الشهيدان المحمدان بقلم: نصير أحمد الريماوي
تاريخ النشر : 2016-04-26
الشهيدان المحمدان بقلم: نصير أحمد الريماوي


من صفحات بيت ريما المجيدة .. الشهيدان المحمدان

محمد ياسين الريماوي، ومحمد محمود الريماوي

* بعد خمسة أيام من البحث تعرَّفوا على مكان استشهادهما من الطيور الجارحة
* خاضا و الثوار معركة بطولية استمرت ثلاثة أيام بلياليها .. دمَّروا معامل، الشيد، والكلس، والحجارة الصهيونية في "رأس العين، وكبَّدوا الصهاينة خسائر فادحة.
* استشهدا بعد تحقيق نصر مؤزَّر كان الشرارة الأولى في إشعال نار الثورة


بقلم الكاتب: نصير أحمد الريماوي

24/4/2016م

بدأ الثّوار يعودون إلى منازلهم متفرقين، وعلى فترات متباعدة، ومن جهات مختلفة بسبب انتشار جيش الاستعمار البريطاني وكمائنه بمحاذاة الطرق الجبلية والوديان التي يسلكها الثوار غرب البلدة .. والبعض الآخر آثر البقاء ناحية قرى: اللبن الغربي، و رنتيس، وقولة حتى ينسحب عناصر الجيش .. والناس في بلدتنا "بيت ريما" يتساءلون عن مصير أبنائهم الثوار، وفي حالة هرج ومرج .. توقف الشهيدان في قرية "اللبن الغربي" لبرهة، ونصحهم الناس هناك بعدم العودة لأنه يوجد حصار بري والجبال ومنافذ الطرق باتجاه بلدتنا محفوفة بالمخاطر .. إلا أنهما آثرا العودة بسلاحهما بعد عودة مكللة بالنصر وتدمير معامل الشيد والكلس والحجارة الصهيونية في "رأس العين" بعد معركة دامت ثلاثة أيام بلياليها أبلوا فيها الثوار بلاء حسنا، وكبَّدوا الصهاينة خسائر فادحة .. ما لبثا أن خرجا من قرية "اللبن الغربي" وانحدرا عن الجبل إلى سفحه من الناحية الشمالية في منطقة تدعى "باطن اللوز" قرب "واد صريدا" من أراضي قرى: "عابود" و"اللبن الغربي" و"دير غسانة"، حتى وصلا منطقة" الحجر الأحمر"، وهذا الحجر هو عبارة عن صخرة مشهورة بحِدَة ارتفاعها عن الأرض وعلوها، وهي مقطع صخري طبيعي غريب ومثير للمشاهدة ..
لم يتمكن المستعمر الانجليزي والصهاينة من مواجهة الثوار وقوة بأسهم في "رأس العين" حينئذ فسارعوا لطلب النجدة من جنود المستعمر المتمركزين قرب مدينتي رام الله ، والقدس- أي من الناحية الشرقية للبلدة بينما تقع "رأس العين" في الناحية الغربية - فجاءت قوات بريطانية كبيرة من الناحية الشرقية وانتشرت في الجبال ونصب الكمائن للثوار في الأراضي التابعة لقرى: "عابود" و"اللبن الغربي" و"دير غسانة" بمحاذاة الطرق التي يسلكها الثوار أثناء عودتهم إلى بلدة بيت ريما .. واختبأ القنَّاصون البريطانيون بين الأشجار الحُرجية في نهاية الجهة الغربية من جبل" الظهر" المقابل لمكان الشهيدين، بحيث يفصل الطرفين عن بعضهما البعض الواد المعروف بـ " زحليقة جابر".. كان الشهيدان يسيران بخطى حثيثة في يوم صيفي قائظ من شهر آب اللهَّاب، وأحيانا يستريحان تحت ظل الشجر.. يأخذان قسطا من الراحة ثم يواصلان السير مشيا على الأقدام تحت أشعة الشمس الساطعة .. عندما انكشف الشهيدان للقنَّاصين وصارا في مرمى نيرانهم، أطلق القنَّاصة نحوهما الرصاص فكانت إصاباتهما قاتلة في الرأس مباشرة .. واستشهدا فوق " الحجر الأحمر" في العراء، وكان ذلك في نهاية شهر آب من عام 1936م .. وبعدها انسحب جنود العدو باتجاه مدينة "اللد" نحو الساحل الفلسطيني غربا ..
أهالي قرية اللبن الغربي سمعوا صدى إطلاق الرصاص من الجهة المقابلة لهم .. أبلغوا بلدتنا بآخر لحظة للشهيدين في قريتهم دون أن يعرفوا ما حلّ بهما عقب مغادرتهما للقرية، لكنهم أكدوا سماعهم لإطلاق الرصاص في الجبال .. خاف الناس عليهما .. صار الظن بأن شيئا ما حصل لهما !! انتشر الخبر .. عزم الناس على ضرورة البحث عنهما .. أحضروا جملا .. وضعوا على ظهره الرّحل وشدُّوه بالوضين بإحكام ثم وضعوا عليه ألواحا خشبية من الجانبين .. قسَّموا أنفسهم إلى مجموعات للبحث في اتجاهات مختلفة .. خرجت المجموعات وانتشرت بحثا عن الشهيدين في الجبال، والوديان، وبين الأشجار، وفي الكهوف، والسفوح، والهضاب، والتلال، وقرب الينابيع الطبيعية، والحقول، والبساتين، وفي كل شيء ممكن أن يلجأا إلية .. كانت المجموعات تمسح الأرض مسحا وتتحسس التربة أحيانا أو أي حَفر جديد فيها .. لقد مكث المشاركون في المجموعات لمدة خمسة أيام متواصلة من البحث حتى شاهدوا طيورا جارحة تحوم في سماء مكان الاستشهاد ثم تَهوي إلى الأرض تأكل ثم تطير .. تَهوي وتطير .. تَهوي وتطير بشكل ملفت للنظر .. توجهوا فورا نحو المكان .. اقتربوا شيئا فشيئا حتى شاهدوا جثتي الشهيدين بين الصخور والأشجار الحُرجيَّة منتفختين من شدة حرارة الجو، والدماء تغطي وجهيهما، وكل واحد منهما بندقيته تعانق كتفيه .. كانت تلك علامة ربَّانية أرشدتهم إلى مكان استشهادهما .. أناخوا الجمل على الأرض الوعرة .. رفعوا الجثمانين الطاهرين عن الأرض .. وضعوهما على اللوحين الخشبيين فوق رحل الجمل .. أوثقوهما بالحبال جيدا- لأن المسافة بعيدة عن بلدتنا- وعادوا بهما من ناحية، " عين الزرقاء" مرورا بـ"عين الحجر" و"عين سابونا" ثم "واد الجمل" فالبلدة .. كانت عبارة عن مسيرة جنائزية صامتة تحرسها السماء ، والجبال، وأشجار الزيتون والتين والعنب بحفيفها تغني للسواعد التي تحرسها .. كأنه مشهد وداعي للشهيدين، وعرس وطني حيث غصّت الطرق وشوارع القرية بالمواطنين المستقبلين لعودة الأبطال .. وتمت مواراة الجثمانين بعد وداعهما في جزء من مقبرة البلدة العامة الواقع خلف منزل "أحمد عيد" الملاصق للمقبرة مباشرة من الغرب وسط حشد جماهيري كبير .. هذا ما رواه لي" الحاج طلبات" نجل الشهيد عبد الرحمن حمدان الريماوي ..
لقد ترك الشهيد"محمد محمود الريماوي- أبو طلال" البالغ من العمر( 37)عاما خلفه عددا من الأطفال، وهم : فوزية أكبرهم 9 سنوات، وأصغرهم "طلال" عمره سنة، وسلطية ، وحاكمة، ومحظية، وقد عكفت أمهم على تربيتهم والاعتناء بهم حتى كبروا، أما الشهيد الثاني فهو " محمد عبد الله ياسين الريماوي- أبو عبدالله" البالغ من العمر(38) عاما، لقد ترك خلفه من الأطفال: رسمية** أكبرهم13 سنة، وعبد الله، ووجيه، وعبد العزيز، ووجيهة .. وقد تولى الاعتناء بهم ورعايتهم خالهم "زهدي العبد" لفترة من الزمن، ثم تم إرسالهم فيما بعد إلى مدرسة "دار الأيتام الإسلامية الصناعية" بالقدس، التي تأسست في عام 1922م نتيجة للظروف والأحداث المأساوية التي مرت بها فلسطين بعد سقوط الدولة العثمانية وبدء الأطماع الاستعمارية البريطانية والصهيونية، وتفجر الثورة والمقاومة، وما نتج عن ذلك من مآس وكوارث لحقت بشعبنا، حيث عمّ الفقر، والجهل، وكثر عدد الأطفال الأيتام من أبناء الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم دفاعا عن الوطن، فكانت فكرة المدرسة للاعتناء بهم، وتقديم كل متطلبات الحياة لهم من، مأكل، وملبس، ومسكن، وتعليم يجمع بين الأكاديمي والمهني، و قد كان أ. عبد الجليل الريماوي رحمه الله رحمة واسعة مديرا لها لفترة زمنية حتى تقاعده ..
ونعود إلى الظروف التي سبقت قصة تدمير معامل الشيد، والكلس، والحجارة الصهيونية التي كانت بمثابة الشرارة الثورية الأولى التي أشعلت الكفاح ضد الاستعمار والمشروع الصهيوني ..
المؤرخ "عيسى محسن" في الصفحة(169) من كتابة "فلسطين الأم وابنها البار عبد القادر الحسيني"، يقول : "في صباح يوم28 آب1936م عقد اجتماع سرّي في بيت المناضل والشاعر "صالح الريماوي" الواقع في واد الجوز بالقدس حضرة القائد السوري "سعيد العاص"، والقائد "عبد القادر الحسيني"، والثائر الهُمام " فايز طه الريماوي"* ونفر من المجاهدين .. أدوا الصلاة جماعة، وتضرعوا إلى الله أن يأخذ بيدهم وبنصرهم، وأعلنوا هجرتهم خالصة لوجه الله تعالى، والشهادة في سبيله، ونصرة لدينه، وذودا عن الوطن ودفاعا عن مقدساته والأعراض والحرمات .. ثم اتفقوا على أن يتوجه" سعيد العاص وعبد القادر الحسيني" إلى القرى المجاورة للقدس لتنظيم وتعبئة المسلمين، وأن يتوجه "فايز طه الريماوي" ابن بلدتنا بيت ريما إلى منطقة بني زيد قضاء رام الله للدعوة إلى الثورة وتدمير معامل: الشيد، والكلس، والحجارة الصهيونية الواقعة في الجهة الشرقية من "رأس العين" على بعد عشرة كيلومترات من تل الربيع، وهي المعامل الوحيدة التي كانت تمد المستعمرات الصهيونية بالحجارة، والكلس، والشيد..
في نفس التاريخ عاد " فايز الريماوي" إلى بلدتنا بيت ريما، عقد اجتماعا في منطقة بني زيد حضره الوجهاء، والشبان من كل القرى المجاورة، وقرروا التوجه لتدمير المعامل التي تبعد عنَّا حوالي(30) كيلومترا غربا .. عند مساء ذلك اليوم توجه(500) مجاهد بأسلحتهم ومتفجراتهم لتنفيذ المهمة البطولية، و نار الحماسة تشتعل فيهم .. عندما وصلوا المعامل .. جرَّدوا الخَفر من أسلحتهم .. ثم طوَّقوا المحاجر، والقرى المجاورة لمنع وصول الأخبار والدعم .. واستمروا في تدمير المعامل الذي استغرق مدة ثلاثة أيام بلياليها حتى دمروها عن بكرة أبيها، ولم تتمكن قوات المستعمر والصهاينة من التعرض للمجاهدين، وإنما استنجدت بالقوات البريطانية المتمركزة قرب رام الله والقدس كما ذكرت آنفا، وهكذا حصل مع الشهيدين ..
هذه هي قصة " المحمدين" الشهيدين .. لقد كانا صديقين حميمين، ومن نفس العمر واستشهدا معا بعد تحقيق نصر مؤزر كان بمثابة الشرارة الأولى في إشعال وإذكاء نار الثورة.. كانوا عائدين ونشوة النصر تغمرهم .. فازداد حنق وتوحُّش جنود الاستعمار والصهاينة على ثوار قرى بني زيد وبخاصة بيت ريما ..
______
[email protected]
ملاحظة:
* فايز طه الريماوي: هو شقيق المرحوم "أحمد طه- أبو طالب"، استشهد في عام1939 مع مجاهد آخر من قرية كفرعين يدعى" فخري حامد محمود دغرة" حيث أعدمهما الاستعمار البريطاني شنقا بعد إلقاء القبض عليهما بين قريتي"مزارع النوباني، وعارورة"، والتحقا بركب الشهداء، سأحكي لكم قصته بشكل منفرد عندما انتهي من جمع المعلومات ..
**رسمية: هي أم الشهيد عبد الفتاح حافظ الريماوي الذي ما زال جثمانه محتجزا في مقابر الأرقام الصهيونية منذ أكثر من 45 سنة.