ركوة حرف (2). . .قراءة في ديوان برد دافىء بقلم:طلعت قديح
تاريخ النشر : 2015-11-30
ركوة حرف (2). . .قراءة في ديوان برد دافىء بقلم:طلعت قديح


يوميات امرأة عاديّة

أكتب في الربع الأخر مني
في المساحة التي لم يبن الامتلاء به صرحًا
أجلس طفلةً على بقايا بيت مهدم
في برزخٍ أرضي بين اللجوء والحنين
كبرت فجأة ...
ولم استطع التعامل مع الرشد بلباقة
***
أكتب في الربع الأخر مني
هناك حيث الثورة والجموح والنصر
لا يلزمك كماشة لخلع أظافرك ..
أستقبل عيدًا مع كل خفقة
أرتب حزني على الرفوف
أنفض الغبار من الذاكرة
أسرق لفافة تبغ في عمر السادسة عشرة
وأمضي سريعًا بعيدًا
عن أطفالي وأبي ...
***
أكتب في الربع الأخر مني
حيث قرأت كتبًا عن الشيوعية
وأعجبت بلنين سرًاِ ..
بعدها اختطفت الهمسات الخائفة على عقلي الأسفار . .
على عقلي الأسفار ..
***
في الربع الأخر مني
قابلت ملحدة تقنعني بترك الله
كانت تحمل هم الكون على عاتقها . .
ضاقت بها الأرض عندما ضاق تفسيرها
وتبريرها لوجود القوة العظمى إلا في يد الإله
قضيتُ وقتًا طويلاً في محرابه
أشرقت النور على عتمة جوارحي . .
فأرسلت قوات مكافحة الإرهاب
رُسلها لمحو تعاليمي ! !
بقي معي يقين في الجيب السري للأمل ..
***
في الربع الأخير مني أكتب
قارّة فقدان
رغم محاولتي تعلم السباحة عكس التيار
عكس التيّار
ما أول موجة أغرق
هل لأنني ثُكلت وتيتمت في الشتات والوطن
كيف يمكنني في هذا الربع
قسمةُ نبضة على وطنيين
نازح ومقيم
أو على من فوق الأرض وتحتها ! ! !
أرجوك لا تطّلع على هذا الربع مني
***
في الربع الأخير مني أكتب
غير ذلك أنا امرأة عادية ..
لها حبيب وأربعة أطفال
تطهو الأطعمة الشعبيّة والغربيّة ..
تحصدُ قمحها بيدها وهي تستمع لموسيقى
الإخوة جبران أو ليوهان شتراوس
حين يغرف في كمنجته رشفة ماء
من نهر الدّانوب
متمّماً استقلالية الحبّ عن سُنبله ..
تقرأْ في عيون الأرض
تراتيل محمود درويش
و تصحو على نداء
حبيبتي أو ماما
هذا حبلي السُّريّ الذي لم ينقطع مع الحياة..
.........................................
يوميات امرأة عادية ( وفاء ابريوش)
قراءة / طلعت قديح

(يقع الديوان في 226 صفحة ، دار فضاءات للنشر والتوزيع 2013 ـ تصميم الغلاف خالد ابريوش)
وقد عنونت الكاتبة كتابها بـ ( نصوص) ،(برد دافىء ) ، تاركة لنا المجال للتخيل عن التضاد في العنوان كأنه تهجين أو مصطلح جديد ، وما يميز الديوان هو اللغة السهلة الغير معقدة ، سلاسة المعنى وسهولة المفردات ، إلا أن الكاتبة لديها خلطة سحرية في بناء هندسة النص بشكل مدهش ، فهناك من النصوص ما تعجب كيف تتمكن الكاتبة من الحفاظ الخلطة السحرية في نصوصها دون أن تستخدم محسنات بديعية صعبة على القارىء ، كما تنتقل الكاتبة للإسهاب في عالمها عبر جزء من الكتاب أسمته ( زخات عاطفة) ، وهي بذلك تمنح أفقًا جميلاً للتنوير لكثير من المفاهيم . . .كتاب يستحق القراءة )

** (أكتب في الربع الأخر مني ) **
معلوم أن الكتابة هي تصريح للنفس عما قد لا يستطيع الإنسان عن الإفصاح عنه ،
سواء أكان للغير من أناس عاديين أو مقربين ، حيث تختلف الحالة من إنسان لآخر ،
ويبدو أن الكتابة هنا هي الملاذ للنفس .
وتختار الكاتبة موضع الكتابة في الربع الأخير من كينونتها،ويأتي حرف الجر ( في) للإيحاء بالعمق في ظرف الكتابة . . .
لكننا نتساءل / ما هو الربع الأخير !
أهو ربع العمر الأخير بسنواته ، أم هو الربع الأخير من الاحتمال النفسي الذي كان مناسبًا للكتابة ، بحالة التراكم عبر الأرباع التي هُدرت ، وحانت لحظة الاعتراف . . .
ويأتي تعبير الربع الأخير مني ، متأثرًا بالتراث الإسلامي ( الثلث الأخير من الليل ) إلا أن الكاتبة أرادت تقسيمًا يناسبها !
** (في المساحة التي لم يبن الامتلاء به صرحًا) **
وتختار الكاتبة تخصيص موضع انتقائي للكتابة في مكان يحتل من الربع الأخير حيزًا،
كي تفض بكارة أسرارها ، وتوضح بعض مكنون ما تعانيه من حالة نفسية ، ونفهم ذلك من مفردة ( الامتلاء) ، والذي حتمًا هو امتلاءٌ حياتي ، لكننا نود معرفة سر اختيار مفردة ( صرحًا ) ؟
والصرح في اللغة هو البيت المشيد بعلو أو القصر العالي . . .
وببعض التأني نلاحظ أن مفردة ( صرحًا) خلت من أل التعريف ، مما يعني اختلاف حال المعنى هنا ، ويبدو أنها أرادت المسمى فقط لا التفسير اللغوي له !
** (أجلس طفلةً على بقايا بيت مهدم) **
تبدأ الكاتبة شيئًا فشيئا في تبيان مفردة ( صرحًا) ، بالاستدلال لحالة ما . .
وتأتي ( أجلس طفلةً) ، وهو حال الحاضر لطفلةٍ ما زالت صغيرة في العمر الزمني ،
لكنني أحسب أن مفردة ( طفلة) ، هي تعبير يدخل لكينونة الكاتبة ، فقد تدل على نقاء السريرة الفطرية ، لا العمر الزمني ، وسط العالم الملوث لمن يعيش فيه .
(بقايا بيت مهدم) وهنا تسوق الكاتبة لنا حالة صرحها بانكسارٍ نفسي عميق ، بكومة من بقايا العمر المنتكس !
** ( في برزخٍ أرضي بين اللجوء والحنين) **
وتستمر الحالة في تبيان حكايتها . . .
لٍتًعمق أكثر في البوح لتعلمنا حالاً أفضى مشابهًا بالاتكاء إلى منطقةٍ بين اللجوء للكتابة والحنين لذكرياتٍ ما ،
لكننا نستوضح هنا عن اختيار مفردة ( أرضي) ؟ هل هناك برزخ غير أرضي !
كان يكفي أن تكون العبارة ( في برزخ بين اللجوء والحنين) أو ( في برزخ اللجوء والحنين) إذ أن مفردة ( برزخ) تعني الحجز بين شيئين وكان يمكن عدم الاستعانة بظرف المكان ( بين) .
والعبارة مكتملة دون الاستعانة بمفردة ( أرضي) !
** (كبرت فجأة ...) **
يبدو أن حالةً ما ، نقلت الكاتبة من طور الطفولة النفسية لطور الكبر ! صدمةٌ أو لطمة قدر ؟
** (ولم استطع التعامل مع الرشد بلباقة ) **
نتيجةٌ حتمية لما تعانيه الحالة الداخلية من صراع النقاء والتلوث , ,
وهنا حالة حنين للطفولة التي لا يُحاسب عليها المرء ، فالرشد يحتاج لذكاء في التصرف ،
وهذا ما تفتقده الحالة الداخلية ، نتيجة الارتقاء المقاجىء بين مرحلتين . . مرحلة تيه واضحة المعالم . . .
( أكتب في الربع الأخر مني )
** (هناك حيث الثورة والجموح والنصر) **
وهنا تتهيأ حالة الانتقال إلى مفردات التحول لمرحلة الرشد ،
ثورة في التفكير وجموحٌ في الأسلوب والتعامل والاستقلالية والنصر حيث اهتراء مرحلة الطفولة وبروز مرحلة الرشد.
** (لا يلزمك كماشة لخلع أظافرك) **
تراث معلوماتي عن استعمال أسلوب تعذيب تتبعه غرف القمع والتنكيل ،
إيضاح لمدى الشناعة التي تمر بها مرحلة الانتقال وكأنها إزهاق لروح الطفولة ، صورة موجعة تتسم بالعنف المرموز له بـ ( كماشة) ، والاستعانة بفعله (خلع) ،
أما المستهدف والضحية ( أظافرك) .
** (أستقبل عيدًا مع كل خفقة) **
ما تعني مفردة ( عيدا) وسط زحام الألم والمعاناة ؟
أحسب أنها مقرونة بمفردات التحول السابقة ( الثورة والجموح والنصر) ،
هذا هو العيد !
ومآله خفقة في القلب ، تضخ من خلاله عيدها .
** (أرتب حزني على الرفوف) **
نعلم أن الترتيب والتأنق يكون لشيء يعتز فيه الإنسان في مكنونه ، فلم تم اختيار مفردة (حزني) ،
هل لحزنها درجات بين الشدة وأقله . وعلى ماذا تدل مفردة الرفوف !
وأي حال هذا الذي يستوطن الحزن كل هذه المساحة من العمر ؟؟؟
** (أنفض الغبار من الذاكرة) **
هل أتت مفردة (أنفض ) ، حالة حركة تدل على شدة ، فمن أين جاءت وسط هذا الحزن والمعاناة ؟؟
وكأننا أمام نصر أو حالة استنهاض معنوي ، برغم حجم التراكم الذي صاحب الحالة العامة ،
وقد وفقت الكاتبة في استعمال مفردة ( الغبار) ، كي يُرى شيء من بريق أمل وسط عتمة الأحزان .
** ( أسرق لفافة تبغ في عمر السادسة عشرة) **
والسرقة حالة اختلاس للروح من عمق حزن يلفها ، وما زالت حالة الرشد غير مستقرة متذبذبة ،
حتى وإن كانت في عمر السادسة عشرة ويبدو أن الذاكرة تنخر في هذا العمر المحدد والذي هو طور الأحداث وتتابعها
** (وأمضي سريعًا بعيدًا) **
حالة هروب قصري ومتاهة لعدم الانكشاف لحالة تعاطي لفافة تبغ . . .
هروب نيسان لحال مرهق , , ,
** (عن أطفالي وأبي ...) **
تتضح هنا بعض رموز الحال ، أطفال في عمر السادسة عشرة ووجود أب !
أهو حال ترمل مبكر لامرأة !
وفقدان زوج ّ
وهي مأساوية محضة ، أم هي حال الفتاة الكبرى التي تحمل على كاهلها رعاية أخوة صغار وهي بمثابة أمٍ لهم ،
في عدم وجود أمها !
لكننا نستطلع الحال المؤكد من عنوان النص ( يوميات امرأة عادية)
وبالتالي يأتي الاحتمال الأول أكيدًا . . .أطفال وأم ووالد
ولا زوج . . .
( أكتب في الربع الأخر مني )
** (حيث قرأت كتبًا عن الشيوعية ) **
وهنا تقر الكاتبة ميلها للثقافة التحررية الفكرية ، والتي جاءت عبر معاناتها،
وكأن الشيوعية موضة التحرر من كل القيود الأرضية ، من القهر والظلم والتسلط ،
حتى التحرر من الانكسار الداخلي والخنوع ، دون أي اعتبار حتى لإله يتحكم في مجريات حياتنا !
** (وأعجبت بلنين سرًاِ ..) **
هي نتيجةٌ حتمية لمت يتعلق بالفكر الشيوعي فهو من أقطاب الشيوعية ، لكن لِم كان الإعجاب سرًا !
مع أن القراءة لأية كتب خاصةً إن كانت فكرية لا تكون خفية !
فهل كان يسمح بالقراءة علانية ، واعتناق المذهب سرًا أم هو اعتناق التعلق بِقشه !
** (بعدها اختطفت الهمسات الخائفة على عقلي الأسفار . .) **
الحالة النفسية للكاتبة سريعة اللمحات ، ومفرداتها وقتية لا استقرار فيها ، فمن أكتب ـ أجلي ـ أستقبل ـ أرتب ـ أنفض ـأسرق ـ أمضي . . . الخ . تتابع في الحركات والأوضاع ،
وهذا إرهاق حياتي في موجة التقلبات النفسية وكأنها تسابق الزمن .
بعد هذا التوجه للشيوعية تتخطف تلك الهمسات المرتجفة ،
والملاحظ أن ضحية تلك المواجهات القائمة من أول النص هو العقل ، فمن ذاكرة متخمة بالوجع إلى عدم القدرة على التعامل في سن الرشد إلى غيره ، ونريد الاستيضاح أكثر عن مفردة ( الأسفار) ،
هل قصدت بها ما نعرفه عن السفر ( الرحلة ) ، أم هي كناية عن التوجهات الفكرية داخلها ورمزت لها بـــ ( الأسفار ) ، وهي ألواحٌ توراتية ، ومن هنا تكون التبعية الواضحة للظروف وإن كانت غير ما تعتنقه !
(في الربع الأخير مني )
** (قابلت ملحدة تقنعني بترك الله ) **
وهنا المقابلة لا تتم إلا بموعد مسبق ، ولا يكون اللقاء مع ملحدة إلا من خلا ل حراكٍ ثقافي ما ،
ولا يأتي بدء الإقناع إلا بعد ألفة وأخذ ورد ولقاءات ، فهل هي صديقة أم عابرة سبيل ؟
ثم لا مفاجأة من طلبها بطريقة الإقناع ، حيث أن منظري الفكر الشيوعي الملحد ، يناقشون الماديات ،
و يبنون أطروحاتهم على المحسوس الملموس ، فلا تواجد لإيمان داخله .
(بترك الله ) ، عبارة غريبة ! وكأن الله هو من يحتاجنا أو انه ضائعٌ وهو من يهتدي بنا ،
سبحانه عما يصفون .
** (كانت تحمل هم الكون على عاتقها . .) **
تلك هي النظريات التي يقوم عليها الفكر الشيوعي ، يقوم على إنقاذ الطبقة الكادحة العاملة ،
وإشراك الكل لإسعاد الكل ، لكنها نظريات ما لبثت أن اندثرت لأنها تعزز الاستبداد أكثر فأكثر . .
** (ضاقت بها الأرض عندما ضاق تفسيرها) **
يبدو أن تلك المنظرة الملحدة لم تكن بتلك القوة الفكرية حتى توغل في أطروحاتها ،
وهذه الفئة تكون لها القدر على الفهم والتعمق دون الشرح أو الخروج عن النص المحفوظ ، تمامًا كالكاتب الذي يتقن إيصال ما يريد عبر الكتابة ، لكنه لا يتقن إيصال المعلومة مباشرة بالشرح بطريقة جيدة !
** ( وتبريرها لوجود القوة العظمى إلا في يد الإله ) **
وكما قلنا أن هذا هو ديدن المذهب الشيوعي (كيف نؤمن بما لا نراه )
مع أن الأصل في وجود إله ، هو الاعتقاد الداخلي والغريزة الإنسانية التي تستوعب أن الاله لا يمكن أن يكون في متناول اليد ماديًا ، وإلا لانتفت إرادة الكون بأكمله !
** (قضيتُ وقتًا طويلاً في محرابه )
جملة ٌ معلقة !
وكأنها فاصلٌ لا يرتبط بما قبله ولا أعلم لم !
لو كانت تلك الجملة كالتالي ( إلا في يد الاله الذي قضيت وقتًا طويلا في محرابه ) ،
كان يمكن أن تكون الجملة مترابطة ومؤكدة على تراث الكاتبة الروحي ، والذي نستقيه من مفردة ( محرابه ) ،
فهي مختصة بمكان العبادة والصلاة لدى المسلمين .
ثم ما معنى ( قضيت وقتًا طويلاً ) هل كان المحراب مجرد رحلةٍ استطلاعية أو مكانًا لانقشاع المعاناة النفسية فقط !
ولم يكن نهجًا تعبديًا في العلاقة بين العبد وربه !
( في محرابه ) دليل على أن الكاتبة هي من سعت لله للخروج من حالتها المستعصية ،
التي تخنق رئة التنفس للروح في حياتها ، هي المحتاجة لا الله سبحانه . . .

** (أشرقت النور على عتمة جوارحي . .) **
نتيجة على اثر توجهها لمحراب الله تعالى ، فلا بد أن يشرق النور في الدين والدنيا في جوارح كل إنسان يؤمن بالله اعتقادًا ومداومة ،
ولا يكون ذلك إلا بالانغماس الشعوري للجوارح ، في هذه الحالة الإيمانية ، لكنني هنا أتوقف عند لمحة . . .
لِم يتجه الأكثرون إلى الله حينما يدلهم الخطب وتشتد المحن ،
لِم لا يكون ذلك دونما شيء يدفعنا لذلك ، ونلمح ذلك في ( عتمة جوارحي) . ..
إن جميع الأعمال التي نمارسها إنما تكون لابتغاء أجر أو لابتعاد عن النار وسخط الله ،
متى تكون عبادتنا لله دون انتظار ثوابٍ منه !
** (فأرسلت قوات مكافحة الإرهاب) **
مقطع مفاجىء!
من المفترض أن تتناسق مقاطع المشهد الواحد مع بعضها ، بترابط المعنى والهندسية النصية ، لكننا هنا نلاحظ شطحًا لمقطع وكأنه صعقة كهربائية أو انتفاض قلب !
ما هي قوات مكافحة الإرهاب ! وما هو الإرهاب الذي تعنيه الكاتبة ؟؟
هل كان الإرهاب نفسه هو الذي تدندن به المحافل الدولية لوصم الإسلام به ،
وإن كان كذلك فهل تبنت الكاتبة هذه النظرة لدين الله ، لِم لم تكن قوات مكافحة الإيمان أو التوبة !
** ( رُسلها لمحو تعاليمي !!) **
هي المضايقات والأهوال النفسية التي تعانيها الكاتبة في جوٍ من الكآبة ، لكنه موارب نوعًا ما . . .
لكننا نعلم أن مفردة ( رسلها ) تأتي للتبليغ لا للفعل ، إلا إذا كانت رسل إجبار وتنفيذ !
وهنا تأتي ( محو تعاليمها) ، فما علامة التعجب إلا إنكارًا لمحاولة المحو لأن التعاليم الراسخة في العقل والقلب لا مكان لمحوها .
** ( بقي معي يقين في الجيب السري للأمل ..) **
أراه وصفًا صوفيًا حداثيًا ، فهنا علاقةُ خفية مع وميضٍ في داخلنا ،
إنه الإيمان بأن الدنيا مهما كان فيها من الملمات إلا أنها دومًا تحمل بعض الومضات الرقيقة التي تفرز حلقات من الفرجة ، وهنا يبدو أن الكاتبة لا تفقد الأمل بل وتخبئه بعيدًا عن المتلصصين لا تحترق أكثر !

** (في الربع الأخير مني أكتب) **

مع اختلاف النسق هنا ،إلا أن المعنى متلاصق ، لكني أحسب أن النسق هنا بتأخير مفردة ( أكتب) ، هو نزف تحدٍ وإصرار، لكنه لا يخلو من الألم ، فالألم هو بضاعة هذا النص بشموليته ، ويتضح ذلك من ( قارّة فقدان ) . . .
لست أدري كيف يمكن لروح أن تصمد وتحتمل هذا النزف المستمر !

** ( رغم محاولتي تعلم السباحة عكس التيار ) **
من البديهي أن يجاري المرء الحياة ، ويعمل على التأقلم لها ،وفي متاهاتها ،
محاولاً المواءمة والمواربة بين مبادئه وبين ما تمارسه الحياة فينا ، وهذا أمرٌ اعتيادي يفعله الكثيرون ،لكن الكاتبة هنا لها رأي آخر ، تريد أن تترك بصمة خاصة بها !
وترفع راية تعبر عن عدم خنوعها للتيار المنافق المتملق للحياة بكل تناقضاتها !
** (ما أول موجة أغرق ) **
رغم ما تكنه في شخصيتها من معانٍ وتصر على التشبث بعنادها ،
إلا أن الكاتبة تغرقة في هذه الحياة ، ألكونها امرأة !
والنساء في مجتمعنا العربي هن الطرف الأضعف في كل شيء ، وهذا ما نلمسه عبر ثقافة مجتمعنا السائدة والمطبقة واقعًا وسلوكًا .
** (هل لأنني ثُكلت وتيتمت في الشتات والوطن) **
وهنا تُخرج الكاتبة بعض مكنونها ، لتكشف لنا الصراع الخفي الدائر في داخلها ،
وتدخل وطنها فيه ، وتبرز قضية جوهرية أفرزها الاحتلال الصهيوني لبلادنا ، وهو النازح والمقيم ، والمقارنة بينهما ، ومحددات التفاضل بينهما ! أو حتى بين الموتى والأحياء !
وهذا المقطع مثار ألمٍ عميق ، للكاتبة فتُبين أن التركيز للقضية يكون للداخل ،
مع أن الوطن ليس ترابًا فقط ، غذ كيف يُنحى الخارج بمليونية أعداده لصالح الداخل الذي يملك الحدث الرئيسي في الصراع ! مفارقة معقدة !
في هذا المقطع تختزل الكاتبة شعورًا وطنيًا عميقًا مؤلمًا وتركت لنا دلائل الألم في (قسمة نبضٍ على وطنيين ) (نازح ومقيم)

** ( أرجوك لا تطّلع على هذا الربع مني) **

كثيرٌ من الألم لم يرق للكاتبة ، أن تفرج عنه من صندوق أسرارها ، بتفاصيله ،
بل تركت لنا هذا الأمر للاطلاع عليه كما نراه في الإعلام والواقع .
(في الربع الأخير مني أكتب)
** (غير ذلك أنا امرأة عادية ..) **
وتأتي خاتمة البداية للنص يمقطٍع تحاول فيه الشاعرة أن تلملم شعثها وشتات أفكارها ،
بعد أن رشقتنا بكوماتٍ من وجع !
لا تلبث أن تمنحنا وجًا آخر للكأس المر ، فبرغم الأوجاع إلا أن هنا شيئًا اخف وطأة مما سبقه ، وتسرد لنا بعضًا منها ، لتؤكد لنا أنها تمارس حياتها كامرأة عادية !
** (لها حبيب وأربعة أطفال ) **
من هو هذا الحبيب وسط الركام ، أهو حقيقي أم معنوي داخلها ، نفسها ؟ قلبها؟ عقلها؟
الذي ما زال يؤنس وحدتها ، أم هو إقرار بأنه مادي ملموس !
وتتابع الكاتبة سرد بعض تفاصيلها حياتها العادية ، كـ ( تطهو الأطعمة الشعبية والغربية) ( تحصد قمحها بيدها وهي تستمع لموسيقى الإخوة جبران أو ليوهان شتراوس حين يغرف كمنجته رشفة ماء من نهر الدانوب)
تأتي مفردة ( قمحها) لتأتي بشيء خاص بها لا نعلمه !
وتبرز الثقافة الفنية للكاتبة بإلمامها بأسماء لامعة ، قد لا يعرفهم الشخص العادي أو على أقل تقدير سماع دون التفات لهم . . .الإخوة جبران أو الملحن شتراوس ،
مبينة الإبداع في موسيقات بــ ( يغرف كمنجته رشفة ماء ) . . .ويأتي اختيار نهر الدانوب موفقًا فمعروفٌ أنه يمر عبر 10 دول أوربية ، ويصب في البحر الأسود ، وكأنه يغرف من نهر تتعدد ثقافاته ، فهل كان اختيار الدانوب عفويًا أم هي التركيبة الجيدة . . . .

** ( متممًا استقلالية الحب في سنبله) **
وما تلبث الكاتبة أن يتدفق بعض إحساسها الجميل في هذا المقطع ،
فمعلومٌ أن أفضل طريقة لتخزين القمح أن يترك في سنبله ، حيث يقول الله تعالى على لسان يوسف عليه السلام ( ذروه في سنبله ) ، لكنها هنا أرادت أن ينسلخ الحب عن مكمنه ، فك ارتباط !
** (تقرأ في عيون الأرض تراتيل محمود درويش )
تعاود الكاتبة اعتزازها بأرضها ، وكأن الرجوع لحضن الأرض هو الملاذ الأخير الذي لا انفكاك منه ، ولديها تراثٌ أدبي عالمي لا يقل عن شتراوس ،
إنه الدرويش الذي تجول أشعاره الأرض . . .
** ( وتصحو على نداء حبيبتي أو ماما هذا حبلي السري الذي لم ينقطع مع الحياة ) **
تعود غريزة الأمومة لحال الكاتبة ، وهل أجمل من الصحو على صوت يأتيها من أطفالها !
نهاية النص ، تتويجٌ للحالة الإنسانية التي لا تغادر الكاتبة برغم ما كابدته من قبل ،
وننظر إلى التصوير الجميل للعلاقة بينها وبين أطفالها ، والحبل السري هو المغذي للروح التي تنبض داخل الأحشاء ، فإن انقطع ماتت الروح .
وحمدًا لله أنه ما زال هناك حياة وبه تحيى الكاتبة . . .
تلك الكاتبة التي هي امرأة عادية .

قراءة / طلعت قديح