أبوة العلماء بقلم: د. خالد عبداللطيف
تاريخ النشر : 2017-01-15
أبوة العلماء بقلم: د. خالد عبداللطيف


المدير التنفيذى لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا

,رئيس تحرير جريدة الأمة العربية
ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
مما لا شك فيه أن من فضلِ الله – تعالى – على أمَّة الإسلام أنْ سخَّر لها من الرجال مَن حفِظ بهم الدينَ، وأنار بهم السبيلَ، فانبرى منهم لكل عِلمٍ جهابذةٌ، وجَمـَع بعضهم من أنواع العلوم ما يجعل الباحثَ في مبلغ أحدهم من كل عِلم يقول: هو عَلَمُه، وإليه مرجعُه، وقد يتساءل: كيف لرَجُلٍ أن يجمع بين علوم شتَّى مختلفة؟ وفي ظِل الرأي المُنَادِي بالتخصص في عصرنا – مع وجاهته – يُوقِن أن ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء.
وينظر الإنسان العادي – بل وغيره ممن بلغ من العِلم مستوى عاليًا – إلى رِجال من العلماء في أحوالهم الخاصة، وقد اشتهروا بالشدة والشجاعة، والحزم والهيبة، والزهد في الدنيا، فيأخذه الفِكْر: هل بلغ بهم الزُهد ألا يتزوجوا؟ هل لهم أبناء؟ وكيف هم مع أبنائهم؟ بل إن صورة أحدهم في المُخيلة قد تذهب إلى رؤيته جامدًا جافًّا مع بَنِيه؛ لا يأبه بمرض أحدهم، أو موته، فضلاً عن مولِده، وحتى لا يبدو هذا مُبالغةً في التصوير؛ سأذكر الدافع لاعتقاد ذلك، وهما سببانِ رئيسان مبنيان على جانبين؛ الأول منهما يختص بالناظِر إلى حال العالِم، والثاني يختص بالعالِم نفسه، كما يلي:
قد يكون السبب قصورًا في التصوُّر من قِبل الناظر، الغالب فيه الاطِّلاع على ظواهر حياة أولئك العظماء دون بواطن شؤونهم، فيحكم ويبني تصوُّرَه على الهيبة والوقار الظاهري، وأنها تتنافى مع الرأفة والعطف والحنان، وقد يعتقد أن العِلم أو المهمات العظيمة تستولي على حياة الإنسان ووقته كله، فلا يبقى لأهلِه وولده بعد ذلك وقتٌ.
وهنا فائدة تربوية عظيمة لا بد أن ينتبه لها الوالدان، وهي الحرص في تربية الأبناء على التروي في إصدار الأحكام على الناس، وبناء الرأي – إذا احتيج إليه – عن إنسان معيَّن، بعد محاولة جادة وموضوعية لاستقراء المعلومات التي تخصه، مستصحبين حُسنَ الظن في كل ذلك، وأننا مهما حاولنا ستظل هناك نسبة من الخطأ، يقول الدكتور عبدالكريم بكار: “إن مما يجب أن نوضحه لطلابنا وأبنائنا أن استقراءنا للمعلومات في أي قضية، يشوبه دائمًا نوعٌ من النقص والقصور، كما أن المعلومات المتوفرة باتتْ تتعرض للتزوير والمتاجرة والتوظيف غير الموضوعي؛ أي: إن كثيرًا مما يذاع وينشر، ويقال ويتداول من معلومات حول مختلف القضايا، لا يتمتع دائمًا بالمصداقية، وهذا يدْعونا إلى ألاَّ نعول كثيرًا على المعلومات المتاحة في أي قضية، وفي أي مجال، وأن ننمي في المقابل معارفنا في مجال سنن الله – تعالى – في الخلق”[1].
أمَّا السبب الذي يختص بالعالِم نفسه، فهو وقوع بعض الحالات القليلة، ومنها على سبيل المثال ما كان من الأقرع بن حابس – رضي الله عنه – مع النبي – صلى الله عليه وسلم – حين رآه يقبِّل الحسنَ بن علي، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولد ما قبَّلتُ منهم أحدًا، فنظر إليه رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – ثم قال: ((من لا يرحم لا يُرحم))[2].
ولعل دوافعَ أمثال هذا السلوك متعددةٌ؛ منها اختلاف طبائع النفوس وتفاوتُها في عاطفة الرحمة والشفقة، وقد تسيطر فكرةُ الرجولة وتناقُضها مع الرحمة والحنان على عددٍ ليس بالقليل من الناس، وفي حالات أخرى يكون الدافع فهمًا محدودًا لمسألة الإيمان بالقضاء والقدر، وأنه قد يتنافى مع إظهار الحزن ودمْع العين، وفي علاج الدافع الأخير بيَّن النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – عمليًّا بطلانَ هذا الاعتقاد كثيرًا من خلال مواقفَ متعددةٍ، منها ما يرويه أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: دخلنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على أبي سيف القين، وكان ظئرًا لإبراهيم، فأخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إبراهيمَ فقبَّله وشمَّه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيمُ يجود بنفسه، فجعلتْ عينا رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – تذرفان، فقال له عبدالرحمن بن عوف – رضي الله عنه -: وأنت يا رسول الله؟! فقال: ((يا ابن عوف، إنها رحمة))، ثم أتبعها بأخرى، فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربَّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيمُ لمحزونون))[3].
وضحت فيما سبق سببين رئيسين يدْفعان إلى النظرة القاصرة في جانب واحد من حياة علمائنا العظام، وهو الجانب العلمي، وفيما يلي أريد تسليطَ الضوء على جانبٍ آخرَ من حياتهم، يلامس العاطفةَ، ويثير المشاعرَ، تأنس النفوسُ بمعرفته، وتنشرح الصدورُ ببيانه؛ لعلها تتَّخذ منهم القدوة فيه كما كانوا قدوة في غيره، فكيف كانت علاقتهم بأبنائهم؟
وجدتُ فيما نُقل إلينا ما يُبيِّن أن علماءنا وسلفنا الصالح جمعوا مع علومهم أبوةً حانية، وعاطفةً جياشة، لا يعني عدمُ عِلم البعض بها انتفاءَها عنهم وفقْدهم لها، ولم ينقضِ عجبي من بعض النصوص التي سيأتي بيانُها؛ لما بيَّنتْه من نبل عاطفة القوم، ورقَّة قلوبهم، ولعلي أقتصر على ما نقله ابن أبي الدنيا في كتاب “العيال”، ضمن باب عنونه بـ: باب في العطف على البنين والمحبة لهم[4]، ذكر فيه عددًا من الأحاديث والآثار والأشعار التي بيَّنتْ حالَ عدد من رجال السلف مع أبنائهم.
ونبدأ بذلك العَلَم الذي يفرُّ الشيطانُ منه، عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فكيف كان حاله مع ابنه عبدالله؟
قال عمر بن الخطاب: “ما من أهلٍ، ولا مال، ولا ولد، إلا وأنا أحبُّ أن أقول عليه: إنا لله وإنا إليه راجعون، إلا عبدالله بن عمر، فإني أحبُّ أن يبقى في الناس بعدي”، قد يجد البعض في كلام عمر – رضي الله عنه – أمرًا شائعًا بين الآباء، فما من أبٍ إلا وهو يتمنَّى لابنه الحياةَ بعده، ولا يتمنى أن يراه ميتًا بين يديه، ولكن الجميل هنا التصريح بذلك، فكيف يا ترى يكون وقعُه في نفس الابن؟ إن من المهم أن يسمع الأبناءُ كلماتِ الثناء والحفاوة بهم؛ لما لذلك من قيمةٍ تربوية رائعة، فحين يتبيَّن الابنُ منزلتَه من نفس والديه من خلال الكلمات المنطوقة، وتجتمع إلى ما عهده منهما فعلاً ملموسًا، فيفرح ويزداد حبًّا لهما، وعطفًا عليهما، فلا أفضل من اجتماع القول والفعل في مثل هذه المواقف.
وهكذا يغرس الأبُ الحاني – عمرُ رضي الله عنه – تلك الطريقةَ التربوية في نفس الابن، فتغدوا دأبًا لعبدالله بن عمر – رضي الله عنه – مع ابنه سالم، عن زيد بن محمد، عن نافع، قال: كان ابن عمر إذا لقي ابنه سالمًا قَبَّلَهُ، ويقول: “شَيخٌ يُقَبِّلُ شَيْخًا”، وفي هذا النصِّ – بالإضافة لما سبق – قليل الكلمات، عظيم الفوائد، أقف مُتعجبة مما سوف تزرعه في عقل الابن وقلبه، فالأب بالتأكيد لا يقصد إلا المشيخة العلمية، ويرى في ابنه ما يؤهله لذلك، ويتوسَّم فيه الخير، وهي تربيةٌ بالإيحاء والإشارة لما يُعِدُّه له، ويتمنى أن يراه عليه في المستقبل، وأنه لا يرضى له بأن يكون أقلَّ من ذلك، وقد كان كما قال الأب، فسالمٌ صار فقيهًا عابدًا فاضلاً، يُشبَّه بأبيه في الهدي والسمت.
ولمَّا عُوتب عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما – في حُبِّ سالم، قال:
يَلُومُونَنِي فِي سَالِمٍ وَأَلُومُهُمْ وَجِلْدَةُ بَيْنَ العَيْنِ وَالأَنْفِ سَالِمُ
وحدَّث أبو الحسن الشيباني أن شيخًا من أهل الكوفة، قال: رأيتُ ابنًا لمسعر بن كِدَام حَدَثًا، وثب على مِسعر فعضَّ يده حتى تَلَوَّى الشيخ من عضته، ثم رأيته من غدٍ مُتَنكِّبًا فرسًا له مع شباب أهل الكوفة، فَمَرَّ بمِسعرٍ، فقال مِسعر: لقد صنعَ بي بالأمس ما رأيتم، وما نفس أعز عليَّ منه.
وهنا يظهر حرص هذا العالِمِ الجليل، الأب الحنون، على إسماع من حوله – ممن شهد الموقف – بقاء معزة ابنه ومحبَّته، وعدم تأثُّرها بمثل بما حصل، فأعطى درسًا تربويًّا عاليًا في التجاوز عن هفوات الأبناء، في مرحلة الطفولة؛ بل حتى المراهقة.
وعلى مثل هذا الأثرِ علَّق الدكتور نجم خلف بقوله: إن من سَبَر سِير النبلاء من المربِّين والمصلحين – وعلى رأسهم الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام – وجد أنهم كانوا أرفقَ الناس بأبنائهم وأهليهم، ولربما يقف واقف من أهل الغفلة عن هذا الأصل السلوكي – على هذه النصوص، فيظن أن فيها رخاوةً وليونة وتسيبًا في التربية، وإخلالاً بواجب التأديب، فيرى أن مثل هذه النصوص غير جديرة بالاقتفاء والاقتداء[5].
أما سفيان الثوري، فقد ضرب نماذجَ أخرى فريدةً من نوعها، مليئة بالمبادئ والقيم التربوية، تفيض رحمة وشفقة وحرصًا؛ فعن الأشجعي قال: كُنا مع سفيان الثوري، فَمَرَّ ابنه سعيد، فقال: ترون هذا؟ ما جفَوتُه قط، ورُبَّما دعاني وأنا في صلاة غير مكتوبة، فأقطعها له.
وعن الأشجعي، قال: رأيت سفيان يحجم ابنه، والصبي يبكي، وسفيان يبكي لبكائه.
قيل لسفيان: ما بلغ من وَجْدك على ابنك؟ قال: “بُلْتُ يوم مات دَمًا”.
هذا سفيان الفقيه المحدِّث الزاهد، المعروف بشدته في الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا هو حاله مع ابنه الوحيد سعيد، وهو صاحب المقالة المروية: ينبغي للرجل أن يُكرِه ولدَه على طلب الحديث، ولكنه أدرك أن لكل حال مقالاً، ففي الأثر الأول: يقطع الصلاة غير المكتوبة من أجل ابنه إذا دعاه، ولعل هذا الفعل يسوغ في العادة من الابن حين يدْعوه أبوه، أما من الأب، فماذا يمكن أن يقال إلا أنه بِرُّ الآباء بالأبناء؟
وفي الأثر الثاني: تظهر عاطفة سفيان الثوري الجياشة، ورقَّةُ قلبه ورحمته، حين يشاطر ابنَه البكاءَ من ألَمِ الحجامة.
أمَّا الأثر الثالث، فقد بلغ الحزن من هذا الأب الحاني على موت ابنه الحبيب، أنْ بال يوم وفاتِه دمًا، وكفى.
ختامًا:
كان هذا حال بعض رجال السلف مع أبنائهم، أقوال وأفعال تثير العجب، حاولتُ أن أبيِّن من خلالها جانبًا غاليًا – قد يغيب – من جوانب حياتهم، لعله أن يثير فينا بعضَ الأسئلة:
أين هذا الجانب من حياتنا؟ أين نحن من الاقتداء بهم في هذا الجانب؟
لا شك أننا نمتلك مثل حبهم لأبنائهم، فأين أمثال كلماتهم؟ لماذا لا نصرح بها لأبنائنا؟ لماذا لا نُعبِّر لهم عن هذا الحب؟

________________________________________
[1] عبدالكريم بكار، “بناء الأجيال”، مطابع أضواء المنتدى، الرياض، 1423هـ – 2002م، ص105.
[2] محمد بن إسماعيل البخاري، “صحيح البخاري”، تحقيق: مصطفى ديب، ط3، دار ابن كثير، بيروت، 1407هـ – 1987م، باب: رحمة الولد وتقبيله ومعانقته.
[3] المرجع السابق، باب: قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إنا بك لمحزونون)).
[4] أبو بكر عبدالله بن محمد ابن أبي الدنيا، كتاب “العيال”، تحقيق: نجم عبدالرحمن خلف، دار الوفاء، المنصورة، 1417هـ – 1977م، ص164.
[5] المرجع السابق، ص171، 172.