الكاتب: أ. عبد الله محمد العقاد
فلسطين- غزة
(1)
بعد عام طوي على حرب عدوانية كبرى هي الثالثة في ظرف خمس سنوات، دُبِّرت بليلٍ تستهدف رأس المقاومة في قطاع غزة، لتقضي على قلعة المقاومة المنيعة بعدما استعصت على كل محاولات التذويب والترويض؛ مازلنا نعيش ذكريات أيام سطرت المقاومة فيها آيات من صور البطولة والفداء، وجسد شعبنا المثل الأروع في الصمود والتضحية والثبات، في واقعة "العصف المأكول"، واحدة من الملاحم التي يسجلها مرة أخرى شعبنا منفردًا في سجل تاريخه الناصع.
ولربما كانت تلك الحرب هي الأقسى على شعبنا الفلسطيني في كل الوطن، وأماكن لجوئه، وفي قطاع غزة الباسل على وجه الخصوص، ليس لأنها استمرت واحدًا وخمسين يومًا متواصلة لم تفصل بينها سوى بضعة أيام لتهدئة إنسانية وأخرى ميدانية، أو أن آلاف الأطنان من المتفجرات الموجهة بعناية صُبَّت على رؤوس الآمنين؛ فتركت أحياء كاملة في دقائق معدودة أثرًا بعد عين.
فهي كانت أيامًا شديدة على النفوس التي حلمت بالحرية، وعاشت يتراءى في كل يوم أمام ناظريها تطهير مسرانا وإخراج أسرنا الأبطال ظافرين، وهي تخشى أن ينفذ ما أتى به المجرمون من كيد عظيم إلى هذه القلعة المحتضنة لكل تلك الأحلام.
ولكنها مع قسوتها وشدتها بعثت في نفوسنا المجدبة الأمل بالتحرير، وحقنا في تقرير المصير، وتأكيد واجب العودة إلى كل ديارنا (فلسطين)، وقد تواردت صور رحيل المغتصبين من غلاف غزة الذي ينفث لهيبًا حارقة ونارًا لظى.
كيف لا، وخريطة فلسطين تتحدد معالمها كاملة لأول مرة بنيران المقاومة وكتائب عز الدين، وفي مشهد لم يسبق من قبل ينزوي الكيان بجبروته المصطنع تحت قبةٍ فولاذيةٍ ما أغنت عنه من الله شيئًا؟!
(2)
نعم، لقد كانت معركة العصف المأكول بحق واحدة من أعظم المواقع التي أعز الله فيها الصادقين، مع عمق الجراح وغدر الغادرين، ففيها قد أخزى الله كلَّ من انتظر أن تخرج حماس من تحت الأنقاض منبوذة رافعة خرقة بيضاء.
ويوم وضعت الحرب أوزارها قد تلطخ بالعار جبين الصامتين، الذين تواطؤا بصمتهم مع الجلادين المجرمين، يصبرونهم علينا؛ عساها تكون الدائرة.
أجل، لقد أسلمنا يومها القريب والبعيد، وكأنهم أجمعوا أمرهم على عقر رأس مقاومتنا (حماس) في دارها (غزة).
ولكن السؤال الذي يلح دومًا بالجواب: لماذا كانت حماس هي الرأس المستهدف في تلك الحرب اللعينة؟
لعلَّ هذا السؤال هو مفتاح الحقيقة التي يحاول المغرضون عبثًا تغييبها، ولكنها حقيقة تأبى إلا البزوغ شاهدة من بين ضباب موجات الكذب، وما يحاك من أساطير مضلة وافتراءات مُدَّعاة.
غير أنه يجدر بين يدي الجواب الصريح والقول الصحيح أن أعرج مستشهدًا بقصة صادقة سجلها القرآن الكريم للمعتبرين، قصة ناقة عقرها قومٌ أشقياء من غير ذنبٍ منها غير أنها تُشربهم لبنًا سائغًا للشاربين، ولكنها مع هذا العطاء الكريم كانت شاهدة على صدق رسالة رسول أمين (سيدنا صالح، عليه السلام)، وهذا ما ضاق به المجرمون ذرعًا، فهي بذلك تفضح تطاولهم وتكشف كذبهم وإفكهم، لذلك لم يصطبروا على ذلك؛ فعقروها فكانوا من الهالكين.
فهذه القصة مثلٌ بليغ لمن ألقى السمع وهو شهيد، وهي تكشف حال النفوس التي أدمنت الذلة والمهانة والشقاء، ورضيت بالقعود دومًا مع الخالفين.
(3)
أما حماس فما أراد العاقرون عقرها إلا لأنَّها شاهدة بالصدق، بأنَّ لفلسطين أهلين صادقين قد أفشلوا الحركة الصهيونية على مدار عقود من مساعيها الخبيثة لتملك أرض فلسطين بأموال تتدفق إليهم من كل اتجاه، فلم يغن كل دهائهم من أن يظفروا بأكثر من (7%) منها قبل إقامة كيانهم الغاصب عليها.
فكانت حماس عظيمة، وقد أنجبها هذا الشعب العظيم الذي واجه بصموده حصارًا ظالمًا لعينًا، ويدفع متحديًا أثمان إرادته الحرة، فإذا هو يجعل الحصار حصارًا لشرعية مشروع استعماري بغيض، لم تفلح من قبل أرتالٌ سُيِّرت من بلاد العُرب في حصاره في مهده، وقد أفلحت حماس بمواجهته في عنفوانه وعنجهية قهره وقوة نفوذه.
وكانت حماس هي صوت العقل والقوة في مواجهة منطق الضعفاء المتهالكين لاسترضاء الغاصبين عساهم أن يمنوا عليهم بشيء مما سلبوه منهم، وكانت كذلك صوت الحكمة في مواجهة من أعيته عبوديته في خدمة كيان عبري قاتل وضع أوتاد خيمته بالمجارز والتهجير القسري.
(4)
فحماس هي قدر الله وإرادته التي استنبتتها مشيئته النافذة في رحم بيئة توالت عليها الهزائم تترًا، فكانت الحياة التي أخرجها الله من الموت، وكانت العزة التي انفتقت عنها رحم الذلة، وكانت المكانة العلية في مقابل المهانة والدونية.
أيها الأحرار في كل مكان، لا تخشوا على حماس؛ فهي قدر الله الغالب، ووعده الناجز، مهما كثر الماكرون، وكاد لها الكائدون، وعلا السافلون، أو دلف إليها يومًا على حين غرة متزلفون لاهثون.
فحماس وهي تواجه الأعداء الخارجيين نصرها الله نصرًا عزيزًا في مواطن كثيرة، فلن يخيبها الله في صدق مقصدها وهي تتطهر من العالقين المغرضين الذين ارتضوا بحطام من الدنيا زائلٍ.
فلا تعقروا حماس لتغيبوها؛ فهي إرادة الله الكائنة، وقدره الغالب، ووعده الناجز، ومشيئته النافذة.
وآية ذلك أنه كلما مكر بها الماكرون، وكاد لها الكائدون أحبط الله المكر ورد الكيد عنها؛ فلم يزدها كيدهم إلا قوة على قوتها؛ فمع كل مواجهة يتجلى أكثر صدق الإرادة، والقوة في الإعداد، والقدرة على الأداء، لتذهل كل المراقبين.
[email protected]
لا تعقروا "حماس" فـ ..!بقلم: أ. عبد الله محمد العقاد
تاريخ النشر : 2015-08-02
