قراءة في ‘‘إمضاء ميت’’.. للكاتب محمد رجب
بقلم: فهيمة الشريف.. ليبيا
للوهلة الأولى، حين يقع نظرك على عنوان كهذا 'إمضاء ميت'، سيتبادر لذهنك ودون تردد، سؤال عريض: ‘‘كيف لميت أن يمضي، إﻻ إذا نفخت الروح في جثته ليضع إمضاؤه؟!’’..
أو أن احتمالا آخر يتوافد لعقلك: ‘‘هذا الميت، وقع قبل موته بفترة؛ على ما أراد الإمضاء عليه؟!’’.. وبالتالي سيقودك هذا الاحتمال لأن الميت كان شاعرا بدنو أجله، أو خائفا من شيء ما، لربما يكشف في مستقبل السطور.
عموما، هي مجرد تخمينات وشكوك أوحى بها العنوان لقارئه.
هكذا تراءى لي أنا أيضا حينما كنت أتجوّل بصفحة الإنترنيت، باحثة عن شيء مختلف يسد جوعي الفكري وشراهتي للقراءة -شبه متوقفة منذ ثلاث سنوات- ليشد انتباهي عنوان فريد اعتبرته وجبة فكرية روحية دسمة، أتلذذ بها طوال اليوم.
‘‘إمضاء ميت’’.. رواية بوليسية صرفة، بيئتها كما يبدو من خلال الأماكن المذكورة أنها بجمهورية مصر العربية، كذلك الأحداث والحقائق العلمية تبين على أنها كانت واقعا، ومن ناحية أخرى، في أبعاد عميقة تبدى لي نوع من الخيال "ليس أدبيا بل علميا"، إذ أن الأحداث جميعها كانت قائمة على شيء علمي، في كلا الحالتين -واقعا أم خيالا- تجد نفسك مغموسا في أحداثها، تلفك مشاعر متنوعة، وما أدراك ما تحدثه المشاهد البوليسية من خوف ورهبة وقلق إلى شد الأعصاب، ورغم هذا، أنت متلهف لتقرأ المزيد وتتمنى أن تصل للنهاية سريعا؛ ولذا في مثل هكذا روايات، عليك أن تكون مركزا منذ البداية، وألا تضيع أي جملة كتبت، فلعلك تستنتج كثيرا من التوقعات وتصل للنهاية قبل أن تصلها بصورة فعلية.
أجل مركزا في البدايات.. كما قال الكاتب على لسان "يوسف حمدان" أحد شخصيات الرواية }السر يكمن في البدايات{... وأول بداية، فصول الرواية الثلاثينية (أي ذات 30 فصلا)، كانت بمشهد الطلاب في مدرج كلية الصيدلة بجامعة القاهرة منتظرين محاضرة الدكتور "يوسف حمدان" المختص بعلم (الكيمياء الحيوية والعقاقير) وهو ﻻ يتعدى كونه أستاذ جامعي في نظر طلابه، لكن الحقيقة عكس ذلك، فهو عالم مخترع أظهره الكاتب في السطور الأولى وفي نظر الجميع شخص بسيط طيب يحب الجميع وفقير..
سأكتفي هنا بهذا الوصف، كما سأترك التفاصيل وأذكر أهم المحطات، وسأتغاضى عن ذكر النهاية حتى ﻻ أحرق متعة تشويق الكاتب للقارئ..
- دكتور "يوسف حمدان" شخصية محورية بالرواية. كعادته، بنهاية كل محاضرة أسبوعية يطرح سؤالا ليس بمجال علومه، كاسرا به الروتين ومتقربا به لقلوب طلابه، سؤالا أدبيا تمثل فيما يسمى "الجناس الصحفي" وهو عبارة عن أن يعطيك عبارة غير ذات معنى، لتترجمها لجملة ذات فائدة شريطة، أن تبدأ بحرف من حروف العبارة المعطاة، وهذا النوع من الجناس الصحفي تشبعت به سطور الرواية، فهي تلغمت بالألغاز والاحتمالات والتي انفكت رموزها مع تقدم القراءة.
هذه الأسئلة الأسبوعية الموجهة للطلاب لم يجب عليها بشكل سريع أحد، مثل التلميذة النجيبة "علياء" التي كانت من الطالبات المفضلات لدى الدكتور، كما كانت الشخصية المهمة، وأحد ركائز الرواية هي وصديقتها "نور".
بعد النبذة الموجزة هذه، تكن بداية الولوج الفعلي لأحداث الرواية بعثور الزميلتان "علياء ونور" على محفظة الدكتور "يوسف" بالمكتب، فتقرر أن يأخذاها لمنزله مساء، لكن لطارئ ما، ذهبت "علياء" لوحدها؛ لتتلقى صدمة من الدكتور الصاد لها ونكران المحفظة، صدمة أخرى تراها من شق باب المنزل يجعلها تشك في تصرفاته وفي شخصه.
عن طريق البحث اكتشفتا "علياء ونور" بأن الدكتور ليس مجرد أستاذ جامعة فقط، بل هو عالم ومخترع كبير، ومسجل خطر على الناس باختراعه لفيروس "متلازمة ستوكهولم". حين كان بــ"روسيا" أجري بحثه وباعه لشركة صينية بــ12 مليون دوﻻر، وكونت الفتاتين بعد معرفة اختراعه الخطير، انطباعا عنه بأنه شخص خطير ويجب فضحه.
و"متلازمة ستوكهولم" هي باختصار تتحكم في الآخرين عن طريق إشارات كهربية توجه للمخ، ومن خلالها بالمستطاع التحكم في الوظائف الحيوية لا إراديا.
ينتقل بنا الكاتب لمشهد آخر.. زحام أمام بناية، إنفجارات متواصلة، وحزن على وجوه الواقفين الناظرين لجثة متفحمة، لم يتعرفوا عليه إﻻ من خلال ساعته التي ﻻ تفارقه. كان أكثرهم حزنا على الميت، ذاك الشاب ذو اللحية، وهو صديق الدكتور الشيخ "عبد الرحمن"، والذي أكد للرائد "سيف المصري" بأن الميت هو "يوسف حمدان".
"عبد الرحمن"، الشخصية الممثلة لأحد أضلاع المهمة لكشف ألغاز الرواية. كما أن "سيف المصري" له الأثر البالغ في إضفاء روح المغامرة على الأحداث.
اعتبر الجميع أن موت الدكتور محض صدفة نتيجة تفاعل كيميائي، إﻻ الشرطة، فإنها دوما تشك في أبسط شيء، إن ها هنا ثمة جريمة وقعت.
إذن مات الدكتور "يوسف"!.. لم يكن هناك داع لفضحه، فقد مات وحزن خيم على الجميع.
بعد الوفاة بثلاثة أيام، تبدأ الأحداث المثيرة للرواية.. يصل طرد لــ"علياء" به رسالة وتسجيل صوتي، يطالبها بالبحث عن السر المختفي وكانت مكتوبة بطريقة مشفرة وعليها أن تقابل "عبد الرحمن" في مكان وساعة محددة. كما برهن لها بأن اختراعه مهم وأن عليها أن تبحث عن السر الذي خبأه في مكان ﻻ أحد يعرفه ويجب أن تكتشف مكانه مع "عبد الرحمن" الذي هو أيضا جاءته رسالة من ذات الشخص. رسالة مشفرة بتعابير مجازية ظاهريا، لكنها في الحقيقة ليست كذلك، بل هي بداية ومفتاح لحل السر، وكشف مكان "المضاد" الذي اخترعه لوقف انتشار مرض "متلازمة ستوكهولم".
"قد تنقذين العالم".
هذا ما جعلها تتمسك للوصول إلى الحل.
تصلها أربع رسائل، وكلها ختمت بــ"إمضاء ميت".. كما ﻻ أغفل هنا أن هناك رسالة تهديد ليس بها إمضاء الميت، ومراقبة لهم من مجهولين، مما جعلهما يخافون ويختفون. كما كان الرائد "سيف" معهما على الخط وقد وضع "سيف" في محل الشك من قبل "عبد الرحمن وعلياء" بأنه هو وراء المراقبة كزعيم للعصابة وليس كضابط مباحث بسبب كلام قاله..!.
علامات استفهامية كثيرة تواجه "علياء وعبد الرحمن" حول الألغاز والجناس الصحفي الذي يلف الرسائل.
بروح الإثارة والمغامرة والتوقعات، تجعلك تشغل كل حواسك، بل وتبقى على أعصابك حتى انتهاء الرواية ووصولك للخاتمة التي فيها عرف أن "علياء" فعلا أنقذت العالم، وأنقذت شريك الرواية، وظلت هي ضحية الاختراع.
سأشير هنا إلى أن الكاتب ربط الأحداث ببعضها بدقة متناهية، كما وزع الأدوار بشكل يناسب نوع الرواية -بوليسية، كما استفاد من كل كلمة كتبها وكل جملة أدت دورها المطلوب منها، ثم ما كان يجعلها رائعة هو جعل ذهن القارئ حاضرا من خلال المتاهات المشفرة والشك حتى في "علياء وعبد الرحمن" أو "سيف"، وﻻ تستبعد حتى "يوسف حمدان" الميت نفسه.
كما كانت ثمة خدع جميلة، والأجمل، أن الكاتب استخدم "شفرة مورس" وقاعدة "أبجد هوز" للحروف والأرقام.
في العموم، من يتتبع تفاصيل الرواية سيجد أن للجناس الصحفي -الذي أجزم أن الرواية كتبت من أجله- قد غلب على أحداثها، وكذا اختبرت مدى ذكاء الشخصيات في فك اللغز وكشف حقيقة الاختراع، وأن الثقة بالآخرين يجب التحقق منها قبل الوقوع في الخطأ وفوات الأوان، ونكن نحن في نهاية المطاف مجرد ضحايا.
قراءة في رواية إمضاء ميت للكاتب محمد رجب بقلم فهيمة الشريف
تاريخ النشر : 2016-11-04
