حين أعد خالد الذكر سيد حجاب القصيدة، كانت أحداث المسلسل تتحدث عن فترة الامتيازات الأجنبية قبل ثورة يوليو في مصر، حيث سرح الخواجات ومرحوا، لكن الشاعر لم يقتصر في كلماته على تلك الفترة، بل امتد إلى فترة أواخر الثمانينات حين عرض مسلسل "الوسية"!
تلك هي العبقرية التي تجد دوماً طريقاً للتعبير الحر، للنقد في الزمن الصعب.
لم يكتف بـ "وسية" الخواجا، بل اندفع في شعره لانتقاد وسية أُخرى، لأناس من لحمه ودمه!:
ورجعنا تاني نعاني نفس الأسيه هياها هى مافرقتش في أي حاجه
وكأني طالع من وسية لوسية بس الخواجه هنا مهواش خواجه
نفس الوسية في كل حته ورانا مطرح ما نهرب نلق نفس العتامه
ممرمرانا فى رجلها مجرجرانا وكأني ده المكتوب ليوم القيامه
كان من المفروض، أن تدور كلمات الشاعر عن مضمون مسلسل "الوسية"، وهكذا فعل سيد حجاب، لكنه لم يكتف بذلك، فهو الذي يحيا في مجتمعه، ويرى ما يرى، فقد وجد أن هناك تشابهاً بين الوسيتين، المملوكة للخواجا، والمملوكة للقطط السمان! فراح يوجه النقد لها ويصب جام غضبه عليها، لأن الظلم واحد، بل ظلم ذوي القربى أشد مضاضة على الحر من وقع الحسام المهند!
وكلمة "الوسية" في العامية المصرية تعنى (العزبة) والتي هي كلمة عامية أيضاً، وهي تضاهي (الإقطاعية) التي يملكها الإقطاعي بمن فيها وعليها. والوسية بهذا المعنى لم تعد موجودة في مصر بعد ثورة يوليو 1952. وكانت كل وسية تسمى باسم صاحبها.
وكأن الشاعر سيد حجاب أراد النقد الاجتماعي والسياسي؛ فإذا غابت "الوسية" بمعنى العزبة، فإن هناك "وسية" جديدة ظهرت مرة أخرى في عهد الانفتاح، ولم ينتبه لذلك الرقيب على المصنفات الفنية حينئذ، ولو انتبه لحذف الأربعة أبيات التي ابتدأنا بها.
وكأني بسيد حجاب يعبّر عن أماكن أُخرى وأزمنة أُخرى في بلادنا، من هنا إلى هناك، في بلاد العرب أوطاني! وآن الأوان التخلص من "الوسيات"، قبل أن يجتاحنا مغولنا ومغول الخارج!
"مانتيش وسية احنا زهرة شبابك وكلنا سواسية بندق بابك
عاشقين ترابك ... كحلة العين هواكى ..واحنا فداك وبكره هنعيد شبابك".
أما المسلسل فهو الذي حمل اسم "الوسية"، فهو مسلسل اجتماعى إنساني عرض قصة حياة حقيقية للدكتور خليل حسن خليل، الفلاح المصري الذي عانى في عهد الباشاوات من الظلم والقهر والفقر ونهب الحقوق، وناضل حتى أصبح دكتوراً في إحدى جامعات ألمانيا، وهذا ما لم يظهر في المسلسل، حيث أنه كان من المفترض أن يكون هناك جزء ثان باسم "الوارثون". هذا الفلاح الدكتور هو خليل حسن خليل وهو كاتب الرواية الفريدة بأجزائها الأربعة.
كان ذلك عام 1990، وكان أول ظهور للنجم محمود حميدة، الذي أصبح بعد نجماً دفعة واحدة. شاركه في البطولة احمد عبد العزيز، ومحمد الدفراوي، ومحسنة توفيق، وشيرين، وحمدي أحمد. أما كلمات أغنية البداية والنهاية فكانت للمرحوم سيد حجاب، وألحان: ياسر عبد الرحمن، وأغاني: محمد الحلو، 1990، وهو من إخراج: إسماعيل عبد الحافظ.
بدأت احداث المسلسل بالصبي خليل وهو عائد في غاية الفرح إلى منزله الريفي وذلك لحصوله على المركز الأول في الابتدائية على مستوى محافظة الشرقية، فيفاجأ بأن أثاث منزلهم تم الحجز عليه، وهنا يعرف خليل حقيقة الواقع، وهو ان أباه الشيخ حسن قد أسرف في إقراض الناس دون الحصول على إيصالات تثبت حقه، حتى آل به الحال إلى الفقر والاقتراض، وهنا تبدأ معاناة خليل حيث يتعسر في إكمال دراسته لعدم امتلاكه المال الكافي، ثم يذهب للعمل في "الوسية" حيث يلاقي الظلم والمهانة، ومنها إلى الجيش، وهكذا حتى ينجح في الجمع بين عمله في الجيش والدراسة، فينهي الدراسة الجامعية ويذهب في بعثة للخارج.
تعرض المسلسل للظلم مهما كان شكله. في البداية كان الظلم متمثلاً في الخواجة (مصطلح يطلقه المصريون على الأجانب) الذي استولى على أرض المصريين ثم يأمرهم أن يزرعوها بمقابل بخس لا يكاد يكفي إطعامهم، ثم بعد ذلك يتحدث عن الجيش وما به من ظلم، حيث أشار إلى جندي المراسلة (مصطلح يستخدم في الجيش المصري) وكيف أن دوره تغير وصار دوره هو خدمة الضباط بل وأُسرهم أيضاً، وكيف أن هذا ظلم للجنود، ويساهم في انهيار معنوياتهم وقلة انتمائهم للمؤسسة العسكرية.
إنسانياً، زخر المسلسل بالمشاهد الإنسانية المؤثر وسأذكر بعضها. نبدأ بمشهد الجوع، عندما كان خليل وقريبه احمد لا يتناولان الطعام لمده يومين، وذلك لأنهم لا يذهبون حينها إلى المدرسة، وكيف أن سكان المنزل الذي يؤويهم يعانون أيضاً من الجوع.
عبقرية الثلاثة توائم الشاعر سيد حجاب والموسيقار ياسر عبد الرحمن والمغني محمد الحلو نقلت الميلودراما نقلة نوعية، بحيث أزعم أنها ساهمت في خلوده.
القصيدة الخالدة:
يتساءل الشاعر:
مين اللى قال الدنيا دي وسية.. فيها عبيد مناكيد وفيها السيد..
سوانا رب الناس سواسية.. لا حد فينا يزيد ولا يخس ايد
جينا الحياه زي الندى ابرياء.. لا رضعنا كدب ولا اتفطمنا برياء.
يكمل التساؤل لكن بتحد وأمل، وقد عمق ذلك ارتفاع اللحن وشدته:
طب ليه رمانا السيف على الزيف.. وكيف نواجهو غير بالصدق والكبرياء
عش يا ابن ادم بِكر زي الشجر.. موت وانت واقف زيه في مطرحك.
ولا تِنحِنى لمخلوق بشر او حجر .. وشب فوق مهما الزمان جرحك.
علماً أنه جعل العجز الأخير حاداً.
ثم ينتقل إلى وصف آلام المغترب في المدينة ومقاومته لآلامها، وهنا نجد الغناء والتلحين يحتدان في البيتين الأخيرين المبدوءين بـ: يا قوة الله، وحلي عني:
الفرق بينا وبين ولاد المدينة .. هما ولادها واحنا غرب في دروبها
الجوع قصادنا الخوف يكلبش ايدينا.. والخوف يذل النفس ويزيد كروبها
يا قوة الله حلي في عروقي حلي .. خليني اتبت فيكي واثبت محلي
وحلي عني يا رعشة الرعب حلي لأجل اني اصد الجوع اذا جه وحلي
أما هنا، فثمة مجال للسعادة والأمل:
دنيا جديدة تنفتح وبتاخدني بفتحلها عيني وقلبي وروحي
وافتحلها دراع ايدي اخدها في حضني ألاقي حزني داب وطابت جروحي
دنيا جديدة تنفتح لي دروبها بلاقي نفسي فيها واحضن خيالي
ها امد خطوي من شروقها لغروبها وان ليّلت احلامى شمس الليالى.
ولكن للأسف، لا تطول السعادة، حيث تعود "الوسية" بثوب جديد، وهو هنا يحتج ساخراً، هل ستظل المعاناة طوال العمر؟ ليوم القيامة؟ لذلك صرخ محتداً ومتمرداً في البيتين المبدوءين بـ: نفس الوسية وممرمرانا:
ورجعنا تاني نعاني نفس الأسيه.. هياها هى مافرقتش فى اي حاجه
وكأني طالع من وسية لوسية بس الخواجه هنا مهواش خواجه
نفس الوسية في كل حته ورانا مطرح ما نهرب نلق نفس العتامه
ممرمرانا في رجلها مجرجرانا وكأني ده المكتوب ليوم القيامه
وهنا تراه يتساءل بحزن يرثي سرقة الفرح، لكنه هنا بالرغم من حزنه يحتج ويطالب بالتغيير:
يا فرحة البكرية ومكنش يومك.. ليه متي ليه بتفرفري من بين ايديا
ورجعنا تاني يا دنيا نمضغ همومك.. اه ياحنا يا مقاتيل وملناش ديه
الفقر كافر ايوا والظلم كافر.. طاغوته فارد عالبيوت طايله سعده
لحد امتى يا ليل هنفضل نعافر.. والحق سافر بس مقطوع لسانه
أما تتر النهاية للمسلسل فكانت مثيرة للأمل:
وتستمر الحياه بين ابتسامة وآه .. فيها اللي تاه في دجاه واللي ضميره هداه
وكل ضيقه بعدها وسعه وهي دي الحقيقه بس منسيه
وكلنا ولاد تسعه وبنسعى ودي مش وسية الناس سواسيه
وتستمر الحياه بين ابتسامه واه.. فيها اللى تاه في دجاه و اللي ضميره هداه
لملم جروحك يا حزين وامشي خطوه كمان وتخف آلامك
واحلم بعين صاحيه ولا تنامشى غير لما تقطف زهر احلامك.
وهنا يختتمها بقوة وإصرار:
مانتيش وسية احنا زهرة شبابك وكلنا سواسية بندق بابك
عاشقين ترابك ... كحلة العين هواكى ..واحنا فداك و بكره هنعيد شبابك
عند بحثي عن نص قصيدة سيد حجاب، وجدت القصيدة كاملة، ووقعت على الجزء المتبقي منها، والذي لم يدخل في أغنية "تتر" البداية والنهاية، ولعل من المفيد قراءتها. يلتقي في هذا الجزء الرثاء والثورة والنقد والشكوى، لكنه ختمها بأمل بالخلاص، وأزعم أن هذه الأبيات ربما تعرضت للحذف من الأغنية بسبب الرقيب الذي خاف أن يجيزها خوفاً من استفزاز النخبة السياسية الحاكمة:
ابكى يا ريح ونوحِى وطوحينا ربا في بلدنا اتحكموا الغُرْب فينا
لحد إمتى يا دنيا هتسوحينا ونداري روحنا الدفينة
آه يازمن معيوب يا ايام سفيهة يا دنيا مقلوبة عاليها في وطيها
بقى يسرقونا ويتهمونا احنا فيها وغفيرها حرميها وكبيرها خاطيها
الأغراب بيكلوا لحمنا ويحرمونا وبيشربوا من سيل عرقنا ودمنا
نهوِى بكرباج يهوِى بيه يقومونا وازاي نقوم وهمومنا دي مكومانا
والفرحة جاية يادوب بفتح رموشى لقيتها رايحة وروحي رايحة وراها
يا دنيا ليه لياليكى مبيرحموشى ولا الشموس ولا فرحتى منوراها
وضحكتلى بعد القسا يا زمانى قربتلى حلم الطفولة السعيدة
خطوة كمان وهنول أرق الأمانى عالية البعيدة خلاص خلاص مهياش بعيدة
الوسية، الوارثون، أنتظر بقية الحكاية منذ 27 عاما!
لعل الجزء الثاني يصدر وفاء للدكتور خليل حسن خليل والشاعر سيد حجاب الذي عاش معنا وعشنا معه على مدار 4 عقود؛ وسيظل معنا طويلاً.
الوارثون: الجزء الثاني من الوسية متى يرى النور؟
ونحن متى نرى الحرية والعدل والمساواة والتنوير!
[email protected]
الوسية بقلم:تحسين يقين
تاريخ النشر : 2017-02-13