بقلم الاستاذ منذر الشفرة
(جامعي وباحث في الجماليات)
إن المتأمل في المشهد الاعلامي في الداخل التونسي يلاحظ جليا بروز اذاعات فتية تتميز بتبيان نفس القرب والسهر على خصوصيات المواطن وحاجياته وهواجسه واهتماماته الثقافية والاجتماعية والسياسية. يمكن التأكيد على دور المؤسسات الخاصة التي تعاني الامرين من النفقات المتسارعة والتعادلية للميزانية المرتكزة على منحة ضئيلة من الدولة والاستشهار ومساعدة بعض رجال الاعمال بالرغم من رهان الاستقلالية في الخط التحريري والابتعاد عن البيع والشراء الذي يهيمن على أمواج الاذاعات بطريقة مضمنة وخفية. وفي هذا الصدد يمكن التأكيد على اذاعات جديدة نسبيا أحدثت فارقا بينا مع كل من جوهرة أف أم وشمس اف أم وموزاييك التي تريد بكل الطرق كسب السوق الجهوية ومنافسة اعلام القرب بالبحث عن الاثارة واستباق الحدث عن طريق مراسلين جهويين هاجسهم الرئيس هو السرعة في نقل الحوادث والانتحارات والتهريب مما يضفي على عملهم صبغة سلبية تذهب تسيء لسمعة الجهة لانها لا تحترم النسبية في نقل الخبر بين الايجابي والسلبي زمن سمعة في الوطن التونسي الجريح فالتنمية بالتلازم مع البطالة أضحت الملاذ الوحيد لكي يتيقن الشباب من وجود أمل في الحياة وضرورة الكد والعمل لتحسين الوضع والبحث عن آفاق جديدة بعيدا عن طوباويات السا سة والسياسيين. تمثل الاذاعات الجهوية أذنا حقيقية للمواطن وللذكر يمكن التأكيد على صبرة أف ام بالقيروان وكنوز أف أم بسوسة واذاعة الرباط بالمنستير وكرامة أف أم ومساكن أف أم وحتى الرقمية كزهرة أف والصراحة وغيرها ممن عولوا على الطاقات البشرية والموارد الذاتية دون تهويم ولا ابتعاد عن المقصد الحقيقي من السلطة الرابعة.
تمثل اذاعة صبرة اف أم النموذج الحقيقي لاعلام القرب وللموضوعية يمكن تبيان اسمها الذي يعبر عن مدينة دفنت بطوبها وحضارتها وقصورها تحت أديم جهة المنصورة وتتوق لمستقبل مزدهر ينهض بجهة آل النظامان السابقان على تغييبها قصديا واخراجها من منوال التنمية ويمكن بالتالي أن نتحدث على رهان صعب ماديا ومعنويا ولقد مرت الاذاعة بأزمات داخلية وتهجمات خارجية من هياكل اعلامية معلنة ومبطنة ولكن العمل الحقيقي والمجهود اليومي جعلها تقاوم لكي تعيش وبعث الروح في الوسط الغربي خصوصا والمنطقة التي كانت مهدا للثورة ودحضت بالتالي كل الادعاءات التي تتهمها بالرجعية او الحنين للعهد البائد كما تحاول أن تعلنه الحيتان الاعلامية الكبيرة القادمة من الشمال والتي تود أن يكون لها موطن قدم في الجهة وديدنها في ذلك بث روح من الفتنة مابين بعض المراسلين المجتهدين وهذه المؤسسة الخاصة الساعية الى خدمة الوسط والوفاء لحاجياتهم والدفاع عن مناطقهم المفقرة والعطشى حقيقة.
ان الخليط الثري لهذه الاذاعة من أساتذة جامعيين وعمداء ومتفقدي تعليم ثانوي وشعراء ومبدعين في شتى المجالات وخبراء تراث ومحامون وتقنيون حرفيون يجعل من تجعهم بنفس المركب رهانا كبيرا يدعو للتفوق على أعتى الصروح الاذاعية الضاربة في القدم سيما وأن معدل الأعمار لا يتجاوز السابعة والعشرين مع تعدد المشارب والاختصصات التي تدعم خريجي معهد الصحافة وعلوم الاخبار بالمؤسسة. وبالرغم من النقائص العديدة التى تسم أغلب الاذاعان المحلية فصبرة أف أم تشق طريقها بثبات لمقاومة آفة الفقر والتهميش والمغالاة والتعتيم بمواعيد أخبارها الذي يشرف عليه خيرة الساهرين على التنسيق مع المراسلين في بوزيد والقصرين وقفصة والمكنين والعاصمة وكل شبر من الوطن العزيز ولا تقل مساهمتهم عن أخبار الضاربين في القدم ويمكن ذكر بعضهم من سهام وأسماء والمحروق وغالية وغيرهم من الأصوات التي لها مستقبل كبير في الميدان الاعلامي نظرا للبحث والتقصي الذي يقوم به الجميع وخصوصا نوعية الأصوات المبدعة بالعربية الفصحى القحة وليس في ذالك أي مجاملة أما بالنسبة للتحقيقات والعمل الميداني اليومي فالفريق المعد من أسماء وأحمد والاستاذ حامد وخلية النحل اليومية التي لا تدع مجالا للهزل وتنهل من منابع الحدث مع التركيز على خصوصية القيروان مدينة العلم والعلماء والتأكيد على مفصلية ارتباط المركز بالأحواز تلك المدن الثرية بالجدية والصرامة والتي اغلبها يعيش داخل حلقات من التهميش الممنهج وبالنسبة للتنشيط الترفيهي والثقافي فالوجوه الشابة والمتقدة نشاطا وهمة كالمميز جدا معاذ صاحب الديناميكية الفريدة والمتوهجة عنفوانا جواهر وذات الصوت الرقيق زهرة وروح الصفاء الثقافي صفاء والفريدة نهى وغيرهم ممن أثر في المشهد الفني والثقافي بالجهة...أما القسم الرياضي الذي يشرف عليه الكابتن المكي وثلة المتعاونين والمنشطين فقد أحدثوا فرقا كبيرا في صحافة القرب من السيد والنافع وادريس وغيرهم...ولا يمكننا التغاضي عما يقدمه كل الشاعرين المميزين القهواجي والنقاطي في هذا المجال مع بصمة أضحت جلية لأحمد سعيد في المجال السياسي الوطني والدولي وكونت هذه الأسرة لبنة مهمة في الشبكة المحلية.
كثيرة هي الحملات الاعلامية التي تتعرض لها هذه الإذاعة الفتية وليس من قبيل المجاملة ولا التقريض أن نتحدث عن اشعاعها الحقيقي وعلاقتها بسلطة القرار وبالفئات الشعبية المتدفقة كل يوم على أبوابها ولكن اللافت للانتباه هو تحامل بعض المراسلين لإذاعات خارج المنطقة وتابعة لمنظومة تجارية مهيكلة تريد طمس هذا التقدم الذي حصل في وقت ليس بالطويل واعتقادنا أن التنكر للايجابي والتركيز على السفاسف والدقائق الصغيرة سيسيء للمشهد الإعلامي الجديد لأن الإعلامي الجهوي يرتكز على منطق الحوار ووشائج القربى لخدمة المواطن والواجب الأكيد نحو هذا الموطن أن نمتلك شجاعة نقد الذات لأن السلطة الرابعة وطبعا حسب ألبير كامي وعي بالأنا وقدرة على المنافسة الشريفة والجدية وعدم اللجوء الى الصفحات المشبوهة كقرينة اتهام لان تلك السهام ستعود حتما لباعثيها...الدعوة الملحة للعمل الدؤوب داخل إعلام القرب والالتزام بمصالحة حقيقية دون ضغينة ولا كراهية فباب الحقد لا يولد سوى جراح.
لا شك في أن لعبة المال والسياسة هي التي تحدد في كثير من الاحيان سمات الحرف النبيل ضمن منظومة معقدة ومتعددة المشارب ولكن الدافع الرئيسي لدى الشباب الاعلامي هو القيام باقتراب أكبر من المواطن وتبيان كل الاخلالات حتى يتم الإصلاح لدى سلطة الإشراف ويتم بالتالي الخروج من فكر التقرب للسلطة أو مهاجمتها بطريقة مجانية. وحسب اعتقادنا فالمراسل الصحفي هو حلقة الوصل ما بين الخط التحريري للجريدة أو الاذاعة والواقع المعيش وكل هنة تتعلق بنقل الخبر تعود سلبا على مخيلة المتقبل حسب المقاربات اللسانية والتداولية. إن الإعلام الجهوي في تونس يعيش تقلبات مفصلية منذ قيام الثورة التونسية ما بين اختيارات التعسف والانتقاد الممنهج أو لغة المجاملة والاقتصار على المحاسن فالمراسل حلقة فريدة وهو عين الاذاعة ومن واجبه التعبير بكل تجرد وشفافية عن المستجدات دون حيف أو بحث عن الانتشار المجاني بالتركيز على شناعة الجريمة مثلا وإهمال منوال التنمية من ناحية ثانية ...
يعتبر إعلام القرب الحلقة الفريدة في الخارطة التونسية ومن خلاله يتم تصوير للواقع بشكل ناصع ووفي وهو الذي يضمن رسم صورة حقيقية بعيدة عن الزيف والشحن والتأليب وينخرط في منظومة تحدث عنها المسرحي ماريفو من التسلية والافادة ولنا أن نتعلم من هذا المنهج الثنائي ونخضع للرقابة الذاتية ونتحلى بروح المسؤولية فالقرب هو قطب الرحى للمعلومة والصيغة المثلى في هذا الكون المعولم.
