مكانة الأبجدية الكنعانية بين الأبجديات القديمة
د. إبراهيم فؤاد عباس
يجب التنويه بداية إلى الفرق بين اللغة والكتابة، وبين الكتابة التصويرية والأبجدية. فاللغة هي وسيلة للتواصل بينما الكتابة هي وسيلة لتسجيل اللغة. ومن الملاحظ أن الكتابة لم تكن تُعبِّر عن كل اللغة وخاصة في مراحل الكتابة الأوّلية، حتى أن بعض اللغات بقيت غير مكتوبة، وقد عرفت معظم شعوب العالم طرقاً بدائية للكتابة. وتطورت الكتابة من الكتابة التصويرية إلى الكتابة المسمارية. واستخدم المصريون القدماء ورق البردى (البرديات) في كتاباتهم التصويرية، فيما استخدم سكان الرافدين الرقم الطينية Clay Tablets للكتابة عليها. كما ظهرت العديد من النقوش المكتوبة على جدران المعابد والمسلات والأحجار والتوابيت ..الخ. وقد سميت الكتابة المسمارية بهذا الاسم لأن سكان الرافدين كانوا يكتبون على الطين، فكان يستحيل عليهم رسم منحنيات واضحة على هذه المادة، فكان لابد لهم من أن يحلوا محل الدوائر مضلعات كثيرة الأضلاع، فأحلوا دائمًا الخط المستقيم محل الخط المستدير. وعلى هذا وصلوا إلى مجموعة من العلاقات يرجع شكلها المسماري إلى قطع القلم الغاب- القلم الذي كان يستخدم في الكتابة برسم الزاوية- وقد عثر في نيبور في جنوب العراق، ونينوى في شماله على سجلات ووثائق مصنوعة من الرقم الطينية ومكتوبة بالحروف المسمارية وبعضها يعود إلى 3000 سنة ق. م. وفي غضون ذلك الوقت تقريبًا اخترع المصريون القدماء الكتابة الهيروغليفية. ومن أشهر مجموعات الوثائق الفرعونية مجموعة الملك رمسيس الثاني (1304-1237 ق. م) والتي احتوت على ما يقرب من 20 ألف بردية. وتعتبر رسائل تل "تل العمارنة" من أقدم الكتابات التي لها دلالة سياسية للصراع الذي كان يدور في المنطقة حوالى منتصف الألف الثانية قبل الميلاد. وهذه الألواح (الرسائل) عبارة عن سلسلة من اللوحات مكتوبة باللغة البابلية بحروف مسمارية، وهي موجهة من حكام سوريا وفلسطين وبعض أمراء آسيا الوسطى إلى ملوك مصر عندما كانت تلك البلاد خاضعة للنفوذ المصري. وذكرت إحدى تلك الرسائل إن قبائل "الخابيرو" أمعنت في الفساد والتخريب في فلسطين في عهد اخناتون. وتدل إحدى تلك الرسائل على أن دانونا (أدنا) كانت ضمن بلاد كنعان. وكانت معظم تلك الرسائل تختم بطلب العون من فرعون مصر.
وتعتبر الكتابات التي عثر عليها في "أوجاريث" بالقرب من اللاذقية (سنة 1930-1931)، والتي ترجع إلى بداية النصف الثاني من الألف الثانية ق. م، أقدم الوثائق وأوثقها بالنسبة لتاريخ بلاد كنعان.
ويرى البعض أن الفينيقية هي أصل الأبجديات، ويستند هذا البعض إلى رواية قديمة رددها "هيرودوت" عندما نسب إلى فينيقي اسمه "قدموس" Kadamos اختراع الأبجدية وانتشارها في الغرب. ويوجد عند اليونان أسطورة مشابهة بطلها بلاميد Palamide . وافترض العلماء أن قدموس حمل إلى بلاد اليونان أبجدية مؤلفة من 18 حرفًا ، وأن بلاميد اخترع بقية الأحرف (14 حرفًا). ويرى البعض الآخر أن أصل الأبجدية كان في اليمن، ويقول "مورتيز" الألماني إن اليمنيين هم الذين اخترعوا الأبجدية وليس الفينيقيين . وعندما حل القرن الأول الميلادي كانت عدة أبجديات قد أصبحت متداولة في جنوب الجزيرة العربية. ويذكر لويجي باريتي إن عدة أبجديات عربية عرفت في ذلك الوقت، أهمها المعينية والسبأية والحميرية، وانها اشتقت جميعها من لهجة أقرب ما تكون إلى السبأية، والتي تضم – إضافة إلى الاثنين والعشرين حرفًا من الفينيقية والآرامية- ستة حروف إضافية. وقد انتشرت تلك الأبجديات إلى المراكز التجارية العربية وعلى الأخص ديدان وهيجرا وجنوب شرق دمشق، حيث أصبح بالإمكان تمييز ثلاثة أنواع من الأبجديات: اللحيانية، والثمودية، والصفوية. ونستطيع أن نخلص مما سبق إلى أن المنطقة عرفت نوعين من الأبجديات منذ منتصف الألف الثاني ق. م : الأبجدية العربية الجنوبية القديمة في اليمن وجنوب الجزيرة العربية، والأبجدية الفينيقية الكنعانية في سوريا ولبنان وفلسطين بما يطرح السؤال: هل ثمة علاقة بين الأبجديتين؟
قبل الإجابة على السؤال ينبغي الإشارة أولاً إلى أن ثمة فرق كبير بين الأبجديتين، فالأولى وبناءً على المكتشفات الأثرية لا تتعدى – في غالبيتها- بعض شواهد القبور، فيما تكتسب الثانية أهميتها بسبب دلالتها السياسية والحضارية إلى جانب أهميتها التوثيقية.
يجيب د. عبد المنعم عبد الحليم سيد على هذا السؤال ضمن بحثه (دور اسلاف عرب شمال الجزيرة العربية في نشأة الخط المسند اليمني القديم)، بالقول :" ما أسفرت عنه الاكتشافات الأثرية في شبه جزيرة سيناء من نتائج بيّنت أنَّ التشابه بين بعض حروف الأبجديتين المذكورتين راجع إلى أنهما مشتقتان من أبجدية واحدة في الأصل أُطلق عليها الأبجدية البروتوسينائية التي ابتكرها أهل سيناء القدماء، وهي مكونة من سبعة وعشرين حرفًا انبثقت من الكتابة الهيروغليفية المصرية". وهو يشير بذلك إلى النقوش السينائية التي اكتشفها بتري عام 1905 (25 نقشًا) في منطقة سرابيط الخادم في شبه صحراء سيناء بالقرب من مناجم الفيروز التي استثمرها الفراعنة. والمعروف أن الخط الكنعاني الأولي ينحدر من الخط السيناوي الأولي (البروتوسينائي). ويرى العلماء –إضافة إلى ما سبق- أن الأبجدية البروتوكنعانية شديدة الشبه بالأبجدية البروتوسينائية.
وعرف الكنعانيون نوعين من الكتابة: النوع الأول كان يكتب من اليمين إلى اليسار ويضم 22 حرفًا. أما كنعانيو رأس شمرا فقد كتبوا أبجدية بقلم على ألواح طينية، أي أنها كانت كتابة مسمارية. وهنالك ما يحمل على الاعتقاد – حسب ما يذكر د. حتى- أن هذه الكتابة (المسمارية) كانت شائعة في بلاد كنعان في القرنين السادس عشر والخامس عشر ق. م.
وقد اكتشفت كتابات أثرية كنعانية قصيرة بالأبجدية الخطية في "لاشيش"، و"بيت شمش" ترجع إلى القرنين الرابع عشر والثالث عشر ق. م. وكتابة "لاشيش"، -كما يقول د. حتى- وجدت على صحن. وأقدم نص مفهوم تمامًا بالأبجدية الكنعانية وجده الأثري الفرنسي دونان Dunnand في بيبلوس (جبيل)، وهو مؤلف من خمسة أسطر، ويذكر بناء جدار من قبل شفط بعل ابن ايلي بعل ابن يحيم ملك والثلاثة كانوا ملوكًا على بيبلوس. والحروف في جميع هذه الكتابات هي من نموذج أقدم من تلك التي وجدت في كتابة أحيرام الطويلة المكتشفة عام 1923م من قبل الأثري الفرنسي "مونتيه"Montet في بيبلوس، وترجع إلى نحو سنة 1000 ق. م.
مكانة الأبجدية الكنعانية بين الأبجديات القديمة بقلم:د. إبراهيم فؤاد عباس
تاريخ النشر : 2016-08-08