تكرار المأساة .
) إذا أعاد التاريخ نفسه ؛سيظهر عجز الإنسان عن التعلم من التجارب ) جورج برنارد شو
بقيت أوروبا تدمر بعضها البعض وعلى مدار قرون طويلة ،فكانت مسرحا لصراعات وحروب دموية ، ،مخلفة أكبر مآسي التاريخ فوق أراضيها ، معظم الصراعات كانت على أساس تعصب مذهبي أو عرقي شوفيني وأوهام مريضة وجموح لغرائز الهيمنة ،حتى كانت المأساة الكبرى في الحرب العالمية الثانية ، حيث ملايين القتلى والمشوهين وملايين أخرى من المشردين والأيتام والأرامل ومساحات شاسعة من الخراب والدمار ومخلفات نفسية واجتماعية واقتصادية هائلة .
بعد تلك المآسي وللأسف أدرك الأوروبيون أن التسامح وتقبل الآخر هو نجاح للحياة وأن التعدد سمة طبيعية للبشر، وإثراء زاخر للثقافة الإنسانية ؛فأعادوا النظر في كل ما يخص الحياة التي تنتج الطمأنينة والسلام والأمان وتقهر البطالة وتعمم الضمانات الإنسانية، كالعلاج والتقاعد ،فأخذت تنشر ثقافة التسامح وحقوق الإنسان وتتصدى للتعصب والعبث البشري والنزوع إلى التوحش ،وتصدر هذه الحملة جمهرة علماء أوروبا ومفكريها؛ فتصدوا للطبقية والعنصرية والعرقية ،فلم تعد لون البشرة أو العرق مقياس أي تفوق.
للأسف ، نحن نقرأ التاريخ لنتسلى ، وليس لنتعلم ، فالتاريخ مختبر الأفكار والنظريات ، ومختبر الأيديولوجيات ، ومختبر الحلول. (كل من لم يفهم درس التاريخ وأخطاء التاريخ هو منذور لتكرار مآسي التاريخ ) جورج سانتيانا
عجبا لأمة تبيد نفسها وتخرِّب بيوتها بأيديها و تعيد مآسي الآخرين وستصل حتما في نهايتها الكارثية إلى نفس النتيجة ، أنّ التعصب أعمى مدمر ،يفسد كل شيء في الحياة، وهو سبب الانهيارات والانحطاط الإنساني، وأن الحياة تطيب وتزدهر بالتسامح وتقبل الآخر والنظر إليه كإنسان وأن التعدد سمة البشرية قال تعالى : )يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)
إن التعصب في أبسط صوره هو انغلاق فكري محصّن ومتحجر ، وليس معارضة فكرة لأخرى، إنه انغلاق جامد يتخذ مواقف مسبقة متشنجة لأيّ نقاش أو حوار ، فهو يرفض الآخر مسبقا لأنه من طائفة غير طائفته ، أو عرق غير عرقه ، وعلى ذلك يرفض كلّ شيء من الآخر ، لا يمكن أن يكون الآخر كله شر ،لكن المتعصب بعماه لا يرى إلا الشر في الآخر وهذا جنون مطبق ؛ لذلك علينا أن نكون ضد التعصب مهما كان حتى ولو اتفقت أهدافه مع أهدافنا ، فالتعصب لا يمكن أن يدعم أي قضية حتى ولو كانت شريفة؛لأنه سيفسدها ،إنه مفسد يفسد الضمير وبالتالي يفسد كل شيء،إنه يظلم الحق ويشوهه ، الحق ليس بحاجة للتعصب .
يقول أحد المفكرين :(يبقى في نفس القرصان وقاطع الطريق شيء من الإنسانية أكثر من المتعصب ) لأن قاطع الطريق يقر بأنه قاطع طريق وخارج عن القانون وأنه مخطئ ،أما المتعصب فلا يُقر بخطئه !! فهو يظن أنه يمتلك الحق المطلق في كل ما يقول ويفعل!!
إنّ محاورة الآخر ومحاولة فهمه وتقبل الآخر بما هو إنسان دون النظر إلى لونه أو عرقه أو مذهبه هو أساس صلب للتعايش المثمر الآمن .
خاطب الآخر على قاعدة:أنا لا أرفضك بالكامل ، أنا أتقبل هذا منك ، وأرفض هذا منك، وأعتقد الخير فيك ومنك ، وأن خيرك أكثر من شرِّك، وأن كل القضايا تحت طائلة الحوار والنقاش والانتخاب بعقل متفتح ، بعيدا عن التمترس و التخندق في ظلام كهف التعصب ، ولاتخف على الحق فهو منتصر دائما.
إنّ التعصب شر محض ، والتحدي الأول للتعصب يكون في ساحة النفس قبل ساحة الحياة ،فإذا انتصرنا عليه في ساحة أنفسنا ، حتما سيختفي من ساحة الحياة ، إنّ الانتصار الأول على التعصب يكون في ساحة نفسك ، قبل ساحة الحياة.
التعصب يغتال العقل ، ليصير صاحبه مجنونا ، لا يفقه ولا يحاور ولا يناقش ،إنه مبرمج على تعليمات محددة ،لذلك علينا الوقوف صفا واحدا ضد أولئك الذين يعملون على تمزيق الناس على أساس طائفي أو ديني أو جهوي ، وينفثون السموم في عقول النشء ومحاسبتهم ،فهذا ميدان آخر مهم لمحاربة التطرف والتعصب .
إن علاج التعصب ليس معقدا ،لكنه يحتاج لجهود الخيرين من مختلف الجهات الواعية بدءا بالعلماء المستنيرين مرورا بأهل العلم في مجالات النفس والاجتماع والدين لمواجهة هذا الوحش المخيف الذي اسمه التعصب، فالإنسان ليس بطبعه متعصبا ، فهناك تشريطات نفسية واجتماعية وعاطفية متشابكة جعلته متعصبا ، عندما نفهمها ؛ سنفهم كيف نعالجها علميا وعلى خطى مدروسة واضحة ، لن ينتصر الحق بالتعصب فهو يشوه الحق ويظلمه.
( لم يكن أهل الخير في عصر من عصور التاريخ أكثر عدداً من أهل الشر أو يساوونهم ، ولكن عصور الخير هي التي تمكن فيها أهل الخير من توجيه دفتها) مصطفى السباعي
إلهي غفرانك، فكم ذبحنا أنفسنا باسمك واسم دينك.
بقلم : محمود حسونة ( أبو فيصل )
تكرار المأساة بقلم : محمود حسونة
تاريخ النشر : 2017-02-16