هذا هو الإسلام
أول إقطاع في الإسلام وقف الرسول r لآل تميم الداري في فلسطين
الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي قاضي قضاة فلسطين/رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس
قال تعالى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } الإسراء 1 .
لله درك يا فلسطين ما أقدسك ، بارك الله أرضك وما حولها ، وإلى عاصمتك ورمز طهرك أسرى الله برسوله محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام ، فيك أرض الخليل مهاجر سيدنا إبراهيم عليه السلام ، قال تعالى { وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ التِي بَارَكْنا فيها لِلْعَالَمِين } الأنبياء آية 77 ؛ أقطع صلى الله عليه وسلم أرضها الصحابيَّ الجليل تميماً بن أوس الداري رضي الله عنه وإخوته وأعقابهم في السنة التاسعة للهجرة ؛ أي قبل فتحها بست سنوات ، وهو أول إقطاع في الإسلام لا يحل لمسلم أن يسلبه منهم ، ويعتبر نموذجاً لأرض فلسطين التي أوقفها قادة الفتح الإسلامي وعلماء الأمة والصالحون فيها ؛ تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى واقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد بلغتنا قصة هذا الإقطاع بعدة روايات ذات قيمة علمية وتاريخية ، وردت في كتب المحدثين والمؤرخين ورواة السيرة النبوية ، وأثبتها المؤلفون في مصنفاتهم ، وتتابع على رواية نصوصه مؤرخو القرون المتأخرة ممن جمعوا بين النقل والمشافهة والرحلة فأثبتوه من مشاهداتهم ومعايناتهم ، حيث قصدوا ديار الخليل والْتقوا أعقاب تميم الداري رضي الله عنه واطَّلعوا على ما في حوزتهم من الحجج التي تثبت حقوقهم الموروثة في الإقطاع ، ومنها على سبيل المثال مشاهدة العمري الذي قال في كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار أنه [ رأى كتاب الإقطاع النبوي الشريف رؤيةً مزيلةً للشك ، ووصفه بأنه في قطعة سوداء من مَلْحَمِ قطنٍ وحريرٍ من كُمِّ المستضيئ بالله أمير المؤمنين ، وبطانتها من كتَّان أبيض على تقدير كل إصبع منه ميلان أسودان مشقوقان بميل أبيض ، جُعِلَ ضمن أكياس يضمها صندوق من أبنوس ملفوف بقطعة من حرير ، أما الكتاب الشريف ذاته فهو من خف من أدمٍ أظنها من ظهر القدم ، وموَّهَ سواد الجلد على الخط لكن لم يذهبه ولم يُخْفِ كتابته ، ومعه ورقة كتبها الخليفة المستضيء بالله : " نسخة كتاب رسول الله الذي كتبه لتميم الداري وإخوته سنة تسع للهجرة بعد منصرفه من غزوة تبوك في قطعة من خف أمير المؤمنين عليّ وبخطه ] ، وقد كتب هذا الإقطاع بخط علي رضي الله عنه وشهد عليه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعاً .
ومن روايات هذا الإنطاء النبوي الشريف على سبيل المثال ما ورد في كتاب الخراج ص 132 الذي قال فيه قاضي القضاة أبو يوسف صاحب الإمام ابي حنيفة رحمهما الله [ ... فقام تميم بن أوس الداري فقال يا رسول الله إن لي جيرة من الروم بفلسطين لهم قرية يقال لها حبرون وأخرى يقال لها عينون ، فإن فتح الله عليك الشام فهبهما لي ، فقال هما لك ، قال فاكتب لي بذلك كتاباً ، فكتب له " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من محمد رسول الله لتميم بن أوس الداري أن له قرية حبرون وبيت عينون قريتهما كلها وسهلها وجبلها وماءها وحرثها وأنباطها وبقرها ولعقبه من بعده ولا يُحاقُّه فيها أحد ولا يَلِجُها عليهم أحد بظلم ، فمن ظلم واحداً منهم شيئاً فأن عليه لعنة الله " فلما ولي أبو بكر رضي الله عنه كتب لهم كتاباً نسخته " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من أبي بكر أمين رسول الله الذي استخلف في الأرض بعده ، كتب للداريين أن لا يفسد عليهم سندهم ولبدهم من قرية حبرون وعينون ، فمن كان يسمع ويطيع الله فلا يفسد منهما شيئاً ، وليقم عمرو بن العاص عليهما وليمنعهما من المفسدين ] .
أجمع المسلمون على ثبوت هذا الإقطاع لآل تميم الداري بالتواتر من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده ، وجرى على ذلك التعامل منذ الفتح العمري لهذه الأرض المقدسة على مر العصور وإلى يومنا هذا ، أما من عارض في صحته فقد خُزِيَ ورَجَعَ عن معارضته ؛ كما حصل في قصة القاضي أبي حامد الهروي :
فقد اعترض أحد الولاة على آل تميم وأرادوا انتزاع قراهم منهم ، فاحتج الداريون بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال القاضي أبو حامد الهروي [ هذا الكتاب ليس بلازم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع تميماً ما لا يملك ] فاستفتى الوالي الفقهاء ، وكان حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله صاحب كتاب إحياء علوم الدين في بيت المقدس فقال [ هذا القاضي كافر ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال { زثوِيَتْ لي الأرض ... } رواه ابن ماجه ، وكان يقطع في الجنة فيقول قصر كذا لفلان ، فَوَعْدُهُ صدقٌ وعطاؤُهُ حقٌّ ] فَخُزَي القاضي والوالي وبقي آل تميم على ما في أيديهم .
وفي سنة ألف وثلاثمائة وخمسين للهجرة ، حدث أنْ حكم القاضي الشرعي بعزل متولي وقف الداريين عن التولية ؛ اعتماداً منه أن لأبناء السبيل ثلث ريع هذا الإنطاء . ثم صدَّقت محكمة الاستئناف الشرعية هذا القرار ، وضمت وقف الداريين إلى الأوقاف العامة ، ونصت بما يلي [ حيث ثبت في محكمة العدل العليا أن لأبناء السبيل ثلث أوقاف تميم يلزم أن يكون المتولي عليها مأمور أوقاف الخليل ] . وقد اسْتُفْتِيَ في أمر صحة هذا القرار الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية آنذاك ، فاستشهد بما في رسالة ابن حجر العسقلاني " البناء الجليل بحكم مدينة الخليل " فكتب ما يلي :
[ وقد أخذ هذا الإقطاع حكم المتواتر بإمضاء ولاة الأمور ذلك لهم من عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إلى وقتنا هذا من غير خللٍ ولا انقطاع ... فثبت أن كل الريع لهم ولا شيء فيه لأبناء السبيل ... وليس لأحد أن يستخلص الأرض من أيديهم ، وليس للحكومة ولا لإدارة الأوقاف العمومية أن تعين والياً عليهم من غيرهم متى وجد منهم لائق للنظر ] فرجعت محكمة العدل العليا عن قرارها ، وسلم الوقف إلى ناظره ومتوليه من الداريين ، وهو بأيديهم ما زال كما كان في أول عهد عمر رضي الله عنه . وعلى ذلك فحكم أرض الخليل أنها وقف على الداريين إلى الأبد .
وقد استقر عند المسلمين أنه من خصائص النبوة : فليس لأحد من الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع أحداً من الرعية شيئاً لم يدخل في ملك المسلمين ، وهو أيضاً من المعجزات التي أوتيها صلى الله عليه وسلم فتحققت ، وبشرى من الرسول صلى الله عليه وسلم بأن هذه الأرض المباركة ستؤول إلى المسلمين ، فما من ذرة من ترابها إلا أوقفت وقفاً إسلامياً صحيحاً من رأس الناقورة شمالاً إلى أم الرشراش (أَيْلَةَ) جنوباً . وتؤكد ذلك وثائق تسجيلها في المحاكم الشرعية في فلسطين وتشهد عليه ، لذا فقد أفتى ابن حجر العسقلاني رحمه الله بأن [ على المسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً لا يعتريه شك بالإنطاء النبوي للداريين ] ، تماماً كما آمن الصحابة بوعده سراقة بن مالك بسواري كسرى وهو في طريقه إلى المدينة المنورة مهاجراً ، فنفذوه وألبسوه إياهما لما فتح الله عليهم بلاد فارس في عهد الفاروق عمر رضي الله عنه .
ويعتبر هذا الإنطاء النبوي الشريف أيضاً تكريماً لتميم الداري رضي الله عنه وعاملاً هاماً من عوامل تثبيت ذريته وأعقابه في فلسطين أرض الرباط ، فكانوا هم المرابطون الأوائل في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس .
وهذا ليس بمستغرب عليه وهو صحابي له مناقب كثيرة بعد أن أعلن إسلامه أمام الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة في السنة التاسعة من الهجرة ، فمنها أنه صار من أمراء بيت المقدس ، وعاش فيها فترة مع بعض الصحابة أمثال شداد بن أوس وأبي هريرة وعبد الله بن سلام رضي الله عنهم .
وهو أول من أسرج المساجد ، فقد رأى تميم المسلمين يصلون المغرب والعشاء والمسجد مظلم لا نور فيه ، إلاَّ ذاك الذي ينتشر من حرق أوراق النخل ، فأهدى النبي صلى الله عليه وسلم مصابيح شامية تنار بزيت الزيتون .
وهو من أولياء الله الذين تظهر بعض كراماتهم ، فقد خرجت نار بالحَرَّة (ناحية في المدينة) ، فطلب عمر منه أن يخرج إلى النار ، فقال تميم [ ما أنا ومن أنا حتى أخرج إليها ] وظل يلحُّ عليه حتى خرج معه ، فجعل يحصر النار بردائه حتى انحسرت وخمدت وعمر ينظر ، ثم رجع عمر يقول [ ليس من رأى كمن لم يرَ ] .
وجاهد تميم في عهد عمر رضي الله عنه وفي عهد غيره ، فقد شهد فتح مصر ، وكان ممن غزا في البحر ، وكان يأتي بالأسرى من الروم وينفق عليهم ، ويأمر بتوفير احتياجاتهم وحفظ حقوقهم والعناية بهم .
وعرف عن تميم أنه عابد أهل فلسطين وراهب أهل عصره ، عاش بقية حياته في مدينة الخليل ، وتجول في فلسطين إلى أن توفي رضي الله عنه في قرية بيت جبرين من أعمال الخليل سنة أربعين من الهجرة . وكان قبره فيها مسجل عليه اسمه وتاريخ وفاته ؛ ولكن بعد احتلال اليهود للقرية ثم محو جميع آثاره وآثار كل بناء عربي هناك . ولتميم خمسة أولاد : ثلاثة ذكور وبنتين هم : محمد الطويل وعثمان وحامد . أما كنيته بأبي رقية فهو من قبيل الشهرة لا من قبيل الحقيقة . وهذا ما حصل لأخيه أبي هند الداري ؛ فمع أن له أبناء ذكوراً أكبرهم عبد الله إلا أنه كني بابنته هند ، وكما كان يكنى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأبي حفص مع أن له أولاد ذكور كثر منهم الصحابي عبد الله بن عمر رضي الله عنه .
أول إقطاع في الإسلام وقف الرسول لآل تميم الداري في فلسطين بقلم:د. تيسير رجب التميمي
تاريخ النشر : 2017-02-17
