رحلتي إلى بسكرة العظيمة
بقلم: الصحفي الجزائري بوشن فريد
الرحلة إلى بسكرة.. لم تكن مطلقاً سهلة وخفيفة.. فقد طغى عليها طابع المغامرة الشرسة والمدهشة في آن واحد.. كانت محفوفة بالتألق والأرق أيضاً.. رحلة أقل ما يقال عنها.. رحلة ضد الزمن والمكان وحسابات المنطق, وضد ما لا يمكن تصوره.. شعرت وأنا أجمع مستلزمات الرحلة بأنني ذاهب إلى مدينة لا تشبه باقي المدن الجزائرية, مدينة تتمتع بالإخلاص الكلي للوطن, للدفء, للرجوع لزمن الجمال والكمال البشري, مدينة ترتقي بطيبة أهلها ونضج القيم لديهم إلى مصاف المدن الكبرى التي دخلت التاريخ والتأريخ بفضل رحب صدر ومحاسن أناسها وجمال صور طبيعتها الخلابة, شعرت وبدون مجاملة أو مزايدة, أني سأدخل مدينة بسكرة بقلب ناضج ومحب لما هو إنساني وجزائري بامتياز.
لأول مرة أزور مدينة بسكرة, وهذا لا يعني بأن الوصف الذي رسمته, راجع لتأثر الطبيعي الذي يتملك أي إنسان في لحظة زيارته لمدينة يجهل جمالها وطبيعة أهلها, بالطبع لا, فمدينة بسكرة رغم كل شيء تتفوق على الأمور العادية, فما وصلت إليه من تقنيات السحر والكرم يجعل من ذوي المعتقد الحجري, لا قلوب لديهم ولا وجد يحس بالجمال, ولا عقل يصور الجمال ويميز الأشياء العبقرية, تجعلهم يشعرون بأن هناك اختلاف وشيء مميز يخص فقط مدينة بسكرة, لا أعرف ما هو بالضبط ولكن أنا على دراية تامة, وكلي قناعة ثابتة, بأنها مدينة مميزة ومتألقة.
مدينة بسكرة.. موطن الأدب و الشعر.. قلعة كبيرة من الأعمال الثقافية والأنشطة الساحرة والهادفة, العمل الجمعوي بكل توجهاته لا يتوقف عن مبارزة صمت المدينة, مرافق المدينة هي الأخرى تكد وتشتغل على محاربة معاناة الإنسان البسكري, فكل رموز الثقافة في مدينة بسكرة تعمل بنوع من الصرامة والمسؤولية والوعي الفكري العبقري.. لا تمر أمسية دون مسرحية, الثواني عند القائمين على شؤون الثقافة في مدينة بسكرة مهمة ومقدسة, ففي الصباح يدعونك لزيارة معرض الصور الساحرة التي تم التقاطها من طرف عمالقة التصوير الفوتوغرافي.. وفي المساء يدعونك إلى الاستمتاع برمزية المسرح, ومشاهدة ملحمة تاريخية عبر مسرحية يمثل فيها هواة المسرح الجزائري من إخراج بسكري بامتياز.. وهكذا تستمر الحياة في مدينة بسكرة.. حياة لا بؤس فيها.. حياة لا للوجع في قواميسها.. حياة تدعو الإنسان لصناعة نفسه وكتابة المجد بمختلف مفاهيمه العالمية والأسطورية.
لقد خانتني هذه المرة الحظوظ السوداء, وباركتني السماء بالرونق الرباني, عندما تركتني أكتشف وبسرعة فائقة الوجه الحقيقي لطبيعة تفكير الفرد البسكري.. فبينما كنت بالأمس أتصور هذا الفرد الصحراوي على أنه إنسان يجهل سبل التنفس والرقي الجمالي ولا يتحف بوجوده, فجأة.. وبفضل رحلتي هذه, تغيرت تصوراتي وقناعاتي وخلفياتي الفكرية وحتى السياسية, وبدأت أرى فيه أنواع عديدة من المحاسن والجماليات والكماليات, وأن فكره منفتح لأبعد الحدود والتصورات, فالفرد البسكري مشهور بالكرم والذكاء والعصرنة والديمقراطية وبابتسامة قاتلة.. فهو يبحث كل يوم عن ما يدفع الجزائر إلى النهوض بها لبلوغ اللمسة السحرية.. وفي كل المحطات.. أعتقد أنه نجح في ذلك.
الإنسان البسكري..ودود وخلوق ومناضل في سبيل إحقاق الفرح والبهجة..محافظ لتقاليده وأعرافه وإيمانه..وتختزل فيه كل أشكال الإنسانية..إنسان متشبع بالمعرفة والآداب والأخلاق.. ربما قد يظن القارئ أني أجامل وأزايد..لكن أكاد أجزم أن لولا هذه الرحلة ما تمكنت أصلا في معرفة هذا المخلوق البسيط في ملبسه وحديثه وضحكته وجماله الرملي الصحراوي.. أنا أنقل ما رسمته عيناي..والعيون أبدا لا تعرف فن الكذب.
إن الفاتورة الجميلة والايجابية التي يستفيد منها الإنسان المهتم بالسفر والرحلات.. هي في التغيرات التي تصيب مبادئه وقناعاته, وتتحول على إثر بعض من التحولات والرسومات التي يراها في رحلته, فمثلا عندما يؤمن أن الحياة لا تتجدد مطلقاً, وحين يقوم برحلة معينة تتغير فيه هذه الرؤية.. لتتحول معتقداته القديمة إلى مجرد كومة من أخطاء الماضي..
السفر عندي هو أساس التحول من الجميل إلى الأجمل.. وبفضل رحلتي اكتشفت أن العالم لا يتوقف فقط بين جوانب مدينتي أو موطني.. السفر ثقافة جديرة بالتقييم والتشهير بها... فكل ما نكتشفه خارج عن دائرة حياتنا... يأتي بالجديد.. وسببه مجموعة من عدة عوامل وتأثيرات التي نبصرها أثناء السفر... إذن أعتقد أنه من الضروري الاعتناء وتربية أبنائنا على الاهتمام بفن السفر واعتناقه... فلا خير في إنسان لا يمارس ثقافة السفر.
يقولون سافر لتكبر, وأنا أقول سافر حتى لا تقع ضحية كوابيسك ومراجعك الفكرية والسياسية والإيديولوجية.
الشيء الجميل في السفر.. هو ذلك الترابط الإنساني المنقوش بالحنين لكل ما هو فوق طبيعة الإنسان, كالتحكم في أخلاق الكمال والجمال, وامتلاء قلوبنا بتقنيات المحبة والصداقة والإخوة.. وهذا بالضبط.. ما عشته أنا..فقد التقيت بأشخاص ذو لهجات تختلف عن لهجتي, وعادات وتقاليد مختلفة, فهمزة الوصل بيننا تكمن في انتمائنا لنفس الوطن, يعني أننا لنا نفس الوطنية والوطن, لنا جزائريتنا الخالصة.
هذا قبائلي وشاوي ومزابي وترقي وشنوي.. هذا من بيئة الشمال وذاك من بيئة صحراوية.. المهم الجميع مختلف في اللهجة ويجتمعون في اللغة الأم "الأمازيغية" ويعتنقون نفس الإحساس بالوطنية والأرض "الجزائر العزيزة".
في الحقيقة, لا يفرق الإنسان غير الخبث السياسي ونفاق الأنظمة...
ومن الجيد أحياناً.. أن نتعمق أكثر فيما رسمناه البارحة.. وإعادة قراءة كل خطاباتنا التي نلقيها في المناسبات أو في غير مناسبة رسمية.. وخاصة تلك الخطابات التي تدعو إلى نكران غيرنا وعدم الاهتمام بتراثه وميراثه الفكري.. تلك الخطابات الهدامة بغير عمد أو دراية.. للأسف.. تعلمت هذا في لحظة متأخرة..بالرغم من رحلاتي الكثيرة لم أكتشف أسرار بلدي إلا من خلال رحلتي إلى بسكرة من أجل المشاركة في دورة تكوينية, كانت تنظمها مؤسسة إعلامية عملاقة وراقية..
لقد ساهمت أجواء وطبيعة بسكرة في تغيير منهج تفكيري السياسي وقربتني أكثر إلى ينبوع الاعتراف بأن الجزائر فيها ما يستحق التعبد والتشدد, ونظفت بقايا الانغلاق والحبس الانتماء لدي, وتوصلت إلى قناعة شريفة.. أن الجميع مجبر على حب وطنه وشركائه في الوطنية.. أرض الله واسعة وبلدي الجزائر رحبة تكفي للجميع, فلماذا نمتهن لغة الإقصاء والعفوية في الانتماء, بسبب اعتقاد سياسي أو تخمين عنصري أو تحليل فكري وثقافي؟.
سحر بسكرة طرح علي سؤالا:" هل أنت راض على أن تكون نصف جزائري؟.
فأجبته: بالطبع, أرفض الانخراط في لعبة الغثيان..
كان سؤالاً في قمة الأهمية, و يجب أن يُطرح على كلّ من تعاشره الأسئلة المصيرية, وتداهمه التساؤلات اليومية, فلوقت ليس بقصير..كنت أقول:" هل يمكنني أن أكون مواطنا جزائريا دون التعرف على خصال وميزات شعبي؟ وهل احتكار الوطن في شخص واحد يمكن مساعدة الوطن في التفوق على نكساته ونزاعاته؟.
إن الإيمان بالعمل الجماعي وممارسة العشق في حق الوطن جماعياً, يجعل منا نلمس أنامل المجد والخلود والتزكية الرسمية من بركات الله.
إن افتقاد الإنسان للسفر, يجعل منه إنساناً ركيكا من حيث فهمه لنواميس الإنسانية, وقريبا من بيئة الوحوش والانفصاليين من حيث لا يدري.
رحلتي إلى بسكرة العظيمة بقلم: بوشن فريد
تاريخ النشر : 2016-03-29