سمو الأمير سعود الفيصل والقضية الفلسطينية بقلم:د. نبيل علي شعث
تاريخ النشر : 2016-05-19
سمو الأمير سعود الفيصل والقضية الفلسطينية بقلم:د. نبيل علي شعث


سمو الأمير سعود الفيصل والقضية الفلسطينية

د. نبيل علي شعث

للأمير سعود كل الأوطان، ولا شك أن أولها هو المملكة العربية السعودية، ولكن وطنه الثاني الذي لم يزره أبداً، ورفض أن يزوره إلى أن يعود حراً مستقلاً، فقد كان فلسطين. كانت القضية الفلسطينية دائماً في مقدمة اهتماماته، وعاد للتأكيد قبل وفاته أن المملكة تعتبر القضية الفلسطينية قضيتها الأولى كما كانت دائماً. كانت فلسطين وعذابات شعبها مصدر ألمه وقلقه وحافز حركته العربية والدولية.

لا أنسى رده على مراسل صحيفة النيويورك تايمز في العام 2009 بعد الهجوم الإسرائيلي الإجرامي على غزة، عندما سأله عن لحظات السعادة في حياته السياسية، فأجاب قائلاً: "لم نر بعد لحظات للسعادة والسرور في زماننا، لم نرى إلا لحظات الأزمات والصراع، وكيف كان يمكن لنا أن نشعر بالفرح والسرور والشعب الفلسطيني لا يزال يعاني ويعيش تحت الاحتلال وفي المهاجر". العمل والحراك المستمر من أجل فلسطين جزء لا يتجزأ من إستراتيجية المملكة العربية السعودية وقادتها بدءاً بالقائد المؤسس الملك عبد العزيز يرحمه الله الى الملك فيصل والملك خالد والملك فهد والملك عبدالله يرحمهم الله، وصولاً إلى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان حفظه الله.

كان الملك فيصل والأمير سعود الفيصل من قاد العمل الخارجي والدبلوماسي للمملكة منذ نشأتها ومن نفذ الإستراتيجية السعودية تجاه قضية فلسطين والقضايا العربية والدولية الأخرى، لذلك فإن الحديث عن دور المملكة العربية السعودية في القضية الفلسطينية لا يتعلق بدور سمو الأمير سعود الفيصل وحده، فالقرار يتخذه القائد، ملك البلاد، بعد أن يتشاور مع وزرائه ومستشاريه، وفي مقدمتهم الرجل الأول في العمل الخارجي الدبلوماسي، قائد الحراك العربي والدولي من أجل استعادة حرية فلسطين وتحقيق استقلالها، وحماية شعبها وعودة لاجئيها وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني والابارتهايدي لأرضها.

عندما يتخذ القرار، فإن على وزير الخارجية تنفيذه، بحنكته ومهاراته وعلمه وخبراته الواسعة، وبحكمته وشجاعته، وقد امتلكها سمو الأمير سعود الفيصل جميعاً، وقد استخدمها جميعاً فيما كان يقوم به من أجل فلسطين.

لعبت المملكة العربية السعودية دوراً هاماً في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين في الحرب، وفي محاولة استعادة الحقوق والأرض بالسلام العادل. قدمت المملكة بقيادة الملك المؤسس عبد العزيز الدعم المالي والعسكري لمواجهة الغزو الصهيوني لفلسطين في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، وساهمت بالمقاتلين والمتطوعين في عام 1948. صلى الملك مسعود (عندما كان أميراً)، في المسجد الاقصى، والمسجد الإبراهيمي في الخليل، وقال يومها: "أننا مستعدون لإنقاذ فلسطين بأموالنا وأنفسنا متكلين على الله الذي نستمد منه العون". قدم الملك فيصل، شهيد القدس، الكثير لفلسطين ولمصر ولسوريا في مواجهة العدوان الإسرائيلي، وتحمل النصيب الأكبر في دعم مصر وسوريا في العام 1973 في حرب إزالة آثار عدوان 1967، واستخدمت المملكة سلاح البترول في وجه الولايات المتحدة والدول الحليفة لإسرائيل في حرب 1973. قدم الملك فهد مشروعه للسلام في العام 1981، ودعم الثورة الفلسطينية، وسهل الخروج الآمن للرئيس ابو عمار وقواته من بيروت عام 1982، ثم من طرابلس عام 1983. ودعم الانتفاضة الفلسطينية الباسلة عام 1987. وقف الملك عبدالله الى جانب الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، ودعم السلطة الوطنية الفلسطينية. وأطلق مبادرة السلام العربي. أستمر خادم الحرمين الشريفين سلمان بن عبد العزيز بدعم القضية الفلسطينية من كل موقع شغله، ولا أنسى أبداً دوره عندما كان أمير الرياض.

منذ العام 1975 وفي ظل أربع قادة عظام من ملوك المملكة العربية السعودية والأمير سعود الفيصل يقترح ويشير ويسهم في اتخاذ القرارات ذات العلاقة بالسياسة الخارجية والدبلوماسية السعودية، ويقوم بتنفيذها بالتزامه وإيمانه بعدالة القضية الفلسطينية، وبحنكته وشجاعته، وبحكمته وخبرته الطويلة، دون كلل أو تردد، ورغم من أصابه من مرض وآلام في ظهره في الجزء الأخير من عمره.

صاحبت سمو الأمير سعود، وشاركته في العمل من أجل قضيتنا الفلسطينية ما يزيد عن عقدين من الزمن، من العام 1991 حتى 2012، كنت أثناءها وزيراً للخارجية الفلسطينية والتعاون الدولي ونائباً لرئيس الوزراء الفلسطيني، ومستشاراً للرئيس ابو عمار رحمه الله ثم للرئيس ابو مازن، وبالأخص في المرحلة الخطيرة والصعبة بين العام 2000 و 2009، فترة انتفاضة الأقصى والاجتياح الإسرائيلي للضفة والغزو الإسرائيلي المتكرر لغزة، واستشهاد القائد ابو عمار، وما صاحب هذه الفترة من حراك سياسي مكثف لحماية الشعب الفلسطيني وقضيته من غلواء التطرف الإسرائيلي الصهيوني والتواطؤ الأمريكي والتهاون الدولي وغياب الوحدة العربية والإسلامية.

كان سعود الفيصل يرى بوضوح كامل أن محاولات تحقيق الوحدة داخل كل قطر عربي، وبخاصة داخل الساحة الفلسطينية ذاتها، تصب في تحقيق فاعلية أكبر للعمل العربي، لأنها تحقق قدراً اكبر من توازن القوى بيننا وبين عدونا. شاركته في محاولات متعددة لتطوير الجامعة العربية، وتوحيد العمل العربي، وتوظيف ذلك لزيادة فاعلية المواجهة العربية للاحتلال والاستيطان الاستعماري الإسرائيلي.

شاركته في قمة القاهرة في أكتوبر 2000 بعد اندلاع انتفاضة الأقصى نتيجة لاقتحام شارون للمسجد الأقصى وتدنيسه، واستشهاد المئات دفاعاً عن الأقصى. شاركته في قمة بيروت عام 2002 حيث طرح الملك عبدالله، وكان وقتها ولياً للعهد، مبادرة السلام العربية، وعملت معه لتوفير الصياغة النهائية للمبادرة، ثم لطرحها على وزراء الخارجية العرب في القاهرة وإقرارها، ثم في طرحها على القمة العربية التي اعتمدتها بالإجماع. وشاركته في قمم عربية أخرى وفي اجتماعات منظمة التعاون الإسلامي وفي الأمم المتحدة وأوروبا وأمريكا.

كان نعم الشريك والزميل والأخ الكريم، وكان دائماً الدبلوماسي الفذ بتواضعه وكبريائه، كان الخبير فيما كنا في حاجه اليه، وكان المستجيب دائماً لطلبات فلسطين.

كان يدرك أهمية دور الولايات المتحدة، وبالأخص بعد العام 1991 وسقوط الاتحاد السوفيتي، وحرب الخليج، حيث باتت الولايات المتحدة القوة الكبرى الوحيدة التي تحكم العالم. دعم حراك بيكر في مؤتمر مدريد ثم في مفاوضات واشنطن، ولكنه وقف الى جانب فلسطين في مواجهة التواطؤ الأمريكي مع إسرائيل وكتب رسالة الملك عبدالله بن عبد العزيز للرئيس بوش عام 2001 والتي طالبته بتنفيذ ما وعدت به الولايات المتحدة من تحقيق العدالة لفلسطين وشعبها مقابل ما قدمته المملكة العربية السعودية لأمريكا من دعم بترولي وسياسي، وأنذرته بالذهاب الى مفترق الطريق في العلاقة مع أمريكا. كنت أزوره شهرياً في الرياض أو جده او في بيته بباريس، وكان يوفر لي طائرته الخاصة لتسهيل زيارتي له حيثما كان. كان ألمه كبيراً كلما تعرضت غزة لهجوم إجرامي مدمر جديد.

عمل الأمير سعود الفيصل من أجل فلسطين طيلة حياته، وقدمت المملكة العربية السعودية وقادتها الدعم المستمر لشعب فلسطين وقضيتها بلا تردد، وقدم الشعب الفلسطيني وقياداته التضحيات جميعها بالأرواح والأرزاق والجهود حربا وسلماً، لكننا رغم ذلك كله لم نستطيع حتى الآن تحرير فلسطين وبيت المقدس وتحقيق استقلالها، وعودة لاجئيها، وصولا إلى سلام عادل ينهى الاحتلال والاستيطان الاستعماري والابارتهايد العنصري لفلسطين وتحقيق الأمن والرفاهية لكل شعوب المنطقة.

وطننا العربي يعاني من الأزمات الخانقة، وبخاصة في سوريا، وأيضا في العراق واليمن وليبيا، يتدفق الملايين من اللاجئين العرب وبخاصة السوريين إلى أوروبا وباتت منطقتنا مصدر للإرهاب إلى أوروبا. مازال وطننا العربي وقطرنا الفلسطيني وأقطار عربية أخرى تعاني من الانقسام وغياب الوحدة، وهو ما شكى منه الأمير سعود الفيصل في أيامه الأخيرة. مازلنا نواجه تطرف إسرائيلي عنصري يختلق أسطورة الوطن اليهودي في بلادنا مستهدفاً سرقة حاضرنا ومستقبلنا وماضينا وتراثنا وتاريخنا وقدسنا والأقصى في قلبه، وهو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، كما يستهدف كنيسة القيامة ومهد المسيح عليه السلام، صباح اليوم شهدنا مواجهات واشتباكات عنيفة في ساحة المسجد الأقصى بين المصلين العزل من السلاح الذين يحمون الحرم الشريف بأجسادهم وأرواحهم وبين المستوطنين المستعمرين المدعومين بالجيش الإسرائيلي المصرين على تدنيسه والاعتداء عليه.

نتحمل بشجاعة مسؤوليتنا في إعادة اللحمة والوحدة لبلادنا، ونستمر في نضالنا وحراكنا لاستعادة وطننا وحماية القدس وإنقاذها مع إدراكنا للصعوبات الهائلة التي تواجهنا، ولكننا نتغلب على تشاؤم الفكر الذي يحسب الصعوبات بتفاؤل الإرادة، والاستعداد للتضحية. كنا مليون فلسطيني يوم النكبة عام 1984 ونحن الآن نقترب من 14 مليون نصفنا في بلادنا على ارض الرباط صامدون، ونصفنا في الشتات مصرون على العودة للوطن.

نحن مع اشقائنا العرب السعوديين في سعيهم لتوحيد العرب وإنهاء الانقسام ومواجهة الإرهاب بقيادة خادم الحرمين الشريفين سلمان بن عبد العزيز ونحن معهم في تطلعهم للمستقبل وفي رؤيتهم الطموحة للمملكة العربية السعودية في العام 2030، وفي دعمهم لأمتهم العربية وبخاصه في مصر.

نبقى دائما على ثقة باستمرار الدعم العربي السعودي وتصاعده لتوفير النصرة لنضالنا، ولتوفير شبكة أمان لشعبنا في مواجهة الحصار الإسرائيلي إلى أن نعيد بناء اقتصادنا بعيداً عن الابتزاز الإسرائيلي والهيمنة على اقتصادنا وحدودنا، ما يمكننا من مواجهة الاستيطان الاستعماري الذي يسرق أرضنا ومائنا وحقوقنا. نحن على ثقة باستمرار النهج الذي قاده الأمير سعود الفيصل رحمه الله لتوجيه حراكه الخارجي والدبلوماسي لتوفير دعم عربي يوفر مزيدا من الضغط الدولي على إسرائيل وسياستها ويواجه التواطؤ الأمريكي معها. لكننا في الوقت ذاته نريد ان يبقى الباب مفتوحاً للعودة في الوقت المناسب الى عملية سلام حقيقية لا زيف فيها ولا خداع إسرائيلي يستخدمها لسرقة أرضنا، يحكمها إطار دولي يستند الى الشرعية الدولية ويوقف النشاط الاستيطاني ويضع تاريخاً نهائياً لإنهاء الاحتلال ويفرج عن أسرانا، وتظل المبادرة العربية للسلام التي حملها سعود الفيصل على كتفيه أثناء حياته دون تعديل لمسارها ودون السماح باستدراجنا لتطبيع ومكاسب جديدة لإسرائيل قبل تنفيذ التزاماتها وتحقيق الانسحاب من بلادنا. وقد وقف سعود الفيصل وقفة الأبطال في وجه من حاولوا حرف المبادرة عن وجهتها الإستراتيجية.

نريد حراكا عربيا فلسطينيا فاعلاً نستلهم فيه حكمة سعود الفيصل والقادة العظام الذين قادوا المملكة.

نستذكر في نضالنا المستمر الأمير سعود وما تركه فينا ولنا، وما حاول طيلة أربعين سنه من عمره لعلنا نحقق لروحه وذكراه ما عمل طيلة عمره لتحقيقه: حرية فلسطين، وقيام دولتها المستقلة، والحفاظ على القدس عاصمتها، والأقصى حرماً حراً يرحب بكل مسلم للصلاة فيه وزيارته، والعودة للاجئين الفلسطينيين، وسلام يحقق العدل والأمن والاستقرار لكل شعوب المنطقة.

سلام لروح سعود الفيصل تغمده الله سبحانه وتعالى برحمته وأدخله فسيح جنانه.