أنور الأسمر ... يبكي نصف الكلام
سلطان الخضور
لم تتملكني الحيرة كعادتي حينما أكتب في موضوع له علاقة بالأدب .لا لشيء , إلا لأني أؤمن أن شخصية الكاتب " المؤلف "جزء أساس مما سأكتب . لكني أؤمن أن شخصية الناقد أيضا يجب أن تظهر من خلال من خلال وجهات نظره فيما ينقد . وقد سعيت في هذا العمل أن أرسم المعاني كما أفهمها . وقديما قيل , أن المعنى يبقى في بطن الشاعر .
كنت سعيدا وأنا أستمع لبعض من اشعاره , جذبتني مفرداته ,وبت جالسا فاغرا فمي , لا أقوى حتى على الهمس, وانتابتني نوبات من السكون , فسكنتني كلماته وأحترت ... بين البحث في مراميه وبين متابعته . ففاتني الكثير مما قيل . ولما كان يقول شعرا , وجدتني أمام شاعر محمود في هيئته وفي أدائه وحسن اختياره للكلمات التي ميزتها وحدة الموضوعية التي صبت في الهدف . شاعر بارع في رسم لوحات فنية , سحبتني بتلقائية من حيث لا أدري , فكان من الصعب علي التنقل في فصول حدائقه وفيافيه .
وأنا استمع للشاعر الأسمر , كانت صورة الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش بهيأته وهيبته وأدائه , تقفز أمام ناظري.
ولأفهم سر البكاء, وحتى أتحقق من انطباعاتي , ولأني شعرت أن الرجل , إما أن كل لوحة من لوحاته تجسد واقعا معاشا , أو ترسم قطعة يتخيلها عن المستقبل., قررت الدخول إلى حديقته الغناء من خلال بوابة فتحها أخيرا على عالم الشعر, وأطلق عليها " بكى نصف الكلام ".
أستوقفني حارس حديقته وهو يطل بعينه التي ظهرت غير مكتملة الرؤيا على كل من يحاول الدخول , لا ليتفحص الغرض من الدخول إلى " بكى نصف الكلام " ولكن ليعطي لغزا على من يزور حديقته أن يحله. وحين أطللت عليها من النافذة توقفت وتفحصتها مليا . وجدت اللغز في عدستها وفي الضبابية التي حسبتها غيمة رسمت عليها , لتحجب جزءا من رؤياها . فتلك العين التي وقفت على باب ديوانه الجديد لا تتملك كامل الرؤى. وأظن الأسمر محق في اختياره لصورة الغلاف التي تماهت مع ما كان قد زرع في حديقته الجديدة , ومع اللافتات التي تربعت على قمة زهراته السبعة عشر. تلك العين التي ارتسمت - وأقول ارتسمت - لأنها فرضت نفسها , وشعرت أنها هكذا يجب أن تكون , لأن شاعرنا يرى ضبابية في المستقبل , فلم تعد الرؤى تفاصيلها واضحة , لا لعين الغلاف ولا لعين الشاعر الحقيقية . فلا يمكن للأسمر ولا لغيره أن يدعي أنه يمتلك كل الرؤى , لأن من يمتلك كل الرؤى بتفاصيلها يمتلك الحقيقة , والحقيقة كما نعلم جميعا تغيب في كثير من الأحيان وتغيب " بفتح الياء وتشديدها " أحيانا أخرى . ونحن بطبعنا كبشر , لا نرى منها إلا ما قدر لنا أن نرى . لأن هناك من يحجب الرؤى وبالتالي يحجب جزءا كبيرا من الحقيقة , سواء ما يصنعه الله أو ما هو من صنع البشر .
بكاء الأسمر كان بكاء جادا تمثل في صورة الغلاف وفي عنوان الديوان وفي نصف العناوين وحتى إهداؤه الموجه لي كقارئ لم يخلو من البكاء , فقد كتب تصريحا لا تلميحا أنه يبكي فكتب يقول "....... لعلي أظفر بمنديل يجفف الدمع ".
بعد هذا التوقف ,قلبت صفحة الغلاف , ودخلت على ضوء مصباح يلوح بابتسامة صفراء , وقرأت جملة الإهداء على مدخل الحديقة المعنونة ب " بكى نصف الكلام " لأجد لوحة تشير إلى أنها مهداة . حملت اللوحة الجملة التالية " إلى التي قلت لها نصف الكلام وقبل الأوان بكيت نصفه الباقي " فتوقفت مليا لأفسر ما يريد . من المقصود ؟ ما المقصود ؟ ولماذا يقول الأسمر نصف الكلام ويبكي نصفه الآخر ؟ إذن هذا الكلام يحمل معنى . وجدتني بعد جهد أستنتج ثلاثة أسباب وأقف على ثلاثة إحتمالات , أولها , تلك العين التي تحرس الديوان لم تستطع أن ترى بوضوح كما أسلفت وهو ما يدعو الى الحزن على واقع ضبابي متقلب غير واضح المعالم . مما جعل المستقبل يكتنفه الغموض , وهو ما قد أجبر الأسمر على البكاء , نتيجة لاضطراب في الرؤى المكانية والزمانية والحركية والثقافية وأتجرأ لأضيف اليها النفسية , على كل الصعد ومختلف المستويات . أما الأمر الثاني فهو أن الشاعر حين قال , قال ما قاله بفرح شديد , مما جعلة لا يستطيع أن يكمل ما قالة فتوقف باكيا من شدة الفرح . وحين يكون للبكاء معنى , لا بد من التوضيح . فجنحت إلى القول أن المخاطب في الإهداء هو زوجه , وهذا قد يمثل إفراطا في الحب , فمن الحب ما يبكي , ومن الفرح ما يبكي أيضا . فليس بالضرورة أن يكون البكاء إشارة على الحزن . وأنا شخصيا بكيت مرات ومرات من شدة الفرح . أما الأمر الثالث كم ظننت فهو البعد عن الوطن . ولا يدرك قيمة الوطن إلا من يعيش خارج حدوده .
أختلط الواقع المر ونرجسية المستقبل التي أرادها لمولوده الجديد . وفرحه بمن أحب , واغترابه , ففاضت عيناه دامعة . فكان الدمع مزيجا , وقفز العنوان إلى ذهنه متصلبا . يأبى إلا أن يرتسم على لوحة الإهداء , وعلى غلاف ديوانه الجديد . ولم يكتفي بذلك بل أصر أن يتربع على سطره الأوسط وعلى قمة قصيدته الأولى فيتضح المشهد ويستقر على جسد يتضرج بمرارة وهو يرى أناس يمرون على جسده المرهق ولا يكتفون بالنظر إلية بل يودعون في جسده أوجاعهم ويتابعون المسير . لم تعد له حاجة بغربة القت به بعيدا عن الوطن بعد خمسين عاما وهو يستذكر طفولته , لعل ذكرى الطفولة تخرجه من مسرحية الحياة التي يرى أنها لم تعد كما كانت , فنجده يقول:
" ما حاجتك لطفولة رمتك بعد خمسين عاما في غربتك؟ كلما كبرت أحتجت طفولتي لأخرج من مسرحية تسمى الحياة ." إذن هي الغربة ومرارة الواقع التي دفعته للبكاء.
استوقفتني كذلك تلك اليافطات التي رسمت , ليكون كل منها عنوانا لقصيدة من قصائد الديوان أو قل - إن شئت - دليلا لواحدة من زهراته التي زرع في بستانه الأخير . سبعة عشر زهرة ما زال الشوك عالقا على ثمانية منها, قطفها بشوكها , فبدت تحمل روح التشاؤم وهاجس الخوف , في الوقت الذي حاول الأسمر أن يقلم ما تبقى , وهي تسع زهرات ,رشها بزخات من الأمل فأزال جزئيا الشوك عنها, فمنها ما بدا مبتسما إلى حد ما , محاولا وضع يديه على عينيه كي لا يرى , من شدة الخوف من المجهول , وربما غقدة الخوف من المستقبل الغامض , أو من الحاضر المر, أو مما علق بذهنه من حنين مؤلم للماضي الذي عاش . ومنها ما بدا يهمس بالأمل على استحياء.
ويتضح ما استنتجناه جليا في قصيدته الثانية التي كان عنوانها " دروس من حكمة الخريف " . لماذا لم يأخذ الأسمر حكمته من الربيع بدلا من الخريف مثلا ؟ ما قاله في هذه القصيدة هو عصارة للتأمل والتألم , وكأن الواقع بمرارته وقلقه أجبره على الرحيل , فعاش عناء الغربة وفقدان مرابع الصبا . وإلا كيف يسافر ولا يحمل في حقيبته الا الريح ؟ والريح كما نعلم ليست عنوان سكينة , بل عنوان اضطراب وقلق . " ومسافر ... في حقيبتي ريح ...ومعي حاضر قلق ." ويتضح ذلك في الجزء الثاني من القصيدة حيث يبدو حائرا تتقاذفه الرياح , فلا يدري أين يتجه , أيتجه شمالا أم جنوبا أم شرقا أم غربا أم صعودا أم هبوطا ؟ فهو يسمي الإتجاهات الست وكأنه في حجرة مقفلة , يبحث عن مخرج في أية جهة كان فلا يجد . ويعود ليؤكد للخريف أنه تعلم الشوق والإنتظار ." قال لي الخريف ماذا تعلمت بعد الخريف ؟ قلت تعلمت الشوق والإنتظار ." والشوق والإنتظار مصدران للقلق والإضطراب النفسي والعاطفي الذي يتجلى بوضوح في وسط القصيدة ,فيتساءل " هل أنا حي لأدل البرق في صدري على غيمة وأظفر بالماء ؟أم أنا ميت لأودع أسئلتي وتشيعني ذكرياتي؟ " إذن هو الشوق حين يقول " وللشوق روح يتمشى في عيوننا ... إلى أن يقول ويتسلل إلى فراشنا ... ولا ينام ... يطلب المزيد حتى يمتلأ السرير بالدمع والحكايات .
وجاء عنوانه الثالث " كطفل أحبو إلى خيبتي " أيضا منسجما مع السياق العام لمولوده الجديد . فحمل العنوان مفردات -الطفل ويحبو وخيبتي- . فالطفل كما نعلم مؤشر على الضعف وقصور في الفكر والتفكير والتعبير وإصدار الأحكام والحاجة المستمرة للمساعدة والعجز عن الحركة وعدم القدرة حتى للوقوف على قدميه فهو ما زال في مرحلة الحبو, التي يستعين بها بيديه إضافة إلى رجليه للتنقل بين الأماكن القريبة . والمرارة تكمن في توجه الطفل لا لعبة يفرح بها ,ولا لطعام يشتهيه ولا حتى لحضن يمنحه الدفء , بل إلى الخيبة , والخيبة مفردة موغلة في التشاؤم فهي توحي بفشل ذريع بعد محاولات عدة , وتعطي معنى اليأس فهي عودة فاشلة بعد محاولة أو محاولات .
وحين الولوج في القصيدة الثانية نجد شاعرنا في سطره الأول , يوثق تجربته في عدم اتعاظه من تجاربه , فيبدو أنه قد تعرض للعديد من اللسعات الموجعة . وهل أصعب من لسعات النار فنجد سطره الأول " كطفل لم يحذر من لسعة النار" يشير إلى أنه لم يتعظ مما تعرض له وسار في دروب تبدو شائكة ومؤلمة. ويبدو الأمل شائكا لا يتتأتى الا بالدمع والحسرة على ما مضى فهو يقرر أنه وهم ولا يتعدى أن يكون حفرة , ليؤكد أن الطريق الى الأمل محفوفة بالمخاطر ." أغزل من صوف الحنين حفرة الوهم قربي ".
وثيت في قصيدته الثالثة أن الواقع لا يسعفه حتى على التفكير بالأمل, فمرآته التي يفترض أن تعكس الواقع تبدو متيبسة جامدة فتطيح بالأمل " أصحو على وجهي ينام على سطح مرآة نقضت ما غزلت من ثياب الأمل " وجاءت مفردة الحمامة , وهي رمز للمحبة والسلام عكس التوقع , فبدت الحمامة تراوغ , ولا تترك له فسحة للتنفس وتزيد من أوجاعه . " لأغري الليل بحمامة الآيقاع ....وتراوغ بالهديل المؤجل وجعا ينز من قصبة الذاكرة ". ويحاول في القصيدة أن يوحي باليأس فأشار إلى عقم الوقت الذي لا ينجب ما يتوخاه منه " وألقح المكان بفكرة من صهيل الخيال لأخرج الوقت من عقم الحنين ".
وتأبى دموع الأسمر أن تجف وهو يحثها على البقاء لأنه يدرك أن مسلسل الحنين لن ينتهي في حلقته الرابعة . ويظهر هنا في هذه الحلقة والتي عنونها ب " لا تمسح دمعتك في غير موعدها " راغبا في حمل شيء من ذكريات الماضي , فيقدم النصيحة لمن يريد السفر , أن يحمل في حقيبته ما يستطيع من الطفولة ,. لأنه لا أحد يستطيع أن يشكل من المستقبل الشكل الذي يريد , فلا ضمانة أن تفر الدمعة من الجفون بأي وقت من الأوقات , فقد يحصل بين الحين والآخر ما يستفز المشاعر, ,فتكون الدمعة إستجابة لذلك المثير, وخاصة إذا جاء هذا الاستفزاز على درجة الغليان وعصارة لذاكرة تحاول مسح الحاضر , وتؤكد سرابية البدن وسرابية التفكير , فيستنج الشاعر الحنون أنه بخار . والبخار - كما نعلم - لا أحد في الدنيا يستطيع أن يشكله أو يجسده وهو أيضا نتاج للهيب أو على الأقل لسخونة , من المؤكد أن الحنين هو الذي سبب ذلك . وقد بدا ذلك واضحا في التالية " لا تمسح دمعتك في غير موعدها واحمل في حقيبتك ما تستطيع من طفولتك .... وتحكم على غد ليأتيك خاليا طريا طائعا طيبا تعجنه كما تشاء.... وتهطل الغيمة على جفنك بصوت خفي يوقظ دمعتك .... والعمر قربك في إناء جسمك يغلي وأنت بخار " ويفرغ الأسمر حنينه في هذه القصيدة بشخصين أحدهما المخاطب وأغلب الظن أنه أنسلخ عن نفسه , واستحدث شخصين آخرين كشريكين له , فخاطبهما بالألم والحنين , حيث جمعت بينهما صدفة المكان وصدفة الزمان , وجمع بينهما الحلم المشترك , فتبادلا المشاعر , وكانت دعوته لهما أن يعلنا ألمهما , وأن يفصحا عن حنينهما للطفولة , وأغلب الظن أنه أستطاع أن يجسد نفسه بشخص آخر " والتقيتما مصادفة فلا تكذبا في الألم ولا تكذبا على الطفولة والأغنيات " . وهذا يشي أن اللذين يخاطبهما يحاولا إخفاء مشاعر الألم والحنين لأيام الطفولة ويواجها صعوبة في إضفاء لحظات السعادة طيلة الوقت.
وعادت المرآة لتظهر في إطلالته الخامسة " بين الوقت والمرآة " . وقد شاع ذكرها كمنتج له وظيفته , وظفها فيما مضى وسيوظفها فيما سيأتي . وهي تعكس الحاضر المهزوم , وبالتالي ظهورها جاء كمنتج طارد للسعادة ,سيتم التخلص منه لاحقا . وكأني بها وقد دونت على زجاجها جملة تقول , كلما رأيت صورتك هنا , تذكر أن لك ذكريات تتوق اليها . مع أن الجملة هذه لا يلمحها إلا هو لأنها كتبت بحبر سري . فيرى الغد كاذب ومراوغ وخيال حتى بات الغد مسكون بالذكريات . وبصريح العبارة بدا الحاضر بارد التأثير , يحتاج إلى أن يرفع شاعرنا من درجة حرارته , ويخلطه بالذكريات حتى يشعر بوجوده ويتذوقه مع قهوة الصباح . ولا يكتفي بذلك , بل يتركه حيث يكون ويمضي . وكأني به يهرب على عجل للتفكر في الذكريات . وفي معرض حديثة عن الحاضر , ومثله المرآة لا يعكس أي منهما ما يتوقع ويخيبا الأمل . فيتحدث عن الحاضر ويقول "مراوغ منحاز إلى جمال تبخر من ماء أوجاعنا ...كاذب في غده على مرآة أحلامنا .... الحاضر بارد حين يلامس أجسادنا نغليه على نار الذكريات كي نحتسيه في قهوة الصباح ونمشي ." وقد حملت إطلالة " بين الوقت والمرآة " عناوين فرعية بدأت بهشاشة وتخللها مراوغة والمنجم , وهذا انا أكتفيت بالجزء الأول منها لعله يشير إلى ما تبقى .
لا يعبر الليل إلا شجاعا , وغالبا يعبر الليل أولئك الذين قض الليل مضاجعهم , أو أولئك الذين الهم أثقلهم , أو الذين يقتحم الهم سكونهم . فهل كان الأسمر مستقرا , فهبت نحوه العواصف فحاول تجاوزها ؟ هو كذلك , يبدو مثقلا لكنه سيدخل الآن باب الأمل . أنا هكذا يوحي إلي العنوان الجديد "عبرت الليل" . رأيتها تنتمي إلى تلك التي قلنا في حقها , أنه رشها بزخات من الأمل , فأزال الشوك عنها . تفاصيل القصيدة , تقول أنه عبر الليل متأملا , متفائلا , يريد أن ينتهي الليل ويصبح على إشراقة جديدة للشمس , لكنه للأسف أستيقظ على منام . إذن هو حلم العبور لا العبور بعينيه . وعاد من جديد ليحط رحاله في وحل الإنتظار, ويتضح أنه لم يكن هو المعني بالعبور " عبرت الليل وكأني لست أنا المقصود بالحلم " فهو حلم مهزوز لا يحمل معاني الطمأنينة . ويتضح الأمر جليا , حين تصور نفسه يبحث عنها فأمسك بها . " أخذتها ونظفتها من براري الكلام وربيتها , وحين دربت قلبي على صوت العصافير هربت من المنام " إذن هو عاش حلما وهي هربت من الحلم . فكأن شريك الحلم موجود , لكن الحلم المشترك يهرب من بين يديه أحيانا ." وفي رحلة العبور يشير أنه عبر وحده باحثا عن التحول والتحرر من الخوف , باحثا عن الأمل فوجده , لكنه حين أستيقظ نام الحلم " ولي حق على خوفي أن يعرف أنه لم يكن زبدا حبر الدمع في أرض القصيدة ". وقال في موضع آخر " عبرت الليل ولي حق على البحر أيضا أن يعيد لي بعض الصدى من تأمل"
وقد عزز ما ذهبنا إليه , عنوانه السابع ." هكذا همست لظلي " فالهمس يعكس صورتين . إما همس محمود من الحبيب للحبيب , أو همس يعتريه شيء من الخوف , وإلا لماذا كان الكلام همسا ولم يكن مسموعا من قبل من حوله من الناس؟ ولماذا الهمس إلى ظله وكأن الخوف من المجهول ما زال يلاحقه؟ . فحين يكون النظر إلى الظل يكون الخوف مما يؤكد أنه مسكون بالقلق وعدم الراحة لأن الظل ملازم للحركات والسكنات , ويكون دائما حيث الجسد يكون . ويعود الاسمر ليعلن فشله في محاولة صناعة الحلم , وأنه يسعى ويسعى , لكنه يصطدم بسقف يحدد ارتفاعه أو يعيده إلى حيث أتى . " بكل عطشي للحياة سقيت الأمل وحين أخطأتني عيون حبيبي , انكسرت أغنيتي على أفق يابس وجفت بحيرة الحلم من عطر الزهر ". فمن الواضح أنه متعطش لتحقيق شيئا من أحلامه , لكنه لا بد أن يصطدم بسبب يعيد سجن أحلامه من جديد وهو في هذه القصيدة بسبب عدم فهم الحبيب لمقدار الحلم الذي يسكنه .ولا يستكين الأسمر أو يستسلم , فهو في نفس رحلته هذه يحاول النهوض من جديد, ويجدد الهمس , ويخطو بحذر وببطء , ويعطي فرصة أخرى للحبيب لمرافقته ليسقيا معا الحلم المتجدد , ويطلب منه مراقبته وهو يعبر ويترك له خيارا آخر وهو أن يدع أحلامه الغضة تموت . " وإن شئت لتعبر معي تحت التراب وتسقي جذور الحلم " ... " دع الميت نائما كما هو ...أن يثق بقمر تفتح على غصن طري في الرياح ."
ولا تخرج قصيدته " لك الرؤيا " عن الإطار العام ل " بكى نصف الكلام " ونكتفي بما قالة في بحر القصيدة " وينمو سراب جديد يحك أرض الغد لتسقط أنت مثلها في الظلام " فهو يشير أن السراب ينمو, وحين ينمو السراب يدفع صاحبه نحو اليأس , ومن الواضح أن السراب ليس إنعكاسا للحاضر فقط , فهو يلامس المستقبل بطريقة تنم عن القسوة , عبر عنها بالإحتكاك . وليت هذا الإحتكاك يطيح بالأمل ويبقيه قائما , لكنه يسقطه في الظلام. والسقوط في الظلام يضاعف الجهد مستقبلا ويزيد الأمر تعقيدا , ليخرج صاحبه من الظلام لدائرة الضوء ومن ثم الإنطلاق مجددا لتحقيق الهدف .
ولا نحتاج إلى جهد لنعلن أن القصيدة " لم أر مطرا " في ذات السياق , لكنه هنا يميز نفسه عن غيره من الناس فهو هنا يروي قصة طفل يراوغ فراشة وعصفورة , وفتى يقرأ رواية عاطفية , وعجوز يروي بطولاته وهو يبكي . " رأيت العجوز يقاسمني الدموع ... ويتركني تائها " تقاسم معهم الدموع وتفرد باليأس من رؤية المطر . ويقول في خضم سرده " رأيت الحلم يرجف من البرد في حلق الظلام " وفي نهاية قصيدته التي كان يأمل أن توفر له ممرا آمنا نحو الأمل , فلا يلبث أن يستنتج أن القصيدة عرجاء , عجزت عن حمل المطر فتعصر نفسها علها تمطر ولا تمطر . فكيف لها أن تحمل صاحبها وتطير به إلى بر الأمان " رأيت القصيدة غيمة تعصر نفسها على عكازتين لتخرج ماء حدثيا وتطير من المعنى يماما .
سأمر سريعا بما تبقى من قصائد وألقي الضوء فقط على ما يميزها عن غيرها مما سلف , فذكر الأم مثلا وللمرة الأولى في قصيدة " آن للقصيدة أن تسمع نفسها ". وهنا يوجه بوصلة الحنين نحو أمه , معلنا أنه آن الأوان لأن يستعيد حنين أمه وأن ينبض قلبه قرب نبض قلبها فيخيل إليه أنه حمام شرد من بين يديها فيرى أن الحمام الشارد , آن له الأوان أن يعود " فيقرر بصريح العبارة " آن لأمي أن تراني وللحمام الشارد في قلبها أن يجمع من نبض الليل نبضي ويغسل وجهي بيديها لتنهي حمل الغياب " .
أما " أتفكر في الحب " فقد أختلفت مفرداتها , لكنها حملت المعنى المراد ذاته . حملت معاني الحنين . إمتازت عن سابقاتها بأن المرآة التي كان شاعرنا يرى فيها واقعه , وكثيرا ما كان يتهرب منها إليها , قد قام بكسرها , لأنها كانت مثقلة بالهموم , ولم تكن نقية صافية , لأنها حسب وجهة نظره , ساهمت في ما تعرض له من ألم , فهو هنا يرى أن كسر المرآة يتيح له النظر إلى الواقع دون وسيط فنجده يقول " كسرت مرآتي كي أرى وجهي صافيا منها . ضيِعتني (بتشديد الياء وضم التاء ) في الطريق فبكى الرصيف ونز الجدار" .
" هو الحب .... الآمر الناهي ... هو باسط الدمع قابض الجفن على صور المتجذرين في عروق الروح والمنتشرين كالعصافير على أغصان الزمن ..., هو ثمر الحزن الذي تنقره الطير في أرواحنا ". أستوقفتني عبارتان الأولى كالعصافير على أغصان الشجر و تنقره ( بتشديد القاف ) الطير. وهما تنبضان بروح الفلاح الذي يترنم حين يسمع العصفور يغني على أغصان الشجر ويتنقل من غصن إلى آخر كأنه يداعب الفلاح . والصورة الثانية تعيدني لسنين خلت حين كنا نجمع ما زرعنا من ثمر القثاء والطماطم , فنجد الثمر منقور بل منقر بأسنان العصافير فهو للعصفور غذاء وماء . ولم نكن ننزعج مما كنا نراه , لكنا كنا بالخشب , نصنع هيكل إنسان ونزوده بمروحة ( فرفيرة ) تدار حين تهب عليها الرياح . وللعلم مع التجربة أصبحت العصافير تدرك حيلتنا , فلم يعد لما صنعناه أي تأثير, وتنقر بالقرب مما يفترض أن يكون طاردا لها .
وأقفز عن " أخاف منها " و" أرسلت كلماتي نيابة عنها " و " الدائرة " و " عاشقان " لأنها مثقلة بمعاني الخوف الذي سكن شاعرنا فجعله أرقا يتخيل من يقترب منه عصفورة تخطف أحلامه وتطير , أو نحلة يغريها رحيقه فتلسعه وتمتص قبلتها وتنام دون أن يرى شهدا أو عسلا في الاولى . ويعود لذكر الحنين في الثانية وبعضا من تفاصيل الحياة المرتبكة فأراه يريد أن يفر من ذاته . هو يبدو وكأنه , هانئا , سعيدا , لكنه مثقل بالهم وكأن الهم يعشقه . وما تبقى تصب معانيه في ذات المعنى .
وصلت وأنا أتجول في حديقة أنور الأسمر إلى أطرافها من الجهة الأخرى . أخر زهراته حملت عنوانا يجنح نحو الرومانسية . " عاشقان " توحي بأن هذا المشوار الطويل في المعاني والمفردات , يحتاج إلى جلسة شاعرية في ليلة صيفية قمرية لعاشقين على الرمال , يرقبا القمر , ويستمعا لأصوات المد والجزر , ويستمتعا بنسيم البحر, ويتبادلا ما رق من الكلام بعيون مفعمة بالأمل . فتتسارع نبضات قلبيهما , ويركضا كما أبطال الأفلام . هكذا أوحى العنوان لي . قال العنوان لي أن الأسمر سيحط رحاله في نهاية المطاف , ويتناسى عصاه في خيمة الألم ليقيم على شاطيء الأمل . فهل نجح ؟ نعم , نجح الأسمر فرسم حوارية لطيفة بينهما وأطاح بمعاني الألم , وأبقى على بوابة الأمل مشرعة . حوارية توحي بالألفة والقرب وتفهم كل منهما للآخر . وأطلق كل منهما تعابير المحبة وهي تختلط بالإستعداد للتضحية , ليبقيا على حلمهما . لكنهما في نهاية القصيدة يفترقا , وليته تركهما يفترقان على أمل اللقاء . أنهى قصيدته ب "ولا يلتقيان" . لكن الأمل يبقى أنهما قد غادرا المكان ولا يلتقيان بعد أن باح كل منهما بما أختزن في هذا اللقاء , لكن اللقاء ممكن , ومن الممكن أن يتكرر ولو فيما أختزنته الذاكرة . حملت "عاشقان "نبضا جديدا . " وينسجان للمعنى ضوءا يسيل من وجه الحبيبة ويسرجان فرسا كي تشق الغبار . يخاطبها هو " أريد أن أكسر المرآة واصقل الفضاء بصورتك كي لا تهرم الكواكب ويذبل ضوؤها وكلما عبرت سمائي الدنيا , أضأت لي كوكبا " وتخاطبه هي " أريد أن أكسر مرآتك وأدخل فيها كي لا يهرم وجهك .... وهبتك كوكبا ليضيء لك تأويل الورد في أرض أنوثتي " عاطفة رقيقة لخصت نهاية المعنى . كلاهما يريد أن يكسر المرآة وما عكسته من هموم الواقع , ليبدأ مشواره من جديد . وكأن كسر المرآة قربانا , يريد كل منهما أن يتقرب به من الآخر . تلك المرآة عكست صورة سوداوية عن واقع مر كسرت على أطراف الحديقة الخلفية , قد تدمي شظاياها قدما من أراد أن يغادرها .
لكني حين وصلت البوابة الخلفية , ووصلت بسلام من بين أشيائها زمن ثم أشياكها , كلص تسلل في ظلام الليل واضطر للهروب بعد أن حمل في جيوبه ثمرا تتجلى حلاوته بمذاقه المر .
خرجت فوجدت خارج السور لوحة , حملت صورة للشاعر أنور الأسمر , وكلمة مختصرة للفنان أحمد قعبور . صورة المؤلف بقميصه الصيفي متحررا من لباسه الرسمي وربطة العنق . صورة تعكس عمقا في التفكير , ونظرة عميقة تحت أفقية . فهي أكثر ميلا لليأس من واقع مر . يقبض على فكه . وهذه صورة مألوفة للحيرة وعدم الرضا . تعكس حيرته الممتدة على مساحات ديوانه. وبدت ساعة الوقت واضحة بيده اليسرى , وكأن الوقت يمضي بسرعة . والوقت ثمين ورغم أهميته لم يسعفه . وقد تشير الساعة التي بدت واضحة , إلى تجدد الأمل . فالأمل لم ينتهي وما زال هناك متسع للأمل . تأمل كل ما يدور حوله , ضايقه كل ما يدور حوله, نظر إلى الواقع مطولا , فكر طويلا وحتى لا يصاب بأذى من قساوة الواقع , أزاح نظرة إلى الأسفل لعله يستريح من عناء النظر.
أما ما كتبه قعبور, ففيه إشارة إلى رحلته المرهقة , بعيدا عن الوطن بحثا عن الراحة وسعيا خلف سراب الهدوء , لكن سوء الواقع أضاف له ألما فوق ما لديه من ألم , مشيرا إلى قوله ’ أنه يساكن الموت لينجو من الحياة , فلم ينجح فسكن القصيدة علها تسعفه ليركب قارب النجاة .
تحرر الأسمر من قيود الشعر , فلم يتح للقوافي مجالا لتقييد سرده , ولم يتح لعروض الفراهيدي أن تستعرض جمالها وتتبختر بين أزهار حديقته . لكنه فتح بواباته على مصاريعها لعاطفة الشوق والحنين .
من المفردات التي أثقلت معاني النصوص
بكيت – يراوغ – طفل- رهان – السيف – قتلت – مسافر - ريح – خريف - الدمعة – ميت - تشيعني – قلقا - خوفا – أشقياء – شيطان – قرابين – الإنتظار – مقنعا - نقضت – بكاء - ذكريات – مرآة – هشا - الليل- اشباح – تحاصرك - يغلي- بخار- متعب - جائع , حزن – شبح- مزقت - أطعن - أخدع - ثقلت - متعبان - يرمم - غياهب - توجست - أغرقني - خيبتي – ينقض - غرقت – الغريب - تكسر- إنكسار- أنسى - تلبسه - جن - إنسل – استجدي – يلقي – مكر- خرافة - رعد ,تغيب - خطيئة - الشوق - الإنتظار - منديل - والطفولة - حنين – سراب – عقم- سفر – دموع .... والقائمة تطول .
أنور الأسمر يبكي نصف الكلام بقلم:سلطان الخضور
تاريخ النشر : 2017-02-18
