( رجال في الشمس ) رواية قصيرة تقع في (110 صفحات) , ببساطة تحكي عن ثلاثة فلسطينيين، ونتيجة للاحتلال الصهيوني والعنف الذي مارسه الصهاينة ضد الفلسطينيين ، ولضيق ذات اليد وشظف العيش، قرروا الخروج من الوطن بحثاً عن لقمة الخبز .
كانت الكويت في بداية نهضتها، بدأت تستقطب العمالة العربية الوافدة ، فكان هدفهم الوصول إلى الكويت للعمل، ولأنهم لا يملكون أية أوراق ثبوتية أو جوازات سفر، فكان الطريق الأقصر هو التسلل
تهريباً إلى الكويت. فاجتمع الثلاثة في البصرة، النقطة الأقرب إلى دخول الكويت وتعرضوا لابتزاز عصابات التهريب حتى يلتقوا بواحد من جلدتهم (أبو الخيزران) الذي يعمل سائقاً لأحد خزانات المياه العائدة لتاجر كويتي، وكان في البصرة لإصلاح الخزان، فيقنعهم بأنه خير من يوصلهم إلى الكويت . وخلال نقله إياهم يطول عليهم الوقت وهم داخل الخزان في حر الصيف الملتهب في الصحراء يختنقوا ويموتوا فيرميهم السائق قرب المزابل بعد أن يجردهم من أموالهم وممتلكاتهم .
حاول غسان كنفاني في (رجال في الشمس) أن يصف تأثير نكبة 1948 , على الشعب الفلسطيني ، وقدم لنا صورة الفلسطيني اللاجئ ، وهي ذات الصورة التي طورها في روايته الثانية (ما تبقى لكم) ليقدم فيها الفلسطيني الفدائي ، ثم في روايته الأخيرة (عائد إلى حيفا) ليقدم فيها الفلسطيني الثائر
هذا يعني أن كنفاني في روايته الأولى (رجال في الشمس) لا يدين الاحتلال فحسب ، بل أنه يدين كل الأطراف التي تسببت في نكبة فلسطين : القيادات الخائنة ، والقيادات العاجزة ، والشعب المستسلم الذين تخلوا عن الأرض ليبحثوا عن خلاصهم الخاص، إنه يدين الفردية التي يراد للعربي الفلسطيني أن يغرق فيها .
هذه الفكرة التي أراد الكاتب توصيلها للمتلقي في (رجال في الشمس) و هي التي لونت الرواية بالرمزية الواضحة ولغتها بالإيحائية . ولكي نستكشف ذلك نقوم بتحليل الرواية وعناصرها الأساسية . تروي القصة حكاية ثلاثة فلسطينيين من أجيال مختلفة يلتقون حول ضرورة إيجاد حل فردي لمشكلة الإنسان الفلسطيني المعيشية للهرب إلى الكويت ، وهم:
1 أبوقيس: رجل عجوز ، مزارع بسيط فقد بيته وشجرات الزيتون ، وأصبح يعيش مع عائلته في المخيمات ، شديد الارتباط بوطنه يحلم بعودة ما كان لكنه لا يعرف كيف؟. خرج مضطراً ليصل إلى الكويت ويحصل على المال ليبني بيتاً ويشتري شجرات زيتون جديدة.
2 أسـعـد: شاب مناضل تطارده السلطات لنشاطه السياسي ، يحلم للعمل في الكويت وتكوين ثروة يردّ بها إلى عمه الخمسين ديناراً التي أقرضه إياه شريطة أن يتزوج ابنته ، وليكون في حل من هذا الشرط.
3 مروان: الصغير ذو الستة عشر عاما يحاول أن يتغلب على مأساته المعيشية، فشقيقه يعمل في الكويت تركهم دون معيل لأنه تزوج، ووالده تزوج امرأة أخرى، فكانت فكرة اللجوء إلى الكويت ملحة ليساهم في إعالة أسرته.
هذه الشخصيات الثلاث جميعهم يعانون من الاحتلال وعنفه ، ويعانون من شظف العيش وضنكه، لذا كان هدفهم واحد هو الوصول إلى الكويت بأي ثمن حتى ولو كان طريق الهرب أثناء تلك الحقبة. وبدأت المعاناة في رحلة آلاف من الأميال وصولاً إلى أصحاب مكاتب مهربي العمالة السيئين الجشعين الذين يستغلون ظروف المضطرين للهرب إلىالكويت لطلب العمل والاسترزاق ، كل ذلك لتحقيق الحلم حتى وإن كان عب الشاحنة التي أقلتهم كأصعب وسيلة نقل برية آنذاك، وقسوة الصيف الحارق من البصرة إلى الكويت. وهنا تبرز الشخصية الرئيسة الرابعة .
4 أبو الخيزران: وهو سائق فلسطيني ماهر، يعمل لدى تاجر كويي ، سبق أن تأثر بانفجار قنبلة أفقدته رجولته، وأعطته كل مرارات العالم، وأصبح طموحه أن يكوّن ثروة يعيش بها في هدوء وسكينة. وتبدأ الرحلة الجهنمية في صحراء ترسل شمسها شواظاً في لهيب قاتل ، وقبل الوصول إلى نقطة الحدود بخمسين متراً يدخلون الخزان لدقائق معدودة – كما اتفق معهم (أبو الخيزران) – ريثما يـُنهي الإجراءات ويسرع إلى سيارته ليخرجهم بعد خمسين متراً . ويمر الأمر– رغم الجهد – بسلام عند نقطة الحدود العراقية، لكن المشكلة عند الحدود الكويتية إذ يتأخر عليهم نتيجة مشاغلة وممازحة رجال الجمرك الكويتي له ( فهم يعرفونه ويعرفون التاجر الكويتي الذي يعمل أبو الخيزران عـنده )
هذه الممازحة السمجة والتي أخذت وقتاً أكثر من اللازم كانت كافية لاختناق الثلاثة في الخزان ثم موتهم. في النهاية يلقي أبو الخيزران بالجثث الثلاث في المزبلة بعد أن يجردهم من ممتلكاتهم .
نعود للشخصيات الأربع نتفحصهم، رغم أن كنفاني يصف الشخصيات الثلاث ببراعة ( فهم من أعمار مختلفة، ومستوى ثقافي واجتماعي مختلف وربما أحلامهم مختلفة أيضا ً)،
ويصف معاناتهم ومأساتهم بفنية عالية مصوراً أحلامهم وهم يستقلون شاحنة الموت. لكنه يدين استسلامهم وضعفهم وتركهم أرضهم وتفكيرهم بالحل الفردي للمشكلة ، لذا يزيد معاناتهم حال تركهم الوطن من خلال الشخصيات الثانوية التي يجعلها الروائي معوقات في طريق تحقق الحلم ، سواء المهرب الفلسطيني الذي ترك أسعد في منتصف الطريق وهرب ليتركه يواجه مصيره وحيداً إلى بغداد ، أو المهرب العراقي الذي يساومهم ويبتزهم مادياً ، أو رجال الحدود الذين يتسببون في موتهم لتأخر السائق عنهم . وكأن الروائي يريد أن يقول أن الحل الفردي خارج الوطن لا يوصل إلى نتيجة بل إلى الموت ، فقد ماتوا فوق مزبلة التاريخ وهم يبحثون عن خلاصهم الشخصي بعيداً عن المكان الحقيقي الذي يجب أن يكونوا فيه فالتخلي عن الأرض يعني الموت .
إن كنفاني حين يبرز لنا حجم معاناتهم وشعورهم ، وإدراكنا كقرّاء لهذه المأساة ، فإنه يستبطن دواخلهم من خلال تيار الوعي في سرد الأحداث (سوف نتناول تيار الوعي لاحقاً).
إنه يدين الحلول الفردية ولا يراها توصل إلى الهدف في حل المشكلة ، بل حتى الشخصية الثانوية أبو مروان الذي يتزوج امرأة فقدت ساقها لأنها تملك داراً من ثلاث غرف بسقف إسمنتي ، ليهرب من مسؤولياته ، حتى هذا الحل جاء كسيحاً لا يمكن أن يحقق الهدف .
أما الشخصية الرابعة (أبو الخيزران) والذي نعده الشخصية المحورية أو البطل فقد قدمها الروائي لنا بملامح خاصة، فهو رجل وسط بين الرجال الثلاثة، وهو منهم لكنه فاقد للرجولة، يستغـل - عمله على شاحنة , و هو يقضي أوقاتاً ممتعة في البصرة بحجة تصليح الخزان، وهو يفاوضهم - فردياً وجماعياً - مظهراً نفسه المدافع عـنهم ومخلـّصهم من عصابات التهريب، ولديه القدرة على الإقناع، وهو السائق الذي سيوصلهم إلى الكويت بسلام ، لكنه يوصلهم إلى الموت، بل يجردهم من ممتلكاتهم حتى بعد موتهم . هذه الشخصية يقدمها الروائي كنموذج للقيادة الفلسطينية القديمة التي
تحولت بيد الرجعية العميلة تحركها في الخفاء ، إنها تدّعي التفكير في المجموع بينما تسعى
إلى مصالحها لشخصية مهما تأذى الآخرون. والروائي أيضاً يرفض أسلوب التفاوض الذي لا يوصل الشعب الفلسطيني إلى أهدافه ، إنهم يتفاوضون لتحقيق مصالحهم الشخصية كما فعل أبو الخيزران سائق عربة الموت (إيحاء آخر) ، وبالتالي فكنفاني يدين هذه القيادة الفاقدة للشرعية ( أبو الخيزران فاقد للرجولة – رمز آخر ) فهي غير مؤهلة لقيادة الشعب إلى هدفه.
والأكثر من ذلك أن كنفاني أبقى أبا الخيزران حياً لهدف ؛ وهو تجسيد للأزمة التي لا تزال حية باقية ، مهما بلغت المأساة وفقد الذكورة . إذن هؤلاء الشخصيات الأربع يتوزعون في رمزين ؛ الشعب الضعيف المستسلم الذي يبحث أفراده عن الحل الفردي للمشكلة ، وهم الشخصيات الثلاث ، ثم القيادة المتخاذلة الذليلة الجشعة والتي أوصلتهم إلى قمة المأساة وهو الموت ورمي جثثهم في المزبلة وهو شخصية أبي الخيزران .
قصة رجال في الشمس هي قصة الشعب الفلسطيني، وليست قصة شخصية أو أكثـر، قصة شعب بأكمله قاسى الذل والضياع والحرمان والظلم، شعب مجهول الهوية لا يعرف إلى أين يسير في هذه الدنيا الواسعة، بعد أن تكالبت عليه القوى الاستعمارية والعربية، ولم تسلبه أرضـه فقط، وإنما سلبته حق الحياة الكريمة منذ النكبة الأولى عام 1948م. هذه المعاناة في هذا العمل الذي يحكى قـصة ثلاثـة رجـال ∗ وقد صور غسان كنفاني فلسطينيين، يمثلون أجيالاً عمرية مختلفة، تنكرت لهم الدنيا والناس، اغتالهم الحر الـشديد داخـل خزان الموت وهم في طريقهم نحو المجهول الذي ينتظرهم، لقاء أمل أو حلم بسيط.
كتب كنفاني هذه الرواية في أوائل عام 1962 ،حين اضطر للاختباء في بيروت؛ لأنـه لم يكن يملك أوراقاً رسمية، في زمن اشتد فيه القمع والملاحقة، على أثر محاولة انقلابية فاشـلة، جرت في لبنان في حينه، وقد ترجمت هذه الرواية إلى : الإنجليزية ، والفرنسية ، والهولنديـة ، والألمانية ، والسويدية ، والهنغارية، والنرويجية، والتشيكية. وقد حولت إلى فلم سينمائي أخرجه توفيق صالح بعنوان (المخدوعون) وقد فـاز هـذا الفيلم بعدد من الجوائز: جائزة مهرجان قرطاج في تونس، وجائزة مهرجان الأفلام الكاثوليكية في باريس، وجائزة حقوق الإنسان في ستراسبورغ، ثم قام فريق مسرحي بتحويل القصة إلى نـص مسرحي عرض في مدينة الناصرة، غير أن إسرائيل أوقفت العرض. كما قام الفريق المـسرحي التابع لإذاعة كل من : السويد ، والدنمارك بمسرحة هذا العمل. وبذلك استطاع المؤلف بهذا العمل أن يطفو فوق الحواجز الفنية، والارتفاع بهـا فـوق التقاليد مستقطباً مشاعر الإنسانية؛ ليقترب بهذا العمل من العالمية أو يكاد. رجال في الشمس ، هي الصراخ الشرعي المفقود، إنها صوت الفلسطيني الذى ضـاع طويلاً في خيام التشرد واللجوء، الذي يختنق داخل عربة يقودها خصي هزم مرة أولى، وسـيقود الجميع إلى الموت، وهى كقصة لا تدعى التعبير عن الواقع الفلسطيني المعـاش فـي علاقاتـه المتشابكة، إنها إطار رمزي لعلاقات متعددة، تتمحور حول الموت الفلسطيني، وحول ضـرورة الخروج منه باتجاه اكتشاف الفعل التاريخي، أو البحث عن هذا الفعل. يدين فيها حالات الخلاص الفردي غير الملتحمة بالجماهير؛ لأن مصيرها الفشل الذريع، والموت في صحراء لا حياة فيها، بعد أن تقطعت بهم الأسباب والسبل كنتيجة واضحة للاحتلال .
إن واقعية غسان الأدبية ، هي ذاتها التي قال عنها الدكتور حسين مروة:" بأنها واقعيـة ترتكز إلى مفهوم شامل عن العالم الموضوعي، المفهوم الذي يرينا الطبيعة والمجتمع في حركـة دائمة ذات محتوى تطوري ثوري ، تتصارع في داخله باستمرار، قوى متضادة على نحو خلاق، أي على نحو لا ينفك يتمخض بولادة قوى جديدة من صلب قوى قديمة، وهذه الولادة هي سـمة التطور والتحول الدائمين من الأدنى إلى الأعلى".[قضايا أدبية – حسين مروة – ط1 [ وينطلق غسان كنفانى في فهمه لموضوع الأدب والفن من خلال إيمانه العميق وتبنيـه لمبادئ وتعاليم نظرية المعرفة المادية، والتي تولى أهمية قصوى للدور المعرفي والريادي للفـن الثوري الإنساني، الذي لا يعمل فقط على عكس وتصوير للواقع، بل والعمل على تغييره تغييـراً ثورياً أيضاً.
فالمتتبع لأعمال غسان كنفانى يخلص لحقيقة أنه مرتبط ارتباطاً عضوياً بمصالح فئـات شعبه الكادح، المستهدف دوماً من أعدائه القوميين والطبقيين، والمتفردين، من هنا ، أصبح أدبـه جزءاً لا يتجزأ من عملية الصراع وعملية التاريخ المتكاملة ذاتها. لعل هذا يكون ذا صلة بمقولة أحد الباحثين حول تأثير كل تركيب اجتماعى بمـا ينـتج عنه من فنون القول وآداب التعبير؛ إذ يقول بهذا الصدد:" لكل تركيب اجتماعي معين معمار فنى، وشكل عام من أشكال التعبير، ومضمون تتنفس فيه هموم الأمة، أفراداً وجماعات فـي حركتهـا الدائبة نحو الآفاق تستشرفها في حياتها، وفى داخل هذا المعمار، تتحقق شخـصية كـل مجتمـع بملامحها وسماتها الخاصة بها التي تحمل طابعها الشخصى الخاص الممتزج بالطابع الجمـاعى العام
مما لاشك فيه أن اللغة بوصفها الوعاء الحامل لفكر الأمة وثقافتها وعلومها، قادرة على نقل المشاعر والانفعالات الخاصة بالشخصية الروائية، وفي روايات غسان كنفاني مثلت الشخصيات جملة من الحالات الاغترابية التي تردد في وعيها وفي منطوقها من الألفاظ والعبارات ما يعبر عن تلك الحالة ويعكس السمات الاغترابية في داخل الشخصية الانسانية عموما .
فقد تكررت كثير من الألفاظ المحملة بمعاني الغربة أو تحيل إليها وفق حالة الشخصية ومنها الغربة ومشتقاتها، والضياع، والحزن، والصمت، والموت، الظلام، السواد، الرعب، الوحدة، الوحشة، المجهول،المهجور، البؤس، والسجن، والبيت، والمخيم، والصحراء، بوصفها أماكن اغترابية. وتستمد تلك الألفاظ دلالاتها من خلال سياقات متعددة تصور حالات اغترابية تمثلت من خلال ردود الفعل التي تعبر عن تلك الحالات، كالشعور بالوحدة والضياع، . غير أن اللغة تبلغ ذروة تعبيرها عن حس الاغترابي فيما انعكس من مظاهر الاغتراب على نفس الشخصية ومعتقدها وفكرها، من ذلك ما ينقل الإحساس بالدونية وتحقير الذات .
وقد يدفع ذلك الشعور بالعجز وفقدان المعين إلى التشبث بولي قريب يمكنه أن يسمع ويشارك الشخصية مأساتها، وتمثل ذلك لدى الأعمى بشخصية الولي عبد العاطي، فيلجأ إليه متضرعاً "أو خذني إليك ياعبد العاطي، علقني معك على ذلك الجذع العالي، لنسخر معاً من ذل هذا العالم المنكفئ على نفسه العاجز المكبل المبسوق على وجهه أخاطبك وحدي، وجهاً لوجه، من أعماق هذه البرية المتوحشة المهجورة" .يضاف إلى ذلك الحس بوطأة الزمن إحساس مفجع بافتقاد الأمل وبتفاهة الهدف .
يمثل الاغتراب حساً داخلياً يعمل على تشكيل علاقة الذات والخارج/الواقع بجميع مكوناته، البشرية والمادية، ولذلك فلم يكن غريباً أن تنعكس هذه الحركة الشعورية على تقنيات السرد الروائي لدى كنفاني، بل إن هذه الحركة تكاد تكون العنصر الفاعل في تكوين الحكاية في الرواية، فقد لجأ الكاتب إلى جملة من التقنيات التي تعمل على نقل حركة الداخل على حركة أشد عنفاً وأبعد أثراً في حياة الشخصية، "وقد اعتمد غسان كنفاني على بند روائي يتوافق مع المضامين الإنسانية التي تطرحها رواياته في وحدة عضوية تؤكد أن اختيار البناء الذي تقوم عليه هذه الرواية أو تلك شيء لازم لا يمكن لبناء آخر غيره أن يحقق له قدرته على توصيل المضامين أو الإقناع بالواقع الذي يطمح الأديب إلى التعبير عنه، وتحقيق التأثير الذي ينشد، في قارئه" ، فقد استخدم كنفاني السرد المباشر بلسان الراوي ليستعيد بعض ما مر بالشخصية، فيضيء بذلك بعض جوانب من حياتها الماضية، قد تكون ذات أثر في تشكيل جوانب أخرى مما آلت إليه تلك الشخصية في حاضرها، وذلك ما يكشف عنه أسلوب كنفاني في تقديم شخصيات "رجال في الشمس" من خلال فصول ثلاثة يتناول كل منها جوانب من حياة أحد هؤلاء الرجال الثلاثة إلى أن يلتقوا بشخصية أبي الخيزران الذي يقودهم نحو حتفهم. ومثل ذلك قدم أيضاً لحياة المخيم وبيئته عبر لوحات تشكلت في ضوئها الحالة النفسية لشخصية أم سعد. غير أن هذا الأسلوب المباشر في السرد مايلبث أن يتداخل مع الأسلوب الأكثر بروزاً وهيمنة وهو تيار الوعي الذي يتيح للروائي أن يرسم معالم الشخصية من خلال عالمها الشعوري واللاشعوري الخاص، ومن خلال ما تلقيه عليها 2 الشخصيات الأخرى من أضواء ، كما" يتيح للشخصية أن تواجه القارئ مباشرة فتتحدث إليه وتتحاور دون وصاية أو توجيه من الشخصيات الأخرى، وتكشف عن 3 نفسها بحرية مطلقة" ،ويكشف بذلك هذا الأسلوب عن الحياة الداخلية للشخصية وعن 4 التناقض في داخلها، وعن التناقض بينها وبين العالم الخارجي ، فالواقع الذي عمل كنفاني على تصويره أسهم بفاعلية في انتقاء التقنية الأكثر ملاءمة لإبراز قضايا ذلك الواقع، وخاصة ما تعلّق منها بالأثر الذي تركته تلك القضايا على النفس البشرية،
وعليه فإن الشكل الفني القادر على استيعاب القضايا التي تتعلق بالنفس البشرية، هو الشكل الذي يستطيع مجاراة وعي الذات واصطلح على تسميته بـ "تيار الوعي" الذي ينقل انفعالات النفس وحواراتها الداخلية. ولعل أكثر التقنيات بروزاً في الروايات المدروسة هنا تتمثل في الاسترجاع والمونولوج الداخلي وهي أساليب تندرج في إطار تقنية تيار الوعي، فمن خلال هاتين التقنيتين استطاع كنفاني أن يسبر أغوار الشخصية، فيكشف عن أحلامها وأزمتها الداخلية من جهة، كما يتنبأ بما يمكن أن تؤول إليه مصائرها، وتستعيد الشخصية جزءاً من تاريخها الشخصي، فيتلمس القارئ خيوط المأساة الفردية لكل منها، والتي ما تلبث أن تتشابك وتتقاطع بالمأساة الجمعية. فقد عمل الراوي على تقديم أحداث سابقة، أسهمت في توليد نوع من الحكايات الثانوية داخل الرواية، وفي الوقت نفسه عملت على تسليط الضوء على ما فات أو 1 غمض من حياة الشخصية في الماضي، وهذا ما يعرف بالاسترجاع ، حيث لجأ أبطال "رجال في الشمس" إلى استعادة ماضيهم، قبل أن تبدأ الرحلة، فاسترجع أسعد ماضيه 2 منذ غدر به أبو العبد إلى أن أطلق سؤال البداية الشاقة، "متى ستبدأ الرحلة؟" ، وفي معظم الحالات كان يتم ذلك عن طريق التداعي الذي يحفز عليه حوار أو موقف تمر به الشخصية، فجلوس أبي قيس على الشط وتأمله البحر، سرعان ما جعله يستعيد حديث الأستاذ سليم قبل عشر سنوات، ومن خلال ذلك يستعيد مرحلة من تاريخ قريته، قبل مغادرتها تحت وطأة الفقر "يا رحمة االله عليك يا أستاذ سليم.. ترى لو أغرقك الفقر كما أغرقني.. أكنت تفعل ما أفعل الآن؟ أكنت تقبل أن تحمل سنيك على كتفيك 3 وتهرب عبر الصحراء إلى الكويت كي تجد لقمة خبز؟" . فعبر هذا التداعي وبتكريس محتوى ذاكرات الشخصيات وذكرياتها أضاء الكاتب جوانب من حيواتها، بما يقدم مسوغات لوصولهم إلى ما هم عليه في حاضر الزمن الروائي، كما يعمق ذلك الزمن بحيث تكتمل صورة الشخصية، وتتكامل الحكاية التي تعيشها في مستوى الروي. فقد لجأ غسان كنفاني إلى تركيز النماذج البشرية وتعميق الحدث الروائي من خلال 4 المونولوجات الداخلية التي تمثلت في حوار الشخصيات بينها وبين نفسها ؛ فمن خلال حوار "أبي قيس" مع نفسه في "رجال في الشمس"، تتكشّف مأساته الأساسية الشخصية التي احتاج إلى عشر سنوات "كبيرة جائعة" كي يصدق أنه فقد ممتلكاته ومقومات حياته في وطنه، الشجرات والبيت والقرية وشبابه الذي مضى وهو ينتظر شيئاً ما، لا يعرف ما هو، ولكنه ينتظر، ومن خلال المونولوج الداخلي وقفنا على ما يجول في نفس أبي قيس وتعنيفه لنفسه على استسلامه لواقع ظل عاجزاً عن تغييره، "في السنوات الماضية لم تفعل شيئاً سوى أن تنتظر.. لقد احتجت إلى عشر سنوات كبيرة جائعة كي تصدق أنك فقدت شجراتك وبيتك وقريتك كلها.. في هذه السنوات الطويلة شق الناس طرقهم وأنت مقع ككلب عجوز في بيت حقير.. ماذا تراك كنت تنتظر؟ أن تثقب الثروة سقف بيتك؟ إنه ليس بيتك.. رجل كريم قال لك: اسكن هنا! هذا كل شيء. وبعد عام قال لك اعطني نصف الغرفة، فرفعت أكياساً مرقعة من الخيش بينك وبين الجيران الجدد.. وبقيت مقعياً حتى جاءك سعد وأخذ يهزك مثلما يهز الحليب 1 ليصير زبداً" استخدم كنفاني المونولوج الداخلي لسبر أغوار النفس البشرية، حركاتها، ومشاعرها، بما "يعكس الأفكار الداخلية للشخصية، كما يسجل الخبرة الانفعالية للفرد ويغلغل الأغوار النفسية إلى المستويات التي تفصح عنها بالكلمات، حيث الصور تمثل 2 الإحساسات والانفعالات" ، فرسم الروح في هوانه وسقوطه، وأرخ نفسانياً لتطور هذه 3 الروح في متاهة ترديه ، ولعل هذا التردي يتمثل بصورة صارخة في شخصية "مريم" في "ما تبقى لكم"، فتكشف حواراتها الداخلية المتصلة عن عقدة الذنب التي تكونت لديها بأثر من رحيل أخيها، والوحدة التي حولت حياتها إلى حالة من القلق المتواصل والرغبة العارمة في تخطي الواقع، عبر انتظار لشيء لا تدري هي أيضاً ما هو، لكنها تدرك بوعي كامل أن الخلاص لا بد أن يصدر عن قرار داخلي يلغي حالة العجز والقلق، وينجز فعلاً طامحاً للتغيير ولو متأخراً.
وينوع غسان كنفاني في استخدام تكنيك المونولوج الداخلي، فيمزج بين استخدام المونولوج الداخلي المباشر وغير المباشر، فمن خلال المونولوج المباشر يأتي صوت حامد الداخلي: "لقد شعرت، من ثم، براحة أكبر وأنا أنفرد بالليل دون وسيط، انهدم الجدار فجأة، وأصبحنا ندين في مواجهته مباشرة لعراك حقيقي بسلاح متكافئ وبشرف، وأمامي 2 انبسطت المسافة السوداء عالماً من الخطوات غير مربوطة بعقربين صغيرين" . إن حركة الرواية عند غسان كنفاني تقوم على الخروج من حالة الارتهان إلى الداخل والتحول إلى الفعل، ومن هنا فقد اتخذ هذا الفعل شكل حالة من التمرد تغاير المتوقع، وفي هذا ما يبرر لجوء الكاتب إلى الحوار الداخلي للشخصيات، بما يشكل حافزاً للشخصية لكي تقدم على فعل يخرجها من حالة السكون إلى الحركة، ومن الانتظار إلى الفعل، من الداخل إلى الخارج، داخل الشخصية وخارجها، وداخل الجماعة وخارجها، وقد يتحول من الظاهر إلى الرمز، الأمر الذي ينقل "مريم" لتكون 3 تمثيلاً "للضمير في قابليته للإفاقة من السقوط" ، فيما تنتصر "أم سعد" "للفلسطيني الكادح الذي يطارده شقاء الواقع في مخيمات لجوئه مضافاً إلى قسوة الغربة، وتؤكد في الوقت نفسه أن هذا الفلسطيني وحده الجدير، بل المؤمن، بحمل البندقية من أجل 4 استعادة الأرض التي اغتصبت منه"
الأمر الثالث : الذي يركز عليه كنفاني في الرواية ، هو توظيف اللغة الإيحائية المزحمة بالرموز، وقلنا أن الرواية الرمزية تستخدم لغة مكثفة مختصرة موحية وكأنها قصيدة نثر .
• رواية (رجال في الشمس) رواية محكمة ليس فيها كلمة زائدة أو موقف بلا معنى أو عبارة إنشائية ، ولا يلجا كنفاني إلى الشعارات أوالتقريرية والمباشرة ، إنه يستخدم اللغة المجازية بشكل ممتاز، فكل كلمة توحي بشيء.
واستخدام كنفاني هذه اللغة الموحية يهدف إلى شيئين:
أولاً الناحية الفنية، فالفن إيحاء لا تقرير، واللغة التي يصف بها الشخصيات
والأحداث توحي لنا بمعاني هو لا يقررها مباشرة، لكننا ندرك أنه يريدها. وثانياً هو يربط بين الشخصية والحدث وبين هذه اللغة الإيحائية ليزيدها
عمقاً أو وضوحاً أو معاناة ً، ويزيد الحدث إبرازاً ، والمعـنى البعيد الذي يهدف إليه الكاتب حين يسرد حدث بطريقة إيحائية رمزية.
فحين استلقى أبو قيس - على سبيل المثال - على شاطئ شط العرب في البصرة نظر إلى السماء وكانت بيضاء متوهجة .. ( انظر الرواية ، ص 8 ) ويستمر الطائر الأسود يتابع أبا قيس .. ( صوت الشط يهدر ، والبحارة يتصايحون ، والسماء تتوهج والطائر الأسود ما زال يحوم على غير هدى) ( الرواية ، ص 14 ) إنها المعاناة التي يحملها في داخله، تلاحقه، تقلقه من المجهول ، تمشي معه على غير هدى مثل ذلك الطائر.
• الحمامات السود نفسها تلاحق مروان ، رآها حين نهض مبكراً لملاقاة أبي الخيزران.. ( كانت السماء ما زالت تبدو زرقاء تحوم فيها حمامات سود على علو منخفض ويسمع رفيف أجنحتها كلما اقتربت في دورتها الواسعة من سماء الفندق ) ( الرواية ، ص 36 ) إنه الموت الذي ينتظره .وكلمة الطريق التي تلح على وجدان أسعد لها دلالة فحين قال له المهرب العراقي السمين في البصرة ..( بوسعك أن تستدير وتخطو ثلاث خطوات وستجد نفسك في الطريق ) ( الرواية , ص 20 ) ، الطريق هو الطريق نفسه الذي ظل يمشي فيه ساعات طوال بين الرمال والصخور في الصحراء بين الأردن والعراق وحيداً بعد أن خدعه المهرب الفلسطيني، وهو ذات الطريق الذي سيسلكه أملاً في الوصول إلى الكويت ، فيموت على قارعة الطريق.
وصورة رمزية أخرى حين قالت زوجة الأجنبي - الذي التقط أسعد في سيارته وأوصله إلى بغداد .( أوف ! إن هذه الصحراء مليئة بالجرذان ،تراها ماذا تقتات ؟ أجاب بهدوء : جرذاناً أصغر منها..) ( الرواية ، ص 29 )،
صورة رمزية تعكس حالهم، فهم الصيد السهل لمن هم أكبر منهم (المهربون ) بالنسبة لهم، وبشكل عام هي مأساة الشعب الفلسطيني.( والرموز كثيرة في الرواية)
أسلوب آخر يستخدمه كنفاتي في الرواية ، وهو أسلوب المفارقة لتبرز حجم المعاناة، مثل ممازحة رجال الحدود لأبي الخيزران فسببت تأخره عن القابعين في قعر الخزان حتى ماتوا. ومفارقة أخرى حين يتهم رجل فاقد الرجولة أنه يقيم علاقات مع النساء، فقد زعم رجال الحدود أن لأبي الخيزران علاقاته غرامية . ( أنظر الرواية ، ص 87 - 85 )
نقطة أخيرة
حين رمى أبو الخيزران الجثث الثلاث في المزبلة، وجردهم من الأموال والساعات
وانطلق بسيارته مبتعداً ، أخذ يتساءل بدهشة
- لماذا لم يدقوا جدران الخزان ...؟
- لماذا لم تدقوا جدران الخزان ؟ لماذا لم تـقولوا ؟ لماذا ؟ وفجأة بدأت
الصحراء كلها تردد الصدى :
- لماذا لم تدقوا جدران الخزان ؟؟ لماذا ؟ لماذا؟ لماذا ؟ الرواية ، ص 95 )
هي الصرخة التي أطلقها غسان كنفاني، وأنهى بها روايته، على لسان أبي الخيزران أولاً ثم رددت الصحراء صداه. لهذا الموقف أو النهاية معـنيان، الأول بالنسبة لأبي الخيزران إنه بهذا الصوت يحاول إخماد صوت ضميره . أما صوت الصحراء والذي يحمل الحقيقة والتاريخ: لماذا يموت الفلسطينيون جزافاً؟ لماذا ؟ .. لماذا ؟ .
وبقى هذه الصرخة ( لماذا لم تدقوا جدران الخزان ؟ ) تفتح باب الأمل كبيراً ، فإن رجال تحت الشمس قادمون لن يحتاجوا إلى عربة الموت ، لأنهم سيعرفون الطريق إلى شمس الحياة الحقيقية ، وهي دلالة متفائلة جسّـدها كنفاني في روايتيه اللاحقتين ( ما تبقى لكم ) حيث الفلسطيني الفدائي، و( عائد إلى حيفا ) حيث الفلسطيني الثائر .
6 – 11 - 2016
رياض احمد محمود
[email protected]
الرمزية و السرد الزماني في رواية ( رجال في الشمس ) بقلم : رياض احمد محمود
تاريخ النشر : 2016-11-07