عمار جمهور
"عراف الماء" فيلم استرالي بنكهة تركية
يروي فيلم "عراف الماء" قصة مزارع استرالي يقرر السفر الى اسطنبول، للبحث عن ابنائه الثلاثة الذين فقدوا في الحرب التي دارت بين الإنجليز وحلفائهم "الاستراليين، النيوزلنديين" ضد الاتراك خلال الحرب العالمية الاولى للسيطرة على اسطنبول، حيث تكبدوا هزيمة قاسية في معركة غاليبولي الشهيرة التي وقعت في مضيق الدردنيل. وقتل منهم اكثر من ٨٠٠ آلاف جندي. وما زالت ذكرى هذه المعركة ماثلة في اذهانهم، حيث يعتبر تاريخ هذا اليوم يوما وطنيا في استراليا ونيوزلندا يعرف بـ "Anzac day" في ذكرى ضحايا الحرب الذي يصادف 25 نيسان من كل عام.
يأتي حفار المياه "كرونو"، الذي يقوم بدوره الممثل النيوزلندي الاصل "رسل كرو" صاحب الموهبة الغريبة والنوعية، والمتمثلة بقدرته على تحديد أماكن تواجد المياه في الصحراء الاسترالية واكتشافها. ويبدأ رحلته البحثية بمعاناة إنسانية تمحورت حول شغف الانسان لمعرفة مصائر من افتقدهم من أاعزاء عليه، حيث يصادف تواجده في فندق فقدت صاحبته زوجها في الحرب ذاتها، لتبدأ جمالية الفيلم وحبكته بالتغلغل شيئا فشيئا في نسج علاقة جمالية عاطفية ما بين الزائر الباحث عن ابنائه وما بين صاحبة الفندق المكلومة جراء افتقادها لزوجها في ذات الحرب، حيث يعانيان من الالم ذاته.
يحاول "كرونو" الحصول على موافقة من السفارة البريطانية للوصول الى مكان المعركة، ولكنها ترفض اعطاءه تصريحا بذلك ما يدفعه ليخوض مغامرته بنفسه وعلى مسؤوليته، وبالرغم من عدم السماح له بدخول ارض المعركة الا انه ينجح في ذلك، ويتمكن من الحصول على تعاطف احد الضباط الاتراك لمساعدته في إيجاد جثث أبنائه الاثنين والوصول الى ابنه الثالث. وينجح العمل الفني "الفيلم" في رسم علاقة ذكية من خلال اكتشافه لمكان تواجد ابنه عبر التعرف على الطاحون الذي بني بطريقة استرالية في ارض تركية، حيث احترف الاب والابناء صناعتها في بلدهم استراليا.
بالرغم من انه يجد صعوبة في تفهم الاتراك ولغتهم ولا سيما الزوجة التركية "عائشة" التي تحاول الحفاظ على ابنها، الا انه ينبهر بجمالها ويعجب بطريقتها في التعبير عن رغبتها به، من خلال طريقة تقديمها للقهوة، كما انه بجمال "اسطنبول"، حيث يوثق الفيلم مشاهد أصيلة في بنية العمل السينمائي تمتزج فيها الصورة بالكلمة، حيث تجول الكاميرا داخل المسجد في الوقت الذي يتساءل فيه الصبي ابن مالكة الفندق عن وجود هكذا فن في وطنه، ليجيب نافيا ذلك بدهشة ارتسمت على ملامح وجهه.
الفيلم الذي يصنف كفيلم دراما حربي، لا يرسم مشهدية لوقائع الحرب، بقدر ما يسلط الضوء على قضايا إنسانية اجتماعية، ترتبط بالتسامح وقبول الآخر ومحاولة تجاوز مرحلة تاريخية وانتقالية في تاريخ تركيا، تلك المرحلة التي تمكن فيها الاتراك من بناء دولتهم العلمانية على انقاض الامبراطورية التي تهاوت ركائزها في الحرب العالمية الاولى.
يظهر العمل السينمائي عراقة مدينة تاريخية تعتبر مركزا لالتقاء الحضارات واندماجها، ومثالا يحتذى به لتلاحم الحضارة الغربية بالاسلامية. من خلال اظهار روعة فنها المعماري وأصالتها وعمقها التاريخي، على عكس المكان الذي جاء منه استراليا الذي يتصف ببيئته الصحراية، وحداثة نشأتها وافتقادها للعمق الحضاري والتاريخي، فهي قائمة على ما يقدمه السكان الاصليون من موروث ثقافي وفلكلوري ومشغولات يدوية، وأساطير مرتبطة ببيئتها وطبيعتها.
يعيد العمل الفني التركيز على نهج وفلسفة استعلائية مرتبطة بالامبراطورية البريطانية، حيث كانت تستخدم الاستراليين والنيوزلنديين في مقدمة حروبها، بالرغم من ذلك ما زال الاستراليون يعتبرون انفسهم جزءا اصيلا برابطة الكومونولث البريطانية.
ويطرح الفيلم تساؤلات جوهرية في الفيلم ترتبط بشرعية ومبرر وجود الاستراليين في تركيا، وكذلك وجود الأتراك في اسطنبول، ومحاولة اليونان المستميتة استردادها بعد مئات السنين، يحاول الفيلم الذي يثير الفيلم جدلا أقل مقارنة مع ما أثاره البطل النيوزلندي روسل في فيلمه نوح، الذي أثار غضبا دينيا في الشرق والعرب، كونه اتهم بانه لم يراع الروايات الدينية السماوي، لكنه يعتبر التجربة الاولى لرسل كرو في الإخراج ونجح في نقاش قضايا لها علاقة بشرعية ومبرر وجود الانسان او الشعب او الدولة او الأسرة في مكان آخر غير مكانها الاصلي والشرعي.
ويظهر افتقاد الاستراليين لمضمون الثقافة العربية من خلال جزئية بسيطة اظهر خلالها البطل "كرونو" استغرابه من الاذان وهدفه، معتقدا انه ينادي للترويج لسلعة معين، قبل ان يكتشف بانه نداء للصلاة، كما ان جمالية الفيلم تكمن في قدرته على مزج العناصر الثقافية المختلفة في مشهديات متقاربة، خاصة تلك المتمثّلة في الربط ما بين الطاحونة وحركتها الدائرية والرقص الصوفي التركي الفلكلوري، في رمزية معبرة عن اليات تكوين الطاقة في مكانين وعالمين مختلفين.
"عراف الماء" فيلم استرالي بنكهة تركية بقلم:عمار جمهور
تاريخ النشر : 2015-08-11
