بعد الشتاء الماضي.. أمسكت قلمي من جديد..
بقلم نيروز قرموط
في الشتاء الماضي ، ما بعد الحرب ، كنت قد تأثرت بأجواء تلك الحرب أكثر مما احتمل ، وعانيت طوال العام الذي مضى كثير من آثارها ، سواء. أكان في صحتي أو نفسيتي أو بمدى إقبالي على الحياة ، وقدرتي على التفكير والحركة بهدوء بحيوية انسان طبيعي يستيقظ إلى يومه ، عقدت العزم في أن أخرج من حالتي التي ربما هي نتاج ارهاق متواصل سواء بالكتابة أو التفكير أو متابعة الحدث السياسي وآثاره على مختلف فئات شعبي ، لربما كنت قد ابتعدت عن حيوية الحياة وألوانها دون أن أشعر ، ولربما كان الأكثر ممن يدعون الدين ويتطرفون في اعتقادهم اكثر تمتعا بنعم الحياة مني ، رغم اعتقادي بجمال الحياة وأن لين قلمي إنما هي نابع من ليونة عقلي وروحي وجسدي ، لذا عندما نظرت إلى نفسي المتعبة من كل شيء بعد سنوات من الحصار والقلق من كل ما يجري وسيجري. وبعد أن استشرت طبيبي في أمور عدة ، قال لي لا بد من التغيير والعودة إلى الناس الذين أنت تكتبين من أجلهم ، وفعلا عدت وكانت قد استجدت كثيرا من وسائل التواصل الاجتماعي التي لم استخدمها من أجل هذا الهدف فيما سبق حيث أنني امتلك حسابا على الفيس بوك منذ عام ٢٠٠٨ لكن لم يسبق لي أن أفصحت عن أي معلومات شخصية عن نفسي أو أي صور لي تفصح عني وعن طبيعتي وخلفيتي العائلية والفكرية في ألوان وصور ، ربما كان ذلك بدوافع أمنية وسياسية واجتماعية تتعلق بالوضع المجتمعي الفلسطيني بشكل عام .
وضعت لي برنامجا متكاملا يبدأ بحوار الأهل بشكل أكثر اتساعا عن كل مخاوفي التي شعرتها لأعوام سبقت ما قبل الحرب الاخيرة التي فجرت كل المشاعر والأفكار السلبية حول كل شيء.
كنت قد مللت الجهل والروتين وعدم الثقة بكل معطيات الحياة لدينا ، ضقت ذرعا بضيق المسافات ، وضيق المساحات الخضراء والطبيعة التي تأسر العين بعيدا عن واقعها وتفتح آفاق التأمل و تمنحك سكينة الروح التي يحتاجها كل انسان حر لا تحبسه الجدران ، فما بالنا بمجتمع بأكمله هو حبيس جدران فكرية وجغرافية وسياسية .
أصبحت أشعر بتلوث كل شيء ، بفقداننا لأدوات الحياة التي تمكننا من الاقتراب من اي شيء دون الإمعان بتفكير نحن لسنا بحاجة إليه .
حتى لا أتوسع عودة لموضوعي الأساسي ، بعد فقداني قدرتي على النوم ، بدأت بكتابة بوستات فلسفية تحمل مفاهيم بسيطة على صفحتي الفيس بوك ، ورأيت تجاوبا من الأصدقاء على الصفحة ، مما دفعني إلى التفاعل من خلال التعليقات على البوست الذي أنزله على صفحتي ، الجميل أنه بدأ عدد الأصدقاء يزداد شيئا فشيئا أكثر من أعوام متعاقبة نشرت بها روابط مقالاتي المكتوبة على الصفحة دون النقاش حولها. حيث لم أعتاد فتح صفحتي لفترات أطول في حينها .
في ذلك الوقت نسيت الطعام ورائحته وكيفية طهيه واستخدام أدوات الطهي ، نسيت كيف نفتح النوافذ والأبواب المغلقة ، أصبحت أتوتر من أي ضوضاء أو صوت فجائي او تجمع كبير من الناس .
قلت في نفسي كيف سأشعر بنفسي وبما حولي وبقلمي بعد اليوم وأنا على هذا الحال ، أين ذائقتي في كل شيء.
عدت إلى بحري ، أصبحت أمشي مسافات طويلة مع والدي بعد صلاة كل فجر لشهور متواصلة ، أردت أن استخدم لعبة الألوان ، بدأت أصور بكاميرا الايفون الخاصة بي كل شيء يعجبني حتى أنني كنت كالمخرج أصنع الصورة من وحي خيالي في بعض الأوقات من أكواب وصحون وزوايا وأقمشة و ماء وقهوة و مستحضرات للتجميل حتى قطة منزلي ، أصبحت اقترب أكثر من الأشياء بعد ان فقدت القدرة لبعض الوقت على تحديد المسافات بشكل دقيق ، بعد أن فقدت إحساسي بالسخونة والبرودة حتى شككت في كل شيء .
قلت لما لا اقترب اكثر من الناس لما لا يروا من انا، كثر ممن كانوا يقرأون لي ويعتقدونني أكبر سنا أو أنني رجلا لا امرأة ، كنت ابتسم ما بيني وبين نفسي وأقول هذا أفضل لي ، أو منهم من كان يحدد اتجاهي السياسي والاجتماعي فمنهم من كان يبني صورة على أنني يسارية أو ليبرالية او براغماتية او انتمي لتنظيم كفتح او الجبهة الشعبية او الديمقراطية او فدا .
لربما امتلك خلفية لابأس بها سواء عن التنظيمات داخل منظمة التحرير الفلسطينية ، أو خارج إطارها المتمثّلة بالتنظيمات الأيدلوجية الدينية إلى أنني في كل الأوقات كنت أنا الامرأة المستقلة .
الظريف أنني عندما نشرت صورا لي تتحدث عن ملامح وجهي كثر من توقع من خلال هندامي وطبيعتي أنني من خارج فلسطين ، لربما نعم ولدت خارج فلسطين وتربيت لأعوام خارج أراضيها لكنني عشت أعواما وأعواما في فلسطين في غزة.
تغيرت نظرات عيناي ،أصبحتا اكثر ابتساما للحياة من خلال مشاهدة صوري شهرا بعد شهر ، كثر من الأصدقاء من تعجّب من نشري لصوري وتواصلي اكثر مع الناس .
نعم رأيت في حواري ونقاشي اكثر مع الآخرين دواء لي ، واتساعا للروح والعقل ،بعد أن غدونا لا نخرج الا القليل مع الأصدقاء وقلت التفاعلات الاجتماعية الحقيقية بفعل الخوف الاجتماعي وعدم تقبل أحدنا لأفكار وعادات وسلوك الاخر المختلف ،
سعدت بهؤلاء الأصدقاء نساء ورجالا ، كان كثيرا منهم ينهل مني شغفي للحياة بعد أن أخفيت كثيرا من ارهاقي ، وكنت. أعلم أن الأكثرية يعاني ما أعاني لكنه يخفي .
أنشأت لي حسابا على برنامجا اخر ( الانستجرام ) يعني بالصور والفيديو حتى أصبحت أشاهد كل ما يحفزني لحياة أجمل من أكلات شهية، صور فواكه خضار ، رقصات إيمائية ويوغا تثير الهدوء والتأمل ، أخر صيحات الموضة والأزياء ، ديكورات ،آثاث ، رسومات ، لوحات ، طبيعة ، تمارين رياضية ...الخ وأصبحت أرى صورا جميلة للآخرين ، حتى بدأت بالمشاركة لصوري ومن خلال تخزين كل هذه الصور والالوان الجميلة في مخيلتي وعقلي الباطني استعدت شهيتي للطعام ، للحركة، لقيادة السيارة، للرياضة، للسباحة ،للحياة ، لقلمي ثانية بعد أن عاني الويلات من صور الحرب والدم والدمار ، وألف كتابة الالم حتى تألم هو وجف حبره وذاب رصاصه .
كثيرا ما فتحت برنامج اليوتيوب واستمعت للشعر والموسيقا وأصوات الطبيعة ،لزقزقة العصافير ، لصوت قطرات الماء والأمواج ،لصوت محمود درويش جميل هو إلقاؤه للشعر ، لفيروز لصوتها الملائكي ، لترتيل القرآن الكريم ، كنت اعتقد أنني لا أخشى صوت الطيران والقصف ، لكن دون أن أشعر كان قد آذاني أكثر مما أتخيل ، أنا التي اعتقدت أنها لاتخاف شيء.
لم اقترب من كتبي حتى أعدت تنظيفها وترتيبها منذ فترة قربية ، شعرت بسحرها ، لم أكمل قصصا كنت قد بدأت كتابتها قبل الحرب ودار النشر تنتظر مني تسليمها وترجمتها ، انتظرت ان امتلك نفسي التي أحب من جديد .
كرهت كل اجهزة الخليوي والاتصالات و برامج المحادثة الواتس اب والفايبر......الخ ، لا أحتمل رنين هاتف او محادثة فردية ، أغلقت الخليوي الخاص بي ، أحببت التواصل الجماعي .
قال لي طبيبي سافري بعيدا ، وستعودين لطبيعتك على الفور، وبوقت قصير ، هههههههه ، لكنني فتحت كل أبواب التواصل الالكتروني ذلك أني أيقن أنه ما من معبر ولا مطار حقيقي للسفر ، دعني اذا أبحر بمخيلتي ، أبحرت ومشيت وطرت إلى أن أمسكت قلمي من جديد.
بعد الشتاء الماضي .. أمسكت قلمي من جديد بقلم نيروز قرموط
تاريخ النشر : 2015-08-10
