – أحياناً - أن تأخذ جانباً، وإذا أردت أن تتكلم أن تميل لجانب معين، وألا تخرج عن حالة الولاء والبراء التنظيمية، فالمطلوب منك على رأي حكماء الأمس "إن شئت أن تحيا سليماً من الأذى، وذنبك مغفور وعرضك صيّن"، أن تحفظ لسانك؛ أي أن تبقى صامتاً أو إمَّعة بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ، ودائماً إلى جانب القبيلة، بالشكل الذي عبر عنه دريد بن الصمة: "وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشد"!!

لقد وقفنا مع الرئيس (أبو مازن) عندما توجه لمجلس الأمن عام 2011، وامتدحنا تلك الخطوة، وتعرضنا للهجوم من أعز إخواننا، ثم وقفنا خلفه في العام الذي يليه عندما عاود المحاولة في الجمعية العامة. والمفاجأة، أننا كنا جميعاً متفقين حول الخطوة؛ نحن وأولئك الذين سلقونا بألسنة حداد في العام الذي سبق!! وتحملنا وقلنا إخواننا بغوا علينا، فالسياسة هكذا تختلف فيها المواقف وتتناكر الاجتهادات، ولكنها ليست قطيعة دائمة.

اليوم، إذا قلنا شيئاً بحق بعض مواقف الرئيس لم يعجب بطانته، قامت الدنيا ولم تقعد، أما إذا أخذتنا هذه البطانة أو الرئيس في اتجاهات لا نعلمها نحن ولا شعبنا، وامتلكنا جرأة السؤال، عاب علينا هؤلاء كيف نتطاول على فخامته؟!!

فهل محظور علينا التعاطي مع علامات التعجب والاستفهام التي تثيرها بعض المواقف، وهل محرمٍ علينا طرح السؤال على من هم في رأس هرم السلطة والمسئولية حول ما يحدث، ولماذا يحدث؟ وهل الأدب هو التزام الصمت، وتحمل عدم تلقي الجواب، الذي يبل الصدى ويشفي الغليل!!

فهل الرئيس هو في مقام "لا يُسأل عما يفعل"؟!!

مالكم كيف تحكمون!! أليس من الحكمة أن نبني دولة المؤسسات، وأن نعزز قوة الرئيس بحكم الشعب، الذي جاء به لسدة السلطة وصدارتها!! إن احترامنا لموقع الرئيس ومكانته أن ننصح له بأمانة، للقيام بالتحرك السديد واتخاذ الرأي الرشيد.

وإذا قمنا أيضاً من باب الأمانة بالتعقيب على مبادرة أو فعالية أو مؤتمر صحفي للنائب محمد دحلان، وهم خصم سياسي لنا وللرئيس، في موقف وجدنا فيه أنه يستحق الشكر وتقديم الذكر، لم ترحمنا التعليقات وألسنة البعض من هذا الطرف أو ذاك!! والسؤال: هل علينا أن نغض الطرف عن ذكره؛ لأنه يقع في دائرة الخصومة السياسية لنا وللرئيس!!

إن ما تربينا عليه كخلق إسلامي أن نقيل لذوي الهيئات عثراتهم، كما أن قاعدة العدل الإلهي تقتضي أن تكون أحكامنا على المواقف والتصرفات "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا"!! وأن نراعي من أجل المصلحة العامة العفو عما سلف.

نعم؛ النائب محمد دحلان هو خصم سياسي لنا، وكانت له في شبابه أعمال يعتبرها البعض طائشة على مستوى الخطاب والممارسة، وهي بحاجة إلى مراجعة ومحاسبة، كما أن هناك في إطار الحملات الإعلامية الكثير من أشكال التشهير به والتحريض عليه، ولكن هذه المشاهد والاتهامات على قوائمها الكثير من القيادات والكوادر من كل الأطراف، وهي تتطلب منصة للعدالة والقضاء لتسويتها، وليس تنصيب الخصم وحده حكماً، أليس ميزان العدل في ظل الخلاف والاستقطاب يستدعي "حكماً من أهله وحكماً من أهلها".

إن مواقفنا يجب أن يحكمها مشهد الرؤية والراية الحق "وما شهدنا إلا بما علمنا"، بحيث لا نجامل أحداً أو ننافق لمصلحة أحد، والابتعاد عن تقديم الرأي طمعاً في ذهب المعز أو خشية سيفه، وألا نخشى في قول كلمة الحق لومة لائم.. هكذا كنا، وهكذا عقدنا العزم أن نحيا وأن نموت.

لم يبق في العمر ما يجعلنا نبحث عن "لعُاعات الدنيا"، حيث أبصارنا معلقة بالسماء ودعاؤنا "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة"، فليس لنا حاجة عند دحلان ولا الرئيس أبو مازن ولا حتى عند هنية أو خالد مشعل، وكل ما اتقدم به من اجتهادات القلم ووحيه إنما هو من أجل هذا الوطن، ومصلحة هذا الشعب العظيم، وأرضنا المباركة، ومن وجد غير ذلك، فليراجعنا ويقرع بما عنده من حجة وبيان صروحاً بنيناها من المصداقية والأثر.

نحن نعلم وكما قال ابن حزم الأندلسي: "من تصدّر لخدمة العامة فلا بدَّ أن يتصدق ببعض من عِرضه على الناس؛ لأنه لا محالة مشتـوم، حتى وإن واصل الليل بالنهار". ولقد تربينا أن نقول كلمة الحق، وأن نجهر بها بأسلوب حسن، وأن يكون شعارنا هو كلام الشريف الرضي: "يصول عليَّ الجاهلون وأعتلي".

إن سعادتي وقرَّة عيني أن أرى هذا الوطن وقد اجتمع شمله وتوحد أهله، وعلا مشهد الحكم والسياسة فيه من انتظرناه من أصحاب الحكمة والقدرة وطلة الرجل الرشيد.