كشجرة باسقة بقلم: محمود حسونة
تاريخ النشر : 2015-08-10
كشجرة باسقة بقلم: محمود حسونة


قالوا: إنّ العقل بيت الحكمة أو بيت الضمير، العقل هو الحكم الذي يحتكم إليه الأفراد والجماعات، وهو وسيلة التطور والرقي، وربما التخلف والانحطاط، العقل منبع ومردَّ كل شيء في حياتنا، أداة التطوّر أو آلة التخلّف، ومن الأدعية المأثورة (اللهم ثبت علينا العقل والدين يا رب العالمين وارحمنا من شر الفتن ما ظهر منها وما بطن)
إذا تقوقعت على نفسك يستحيل أن تعرف نفسك !! بمعنى أنك إذا لم تتعرف على محيطك وعالمك فلن تتعرف على نفسك، وستبقى جاهلا بأخص الأشياء لك !! يقول الفيلسوف تشارلز تايلور في كتابه (مصادر الذات في صناعة الهوية الحديثة): (إنّ ما نغفل عنه دومًا هو هذا: أن نكون أنا ما، هو أمر لا ينفصل عن كوننا نوجد في فضاء من المسائل الأخلاقية، هي لها علاقة بالهوية وبالطريقة التي يجب أن نعمل بها. هو أن نكون قادرين على أن نعيّن موقعنا داخل هذا الفضاء، أن نكون قادرين على السكن فيه، أن نكون أفقًا فيه) بمعنى تعيين موضع النفس على نحو يمكّنها من كتابة هويتها التي تؤسس عليها كل حياتها العينية، و تجنّيد الزوج المجرد الباطني والخارجي: (الأنا) و ( النحن )في مسيرة التاريخ و الثقافة المتنوعة ،بإبراز الباطن الذي نعتبره أنفسنا إبرازا مكانيا واضحا في تشكيلة الفضاء الخارجي الذي يجب أن نعتبره (نحن) وليس (هُم )بملخص عدم الانعزالية و الانغلاق .
فالقبائل البدائية ما زالت تعيش عالما متخلفا خاصا بها، وما إن تصطدم بما حولها حتى تذوب وتندثر، أو يزيد تحصينها لحماية تخلفها الذي تعتبره أصالة، فتقاوم أي نوع من التغيير نحو الاندماج الراقي فهو يمس صميم معتقدها الذي بنته على مدار أجيال، فلا تستغرب عندما ترى طقوسا نحكم عليها بالجهل، أو آلهة ألهوها وقدسوها ودافعوا عنها بأثمن ما يملكون !! تحدث المأساة عندما لا تعود الشعوب ترى أبعد مما ترى، وتتحصن بدواخلها ظنا منها أنها تحمي كينونتها وهي على العكس لا تفكِّر إلا من أوهامها، وتسرع إلى نهايتها أو فستبقى أسيرة تخلفها وأفكارها الضحلة.
نعود إلى العقل الخاص فهو أساس الفكر الجمعي فبه تُسن القوانين وتحترم القيم التي تضبط الغرائز، وتنظم حياة الأفراد والمجتمعات، وينتج الأدب والفنون التي ترتقي بالنفس البشرية نحو الآفاق السمحة، ويتم النهي عن المهالك والمهاوي والبدع والفتن، العاقلون الحكماء فقط يرشدونا كلما اختلط علينا الأمر لنميز بين التهور والشجاعة وبين السفاهة والحكمة وبين العمى والبصيرة.
إنّ الشعوب التي وصلت مرحلة الحكمة و التعقل و المنطق الرشيد أوصلت نفسها لمرحلة الطمأنينة، فقد بنت عبر تاريخها وتجاربها القاسية، مؤسسات الديمقراطية بمفهومها الواسع؛ لتقضي على نزعة التسلط و العنف ونزعة التفوق العرقي ، وشهوة الاستبداد وشبق الخنوع ، فتحت أبوابها لكل مجتهد مهما كان ؛لترقى به ومعه إلى مراتب الآدمية الإنسانية لتنام هانئة فلا تخاف نعرة أو فتنة أو سحرة مشعوذين ، كل فرد أخذ دوره، تكلم وعبّر عن رأيه ،له نواب يناضلون لحقوقه و يدافعون عنه ويُلزمونه القوانين ، ويُلزمهم الأمانة و الإخلاص ، النخب هم من يقودون الشعوب و يضبطون الميول الزائغة ، وينظمون أعمال البِر والخير والمشاركة ، ويسخَّرون طاقات الأجيال ويطلقونها بعضها في إثر بعض.
إنّ الحديث عن حقوق البشر، يستدعي الحديث عن الآدميين في عالم متحضِّر، شعوب هيمنت وتفوقت في ظل مؤسسات تحمي الفرد وتمهد له ليحقق أحلامه، بعيدا عن العنف والتسلط، تبني بالعلم والأدب والقيم مؤسسات تحرس بأمانة ميثاق شعوبها وإنجازاتها.
والسؤال الكبير: مَن هم الآدميون؟ هل هم أنفسهم الذين قضوا على الوجود الإنساني وغرسوا التوحش في نفوس الفتية؟! وأقاموا مهرجانات القتل والتهجير والنخاسة، والتفقير، وتشريد الضعفاء، ومهَّدوا الطريق الدامي نحو التلاشي؟ مَن أوصلنا إلى هذا الانهاك ؟؟ يتحاربون على مساحات مدمرة بأيديهم، ومدن خاوية، وسفن مكتظّة بنساء وأطفال هائمين. مَن هم الآدميون حقاً، وأي فرع من البشر يمثلون، وأي فصل من فصول الحضارة؟ هل هنّ النسوة اللاتي يعرضن كالأثاث القديم بأسعار وأرقام كالبهائم ؟!ّ لا تقل ايزيديات هن آدميات من دم ولحم ومشاعر وأحلام يصرخن وإنساناه!! آدميات يُرغمن على المثول أمام همجية المؤول!! أم هم الفتية والأطفال الذين دربوا على الذبح والجلد وتركوا مدارسهم فارغة والتحقوا بقوافل قطع الطريق والرقاب ؟؟! من يغسل هذا العار التاريخي؟ عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه، ما لم يصب دما حرام) رواه البخاري.
يجب تعريف الأشياء من أجل توضيحها. المسمّيات التي نستخدمها كل يوم، لا بد أن نشرحها للناس: ماذا نعني بالآدمية الإنسانية، وماذا نعني بالآدميين؟؟وماذا نعني بالحقوق؟؟ وماذا نعني بالمؤسسات؟؟ وماذا نعني بالحرية والكرامة والعدالة وقوة القانون؟؟وماذا نعني بالجواري ؟؟ ولماذا نخاطب اليوم الناس بخطاب فئوي طائفي؟؟ هل هذا زمن الفتنة الطائفية الكبرى الحمقاء، لا تقل مؤامرة، المؤامرة هي الجهل والمتآمر هو المنفذ الجاهل، الفتن الصغيرة هي الطريق إلى الحرب الكبرى، لماذا لا نتوقف عن قتل الإنسان من أجل أن نبكي عليه؟؟!
يجب ألا ننسى أن بعض أكثر الشعوب رخاء وقوة، تجانسوا من أجناس متعددة، السباق ليس بالعدد إنه على الصفات؟ والخصال لا يحملها فرد إنها خصال المجموعة التي لا تتراخى أمام الأفكار الطائشة والأنانيات الضيقة والتواطؤ عن شهوة التملك أو ذل الخنوع.
(إن معظم المجرمين هم متبرّعون ومتطوّعون، في داخلهم شبَق مرَضي لإرضاء أسيادهم ومسخّريهم للجريمة)
الناس يتباهون ويتنافسون ويتسابقون، في الصناعة والزراعة والعلم والإنتاج والتأقلم، والوطن الكبير في خدمة المواطن الصغير، ونحن نرمح ونلهث نحو العداوات !!
لعل أشهر اسم في تاريخ العدالة عمر الفاروق، الذي عرف الحزم في موضعه والسماحة في وقتها، وعرف سلفا النتائج الحتمية للظلم؛ فاجتهد في الحق والعدل، الفاروق الذي رفض عرش الملوك، وهزم الفتنة مطعونا ساجدا، الحارس الأول للعدل ضد الظُلم والقهْر والعبودية. ظلّ بلا قصر أو حراس أو أوسمة، ينام في الطرقات تحت الأشجار، لم يكن له سوى رداء واحد لا زالنا نبحث عن مثله. لعلنا نلْقاه يوماً في صحراء الحياة بلا أوسمة ولا نجوم ولا باطنة (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا !!)
بقلم: محمود حسونة (أبو فيصل)