القدس العاصمة الدينية والروحية للأمة الإسلامية بقلم:د. تيسير رجب التميمي
تاريخ النشر : 2017-02-12
القدس العاصمة الدينية والروحية للأمة الإسلامية  بقلم:د. تيسير رجب التميمي


هذا هو الإسلام
القدس العاصمة الدينية والروحية للأمة الإسلامية
الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي قاضي قضاة فلسطين/رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس
القدس ؛ هذه المدينة العزيزة الغالية على قلوب المسلمين ، وعاصمتهم الدينية والروحية الثالثة بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة ، ومسجدها الأقصى المبارك درة مقدساتهم ، هي مدينتهم الحبيبة التي تعيش في ضمائرهم ، وصف الله سبحانه وتعالى أرضها وما حولها في القرآن الكريم بأنها أرض مباركة فقال عز وجل { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } الإسراء 1 .
فمدينة القدس المباركة هي محور معجزة الإسراء ، هذه الرحلة الربانية العجيبة التي رفعت محمداً صلى الله عليه وسلم إلى مكانة لم يبلغها نبي أو رسول قبله وهي سدرة المنتهى ، ومدينة القدس هي أيضاً جامع الأنبياء والمرسلين الذين صلى بهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في رحابه في منتهى رحلة المعراج ، الرحلة التي كانت نفحة روحية جعلها الله راحة لقلب نبيه وبشارة لنفسه وتثبيتاً لفؤاده ، وبهذه الثلاث فقد استقر نسب المدينة المقدسة ونسب المسجد الأقصى المبارك إلى أمة هذا الرسول الخاتم .
تمثل مدينة القدس وأرض فلسطين المباركة أرض رباطٍ وجهادٍ إلى يوم القيامة ، بيَّن لنا ذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم بقوله { يا معاذ إن الله سيفتح عليكم الشام من بعدي من العريش إلى الفرات رجالهم ونساؤهم وإماؤهم مرابطون إلى يوم القيامة فمن اتخذ ساحلاً من سواحل الشام أو ببيت المقدس فهو في جهاد إلى يوم القيامة } .
لكل ذلك استحقت هذه المدينة المباركة أن تكون جنة الدنيا وجنة الآخرة ، روى ابن عباس قول الرسول عليه الصلاة والسلام { من أراد أن ينظر إلى بقعة من الجنة فلينظر إلى بيت المقدس } ، واعتبر صلى الله عليه وسلم الإحرام منها بعمرة تكفيراً لما تقدم من الذنوب ؛ روت أم سلمة رضي الله عنها " من أهلّ بعمرة من بيت المقدس كانت له كفارة لما قبلها من الذنوب " فقالت أم حكيم رضي الله عنها : فخرجت من بيت المقدس بعمرة ، رواه ابن ماجه .
علم المسلمون عظيم الأجر على الجهاد والمرابطة في سبيل الله تعالى ، فقد قال تعالى { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } آل عمران 200 ، وقال صلى الله عليه وسلم { رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها } رواه البخاري ، فكيف به إذا كان في القدس أرض الرباط والجهاد إلى يوم الدين !
شهدت مدينة القدس أياماً عصيبة باحتلال الفرنجة مدة قاربت قرناً من الزمان ، عانى فيها المسلمون المرارة والبلاء والألم ، فتولَّد لديهم الأمل والتلهف لاسترجاعها والجهاد من أجلها ، إضافة إلى التعلق الروحي بها ، وتحولت هذه المدينة ذات الحرمة البالغة إلى رمز الجهاد والتحرير .
نزح أهل القدس تحت ضغط مذابح الفرنجة إلى الشام والتي كان منها ذبح سبعين ألفاً في ساحات المسجد الأقصى المبارك ، استقبل نور الدين المقدسيين في دمشق وقرّب علماءهم ، فثابروا على مساندة الجهاد وشاركوا في جيشه وجيش صلاح الدين ، الذي حررها من الفرنجة في ذكرى الإسراء والمعراج عام 583 للهجرة بعد موقعة حطين .
وفي رمضان عام 658 للهجرة كانت معركة عين جالوت بقيادة المظفر قطز شاهداً آخر على قيام الأمة بفريضة تحرير بيت المقدس وتخليصها من براثن الأعداء ، فقد تصدى كل من الظاهر بيبرس والمظفر قطز للغزو الوحشي التتري الذي اجتاح العالم الإسلامي حتى انهزموا شر هزيمة ، ثم حررت نهائياً على يد الأشرف خليل بن قلاوون .
وفي التاريخ المنتظر الذي ستنتهي في إثره الحياة الدنيا ، ستكون القدس أرضه ومسرحه :
فسيبدأ بسيطرة الكفر وانتصاره وانتشاره في آخر الزمان ، وستكون القدس يومها ملاذاً للناس وعصمة لهم ، ففيها خلافة المهدي ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه عن خروج الدجال { فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات ... قيل يا رسول الله فأين العرب يومئذ ؟ قال " هم يومئذ قليل وجُلُّهم ببيت المقدس ، وإمامهم المهدي رجل صالح منا أهل البيت ... } رواه ابن ماجه ،
وفيها سينزل سيدنا عيسى عليه السلام وسيصلي بإمامة المهدي في بيت المقدس ، فيتبعه المسلمون ، فإذا خرج الدجال على الناس فإنه { سيظهر على الأرض كلها إلا الحرم وبيت المقدس } رواه أحمد .
وفيها أيضاً ستكون نهاية الدجال حيث { يخرج إليه شِرار أهل المدينة حتى يأتي فلسطين بباب لُدٍّ فينزل عيسى عليه السلام فيقتله } رواه أحمد .
أما نهاية من شايع الدجّال ـ وهم اليهود ـ فتكون على أيدي المسلمين ، حيث سيتوارَوْن وراء الشجر والحجر فينطق الشجر والحجر دالاّن على أعدائهم بلسان الحال أو المقال ، قال صلى الله عليه وسلم { لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون ، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلاَّ الغرقد فإنه من شجر اليهود } رواه مسلم .
وفيها سيكون { مهلك يأجوج ومأجوج أعظم الأمم إفساداً في الأرض ، الذين يخرجون على الناس ويسيرون حتى ينتهوا إلى جبل بيت المقدس ، ويخرّبون ثروات الأرض ويشربون ماءها ويكونون مصدر تهديد ، حتى إن سيدنا عيسى عليه السلام والمسلمون معه يَتَحَصَّنُون منهم ، فيتضرعون إلى الله بالدعاء ، فتهلك يأجوج ومأجوج } رواه مسلم .
إذن : فقد علم المسلمون على مدار تاريخهم المجيد ما تمثله هذه المدينة المباركة في عقيدتهم ، فتعلقت بها قلوبهم وحرسوها وكرّموها ، وهبُّوا للدفاع عنها وافتدائها بالمهج والأرواح كلما تعرضت للغزو أو الاحتلال ، واعتبروا التخلي عنها تفريطاً في العقيدة لا يمكن أن يصبروا عليه لأنه طعنٌ لهم في عزتهم وكرامتهم ومظهرٌ لهوانهم .
وتتنوع المؤامرات الرامية اليوم إلى النيل من القدس المباركة ومن عروبتها وإسلاميتها ، وكل يوم تطلع فيه الشمس نستيقظ على مخطط جديد يستهدف المشهد الحضاري لهذه المدينة المحتلة وتراثها التاريخي ، فهي لا تنحصر في الإجراءات اليومية التي تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيلية فيها على نطاق واسع من تطهير عرقي وحفريات وحماية اليهود الذين يقتحمون المسجد الأقصى المبارك يومياً ومنع المسلمين دخوله والصلاة فيه ، فهي تسابق الزمن في العدوان عليها وعلى أهلها وأرضها ومقدساتها وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك ، بل الجديد في تلك المؤامرات هو تنافس كثير من ساسة العالم وشخصياته في التزلّف إلى غاصبها بتزييف الحقائق التاريخية لتأييد روايته ، وبالترويج لفكرة جذوره المزعومة فيها لإيهام العالم بصدقها ، الأمر الذي لم تقم على إثباته بيّنة معتبرة لدى المختصين الذين أجمعوا على نفي هذه الادعاءات والافتراءات الكاذبة .
فهل يمكن لهذه الأمة مثلاً أن تسكت على التصريحات المستنكرة للأمين العام الجديد لهيئة الأمم المتحدة والتي أدلى بها قبل أيام في حديثه للإذاعة الإسرائيلية ؟ هل يمكن لها أن تسكت على محاولته تغيير هوية مدينة القدس المحتلة والمسجد الأقصى المبارك ونسبته إلى اليهود ؟ فمن الواضح أن هذا الأمين العام الجديد قد دشَّن عهده بالسعي إلى استرضاء سلطات الاحتلال الإسرائيلية الغاضبة من قرارات اليونسكو بشأن هوية المسجد الأقصى المبارك ، ومن قرار مجلس الأمن الدولي الذي صدر مؤخراً بإدانة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة ، هذه السلطات الغاشمة التي هددت هيئته الدولية بمعاقبتها وحرمانها المساهمة في ميزانيتها ، بل ومن الأوضح أنه يريد التساوق مع سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة ترامب والتناغم مع توجّهاته العنصرية ضد المسلمين والقضية الفلسطينية .
لقد كان الأجدر بجوترس كممثل لدول العالم أجمع الاتصاف بالتجرّد والموضوعية والحَيْدَة الكاملة ، والأولى به الالتزام بقرارات الشرعية الدولية التي هو رأس هرمها ، وتجنّب مناصرة طرف على حساب الطرف الآخر في القضايا محل النزاع بين الشعوب والدول الأعضاء في المنظمة الأممية ، ولذلك يجب عليه التراجع فوراً وسحب هذه التصريحات المسيئة للعالم الإسلامي ، وتقديم الاعتذار للأمة الإسلامية عن هذه الإساءة الفاحشة ، فالمسجد الأقصى المبارك جزء من عقيدة مليار وسبعمائة مليون مسلم ، وإلا فعليه أن يقدم استقالته من هذا المنصب الذي لا يستحقه ما دام بهذا الانحياز العلنيّ الصارخ ، فالأصل أنْ لا مكان لإيمان الأمين العام للأمم المتحدة وقناعاته الشخصية في عمله وممارسته وظائفه .
وبما أن المسلمين يختصون وحدهم بالمسجد الأقصى المبارك دون غيرهم ، وبما أن الله سبحانه وتعالى قرر هويته الإسلامية هذه من فوق سبع سماوات منذ خمسة عشر قرناً ، ثم قررت الشرعية الدولية ذلك فيما بعد ، فالمطلوب من الأمة جميعاً بكل حكامها وشعوبها ومؤسساتها اتخاذ مواقف حازمة وحاسمة جدية تجاه هذه التصريحات اللامسؤولة ، وتحمّل كامل مسؤولياتها تجاه مدينة القدس المحتلة والمسجد الأقصى المبارك الأسير ، والتصدي للانتهاكات اليومية التي تمس قدسيتهما ولمخططات تهويدهما العلنية ، فالمؤامرة الخبيثة عليهما تستدعي تضافر كل الجهود للذود عنهما وحمايتهما من الأخطار المحدقة بهما .