في الذكرى الخامسة لوفاته عبد الـحميد مـهري:الـمفكر والأفكار بقـلم:د.محمد سيف الإسلام بوفـلاقـة
تاريخ النشر : 2017-02-09
في الذكرى الخامسة لوفاته عبد الـحميد مـهري:الـمفكر والأفكار  بقـلم:د.محمد سيف الإسلام بوفـلاقـة


في الذكرى الخامسة لوفاته
عبد الـحميد مـهري:الـمفكر والأفكار
بقـلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بوفـلاقـة
قسم الأدب العربي- جامعة عنابة-
المفكر والمجاهد الوطني المخلص الأستاذ عبد الحميد مهري-رحمه الله- (3 أبريل1926 - 30 يناير2012م)،رزئت بفقده الأمة الجزائرية كلها،لأنه كرس حياته في سبيل خدمتها منذ النشأة إلى الأيام الأخيرة من حياته،فهو ابن الجزائر البار الوفي ،والمخلص، والغيور على قيم ،وثوابت الأمة الجزائرية، عرف بشخصيته الفذة، وأفكاره النيرة ،وأعماله العظيمة،إضافة إلى بساطته، وتواضعه ،فكل من عرف الأستاذ مهري، وتعامل معه عن قرب يؤكد على أنه كان نموذجاً راقياً للدماثة، والنبل، وسماحة الخلق، والتواضع،وكما يصفه الدكتور علي بن محمد فهو المثال ،والقدوة لتلاميذه، وزملائه،ويجد الجميع في شخصه ذروة سامقة يلتقي فيها العلم، والأخلاق، وعزة النفس في تواضع يمهد الطريق السالك إلى كل القلوب. وما ينبغي التأكيد عليه في ذكرى وفاته هو أن الأستاذ العظيم عبد الحميد مهري ،وإن كان قد رحل عن الوجود بشخصه المادي،فإن رؤاه ،وأفكاره ،ومواقفه الخالدة ستظل نبراساً يضيء دروب الأجيال،ولا ريب في أن خلوده يمنح الأمة بعض الصبر ،والعوض لفقدانه،ويدفع الأجيال للتنقيب عن آثاره،والاقتداء بعلمه، وفكره، وأخلاقه،والسعي الحثيث إلى تحقيق ما لم يتحقق من آماله ،وأفكاره وطموحاته.

إن من يتابع مسيرة الأستاذ المفكر عبد الحميد مهري الثرية بالمنجزات، والأعمال، والمواقف الخالدة يتيقن أن الرجل لم يهدر وقته في التافه من الأشياء،فلقد كانت حياته كلها كفاح ،ونضال، وعمل وإنتاج ،وكل جزائري يحق له أن يفتخر بذلك المناضل الفذ، والمجاهد العظيم ،والسياسي المحنك.
لقد كان رجل الإجماع الوطني-رحمه الله-كوكباً مضيئاً ،وسراجاً منيراً بحكمته، وعلمه، وجهوده الجبارة في سبيل خدمة وطنه،ولقد حفرت الجزائر اسمه في سجلات العظماء الخالدين.
إن ذكرى رحيله تذكرنا بشهادة شيخ المؤرخين الجزائريين الدكتور( أبو القاسم سعد الله) التي أدلى بها عن شخصيته الفذة،ولاسيما قوله:«...كثر هم الزعماء الذين نسجوا حول أنفسهم هالة الزعامة بحق أو بغير حق.أما عبد الحميد مهري(رحمه الله)فهو زعيم بالطبيعة رغم أنه ابتعد عن الهالة،ولكنها بحثت عنه وأحاطته بضوئها.فأنت إذا رأيته في تواضعه تقول ما أبعده عن الزعامة التي يتبختر في حللها الأدعياء،ولكنك إذا تأملت في عمق تفكيره وطريقة إقناعه حكمت بأن الزعامة خلقت له أو خلق لها...
وأقول بالمناسبة إن سي مهري بعيد عن الحماس والاندفاع،فلا تراه يقذف قادته أو زملاءه بالتهم المباشرة أو يكيل لهم المدح والثناء،أو يجعل من نفسه بطلاً والآخرين أقزاماً.كان يجيب وكأنه يخشى وخز الضمير أو سيف التاريخ أو إدانة قاض صارم الأحكام...رغم أنه رجل سياسي عريق،فإنه كان لا يتحفظ من إطلاق نكت جادة ودعابة،وهي في العادة نكت أطرافها جزائريون وشرقيون حدثت خاصة أيام الثورة.وكانت له قدرة نادرة على إطلاق النكتة-وهي غالباً سياسية-بشكل عفوي هادئ تنتهي بفرقعات من الضحك البريء.وله عند سرد النكتة حركات بطيئة،جسمية، ويدوية،كالتلفت والإشارة ورفع العينين المختبئتين وراء نظارات سميكة ».
أود أن أتوقف من خلال هذه الورقة مع جملة من الأفكار التي قدمها الأستاذ عبد الحميد مهري من خلال مجموعة من المقالات المتميزة التي نشرها في جريدة«المنار»الجزائرية العريقة، وقبل تقديم رؤى رجل الإجماع الوطني ،تجدر الإشارة إلى أن جريدة«المنار» قد ساهمت مساهمة فعالة في بث الوعي الوطني وروح الثورة ضد الاستعمار الفرنسي،وقد أنشأها الأستاذ محمود بوزوزو،و برزالعدد الأول منها بتاريخ: الجمعة 21 جمادي الثانية 1370 هــــ - 29 مارس 1951 م ،وتوقفت عن الصدور في يوم الجمعة26 ربيع الثاني 1373 هــــ-الموافق لأول يناير1954م(العدد الواحد والخمسون).
وقد كتب بجانب اسم الجريدة،جريدة سياسية ثقافية دينية حرة،نصف شهرية مؤقتاً.
ويتضح للمطلع على فهرست جريدة«المنار» أن الموضوع الذي كان يستحوذ قدراً كبيراً من اهتماماتها،و يشغل حيزاً كبيراً من صفحات الجريدة هو موضوع الحركة الوطنية على مستوى المغرب العربي،حيث نلفي عدداً كبيراً من المقالات تركز على الحركات التحررية في دول المغرب العربي،وأغلب المقالات تنتقد بشجاعة نادرة في ذلك الزمن ممارسات الاستدمار الفرنسي، وجرائمه ضد سكان المغرب العربي،كما نلفي في الكثير من المقالات دعوات واضحة لإعلان ثورة شاملة في المغرب العربي للتحرر من مظالم الاستعمار الفرنسي.
وهذا ما جعل الكثير من الدارسين والمؤرخين يذهبون إلى أن الجريدة الوحيدة التي نظمت استفتاء حول اقتراب اندلاع ثورة التحرير المظفرة هي جريدة«المنار» الجزائرية لصاحبها محمود بوزوزو-رحمه الله-.
إن ما نلاحظه بالنسبة إلى الجوانب الأسلوبية واللغوية في كتابات الأستاذ عبد الحميد مهري،هو أن أسلوبه يتميز باستقامة العبارة والوضوح والدقة، والمتأمل في كتابات الأستاذ مهري يعجب بأسلوبه الطلي في الكتابة،ويشعر بلذة في يسره، وانتقاله بالقارئ من فكرة إلى أخرى،ومن معنى إلى آخر،إضافة إلى تميز كتاباته بشحنات دلالية عميقة ،ومواقف إنسانية نبيلة،وقد وصف الدكتور علي بن محمد مقالات الأستاذ عبد الحميد مهري بأنها تتميز ببساطة لا متناهية وفيها يسجل مواقف لابد من صفحات وصفحات للتعبير عنها،دائماً ينطلق من مقاربات سياسية وسرعان ما يربطها بالواقع،فهو براغماتي وواقعي وبارع في اختيار الكلمات،ومن هنا كان نجاحه في المؤتمر القومي العربي.
والحق أن مقالات الأستاذ مهري المنشورة في مختلف الصحف والمجلات الوطنية والعربية هي كنوز متناثرة تستصرخ الباحثين والدارسين للنهوض بجمعها وطباعتها،وإنجاز أبحاث ودراسات عنها لاكتشاف مضامينها العميقة،وأفكارها النيرة التي تعود بالفائدة الجمة على شباب هذه الأمة. فالأستاذ مهري هو كتاب يختزن مسيرة شعب ونضال أمة.
من بين المقالات المهمة التي كتبها المفكر الأستاذ عبد الحميد مهري بجريدة«المنار»:
-1-«يجب أن تخرج القضية الجزائرية إلى الميدان العالمي»:
وهو واحد من المقالات التي تضمنت موقفاً انتقادياً واضحاً لسياسة الاستدمار الفرنسي في تلك الفترة،ودعوة صريحة إلى توحد شعوب المغرب العربي في المطالبة بحقوقها واستقلالها .
كتب الأستاذ مهري هذا المقال بمناسبة الذكرى السابعة للإعلان عن ميثاق الأمم المتحدة،و نُشر في العدد العاشر من جريدة«المنار» بتاريخ:الجمعة4صفر1372هـــ-24أكتوبر1952م، وقد تساءل الأستاذ عبد الحميد مهري في مستهل هذا المقال عن الأسباب التي حالت دون رفع قضية الجزائر إلى هيئة الأمم المتحدة،حيث يقول«يتساءل الناس لماذا لم ترفع قضية الجزائر إلى هيئة الأمم المتحدة،ولهذا التساؤل معناه،فالقضية الجزائرية يجب أن تخرج إلى الميدان العالمي،ولكن هذا لا يتأتى إلا باجتماع كلمة الأحزاب ،وانتظام الكفاح في الداخل أولاً...
-2-«بين ألمانيا والعرب»: كتب الأستاذ عبد الحميد مهري هذا المقال بعد الاتفاقية التي عقدت بين ألمانيا الغربية وإسرائيل في 10سبتمبر1952م،والتي تنص على التزام ألمانيا بدفع3مليارات و450مليون من الماركات إلى حكومة إسرائيل،وذلك تعويضاً لهم.. .وقد قدم الأستاذ عبد الحميد مهري من خلال هذا المقال تحليلاً لوقائع العلاقات العربية الألمانية بعد توقيع هذه الاتفاقية،وأوضح تأثيرات هذه الاتفاقية على هذه العلاقات،وقد نشر هذا المقال في العدد:12،بتاريخ الجمعة11ربيع الأول1972هـــ-28نوفمبر1952م.
انطلق الأستاذ عبد الحميد مهري في مقاله هذا من التأكيد على توتر العلاقات بين ألمانيا والعرب بعد توقيع الاتفاقية المذكورة،وأشار إلى أن ألمانيا تريد بهذه الاتفاقية تنفيذ التزاماتها الأدبية للغربيين بتعويض المضطهدين في العهد النازي عما لحقهم من أضرار،بيد أن الدول العربية التي ما تزال قانونياً في حالة حرب مع إسرائيل رأت في هذه الاتفاقية خطراً يهدد كيانها،لأن إسرائيل ستستعمل هذه التعويضات في تقوية إنتاجها الصناعي والحربي وقد اجتمعت كلمة الدول العربية في الاجتماع الأخير الذي عقدته اللجنة السياسية للجامعة العربية على مقاطعة ألمانيا اقتصادياً إذا صادق البرلمان الألماني على هذه الاتفاقية،ولكنها أرجأت تنفيذ قرارها حتى تتم المفاوضات مع ألمانيا.
-3-«أدباؤنا لا يؤمنون برسالة أدبية»:
كتب الأستاذ عبد الحميد مهري هذا المقال مساهمة منه في المناقشة الأدبية والفكرية التي شارك فيها عدد كبير من الكتاب والأدباء،وقد أثار هذه المناقشة الفكرية والأدبية الأستاذ الأديب عبد الوهاب بن منصور في مقاله الموسوم ب«مالهم لا ينطقون»،وقد نُشر مقال الأستاذ عبد الحميد مهري في العدد:15، بتاريخ:الجمعة22ربيع الثاني1972هــــ-الموافق ل09 جانفي 1953 م،ويبدو أن هذا المقال هو أطول المقالات التي كتبها الأستاذ مهري، ويُبرز ثقافة الأستاذ عبد الحميد مهري الأدبية،وحسه الفني والنقدي الراقي،كما يجلي عمق تحاليله ورؤاه لحقيقة الرسالة الأدبية.
ومنذ البداية يقدم دعوة إلى ضرورة تنشيط الحركة الأدبية، وقد قسم الأستاذ المفكر عبد الحميد مهري مقاله هذا إلى ثلاثة أقسام رئيسة :
أ-البطالة الفكرية:وقد أرجع الأستاذ عبد الحميد مهري أسبابها إلى الجمود فيما يكتب وينشر بين الناس،وفيما يكتب ولا ينشر بين الناس، و في أفكارنا حين نكتب أو نحاول الكتابة، وفي نظر الأستاذ مهري أن تطور هذا الجمود تدريجياً هو الذي أصبح عند الكثير من أدبائنا بطالة فكرية، يشقى بها أصحابها، ويشقى بها من ينتظر من أصحابها إنتاجا يسد حاجته الأدبية التي تزيد إلحاحا كلما زادت البطالة الفكرية استفحالا.
ب-صعاب لا أسباب: يعترف الأستاذ عبد الحميد مهري في هذا القسم من مقاله بأن الظروف القائمة في الجزائر في تلك الفترة وهي سنة:1952م،حينما كانت الجزائر ترزح تحت نير الاستدمار الفرنسي لا تساعد على الإنتاج،ولا تساعد عليه كما أشار إلى ذلك الأستاذ محمود بوزوزو في مجموعة من المقالات التي نُشرت في الأعداد الأولى من جريدة «المنار»، كما أن الظروف المادية ليست متوافرة كلها أو بعضها على الأقل.
ولكن الأستاذ مهري يتساءل من جديد:هل يمكن أن يطمئن الإنسان إلى أن هذه هي الأسباب الحقيقية لركود الحياة الأدبية في الجزائر إلى هذا الحد؟ وهل معنى هذا أنه إذا توافرت الظروف المادية للأديب الجزائري وتقلص ظل الأوضاع القائمة قليلاً تفتقت قرائح الأدباء من تلقاء نفسها وأصبحت تمدنا بإنتاج دسم خصب يبعث في جونا الأدبي الدفء والحياة؟ إنني أشك في ذلك، ولنفرض أن هذه هي الأسباب الحقيقية لركود الحياة الأدبية في الجزائر،فعلى يد من ينتظر الأدباء أن تزول هذه الأسباب؟ولنفرض-وهذا الفرض محتمل جداً-أنه لا تمتد يد ولا درهم و لا ينطق لسان لإزالة هذه الأشواك والعراقيل من طريق الأدباء ،فهل سيظلون أبد الظهر ينتظرون(نصر الله)كما يقال؟
ويقرر الأستاذ مهري في الأخير أن سبيل النهضات الأدبية لم تكن دائماً مفروشة بالورود،فكان الأدباء الذي يحملون مشعل الأدب في مستهلها يلاقون من العنت والسخرية والجحود الشيء الكثير،ولكنهم كانوا يستمدون من هذه السخرية وهذا العنت والجحود مادة لإنتاج قوي خصب ظل خالداً على مدى الدهور وكانوا ينتصرون آخر الأمر،لأنهم كانوا يؤمنون برسالة الأديب إيماناً لا يخامرهم فيه شك ولا يتطرق إليهم فيه ريب.
ج-السبب الأصلي:يذهب الأستاذ عبد الحميد مهري في ختام هذا المقال إلى التأكيد على أن السبب الحقيقي لسكوت الأدباء هو أنهم لا يؤمنون إيماناً صادقاً برسالتهم الأدبية،حيث يقول عن هذا الأمر موضحاً رؤيته بقوة ومستنداً إلى أدلة دامغة:« لو كان الأدباء الجزائريون يؤمنون برسالة أدبية ويتصورونها تصوراً يطمئنون إليه لما رضوا لأنفسهم الانهزام أمام هذه العراقيل التي عرفتها النهضات الأدبية في كل بلاد دون أن يحاولوا حتى الدفاع عن هذه الرسالة التي يؤمنون بها ويطمئنون إليها ولو كان الأدباء الجزائريون يؤمنون برسالتهم الأدبية ويتصورونها تصوراً يطمئنون إليه لحاولوا على الأقل جمع شتاتهم في فئة تنافح عن الأدب وتدافع عن رسالته وتجمع من حولها المنتصرين له والمشتغلين به من الأجيال الناشئة.ولو فعل أدباؤنا ذلك لضمنوا لأنفسهم على الأقل حياة أدبية خالصة لهم من دون القراء ومن دون أصحاب المطابع، ودور النشر.
وبعد ما ذا أقول؟ لقد وجدت السياسة من يؤمن برسالتها ويدافع عنها، ففرضت نفسها على الناس، وجمعت حولها الأنصار، والمؤيدين ووجد التعليم العربي الحر من يؤمن برسالته ويدافع عنها ،فتمكن من الاستقرار والانتشار وجمع حوله الأنصار والمؤيدين،أما الأدب فلم يجد من يؤمن برسالته ويدافع عنها،أو على الأصح فقد هؤلاء الذين يؤمنون برسالته ويدافعون عنها،فوقف في الطريق ينتظر من يأخذ بيده...؟».


الدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقة
عضو هيئة التدريس في قسم اللغة العربية بجامعة عنابة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العنوان:
الدكتور مـحمد سيف الإسلام بــوفـلاقـة
البريد الإلكتروني : [email protected]