57 عاما على إغتيال مؤسس حركة الإخوان المسلمين حسن البنا (1906– 1949): رحلة لم تنته لرجل أيقظ أمة بقلم:الدكتور أيمن الهاشمي
تاريخ النشر : 2006-02-11
57 عاما على إغتيال مؤسس حركة الإخوان المسلمين حسن البنا (1906– 1949): رحلة لم تنته لرجل أيقظ أمة

الدكتور أيمن الهاشمي

أستاذ في جامعة بغداد

تمر اليوم الذكرى 57 لإغتيال الشهيد الإمام حسن البنا ففي مساء السبت 12 فبراير (شباط) 1949 وبعد إشتداد الأزمة بين الإخوان والحكومة، وعندما كان الإمام البَنَّا يغادر مقر جمعية الشبان المسلمين بشارع رمسيس بالقاهرة اغتالته رصاصات مجهولة، بعملية ماكرة ومُحْكَمَة لاتقدر عليها غير أجهزة البوليس السري والمخابرات، إذ حيكت الخطة من خلال لجنة أسموها (لجنة الصلح) للصلح بين الإخوان والحكومة، ودعي إليها البنا أكثر من مرة وفي المكان ذاته، وكانت هذه المفاوضات تُعقد في (جمعية الشبان المسلمين) في القاهرة ، و عُقدت جلسة مفاوضات اليوم المذكور، وانصرف الإمام ، وقبل وصوله إلى الباب الرئيسي حيث أعد الكمين من مجموعة من الضباط و الجنود . قبل وصوله إلى الباب سلم على المودعين له وخرج ، وما إن أصبح في الشارع أمام مبنى الجمعية حتى انهالت عليه رصاصات الغدر، وتحامل الإمام على نفسه و طلب سيارة الإسعاف التي نقلته إلى مستشفى القصر العيني، و هناك لم يجد طبيبا ينقذه، و ظل الدم ينزف دون عناية من أحد حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، وسلم الشهيد روحه لبارئها. وطويت أوراق القضية وقيدت في سجلات الشرطة (ضد مجهول!)... وكانت الغضبة من إغتيال البنا والمطالبة بكشف قاتليه، إحدى أبرز أسباب ثورة 23 يوليو 1952.

تيار النهوض والإصلاح الديني والسياسي:

في مطلع القرن العشرين وحيث كان العالم الإسلامي لايزال تحت صدمة تداعي الخلافة العثمانية الإسلامية، وتفككها من الداخل، وكانت مصر ترزح تحت الاحتلال الإنكليزي وعرفت عدداً من الدعوات للتحرر والاستقلال، أو للإصلاح والنهوض بمصر والأمة الإسلامية جمعاء، وكان التيار الإصلاحي الديني -المتمثل بالرواد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا- الأقرب إلى فكر حسن البنا، ولاسيما الأخير الذي عاصره البنا لفترة قصيرة وكانت له معه مراسلات. ومن الملاحظ أن المرجعية الفكرية والفقهية لدعوة الإخوان تتوافق مع ما ذهب إليه محمد رشيد رضا، وتشكل الأساس لفقه حركة الإخوان من حيث الدعوة للوسطية وإحياء الاجتهاد الديني بالعودة إلى القرآن والسنة كوسيلة لنهضة الأمة. وكان البنا قد انخرط في العمل الوطني في وقت مبكر من خلال التظاهر والاحتجاج، وشارك في إنشاء عدد من الجمعيات التي تدعو إلى الفضيلة والأخلاق وتحارب المنكرات إلى أن أسس جمعية الشبان المسلمين عام 1927 وخلص منها إلى تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مدينة الإسماعيلية في مارس/آذار 1928، وأتبعها لاحقاً بقسم "الأخوات المسلمات" (26 أبريل/نيسان 1933). ومازال الإخوان يتتبعون نهجه، ومازالت رسائله المطبوعة بعنوان "رسائل الإمام الشهيد حسن البنا" حجر الزاوية في منهج الإخوان.

فمن هو حسن البنا؟

هو حسن أحمد عبد الرحمن البنا، ولد في المحمودية، من أعمال محافظة البحيرة بدلتا النيل، وذلك يوم الأحد 14 أكتوبر سنة 1906م، وهو ينتسب إلى أسرة ريفية متوسطة الحال من صميم الشعب المصري، كانت تعمل بالزراعة في إحدى قرى الدلتا هي قرية "شمشيرة" [قرب مدينة رشيد الساحلية. ومطلة على النيل في مواجهة بلدة إدفينا، تابعة لمركز فوة بمحافظة البحيرة]. كان جده عبد الرحمن فلاحاً ابن فلاح من صغار الملاّك، وقد نشأ الشيخ أحمد - أصغر أبنائه ووالد حسن البَنّا - نشأةً أبعدته عن العمل بالزراعة؛ تحقيقًا لرغبة والدته، فالتحق بكتاب القرية حيث حفظ القرآن الكريم وتعلّم أحكام التجويد، ثم درس بعد ذلك علوم الشريعة في جامع إبراهيم باشا بالإسكندرية، والتحق أثناء دراسته بأكبر محل لإصلاح الساعات في الإسكندرية حيث أتقن الصنعة، وأصبحت بعد ذلك حرفة له وتجارة، ومن هنا جاءت شهرته بـ "الساعاتي". وقد أهّل الشيخ نفسه ليكون من علماء الحديث، فبَرَع فيه، وله أعمال كثيرة خدم بها السنة النبوية أشهرها كتابه "الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني"، وفي كنفه نشأ "حسن البَنّا" فتطبع بالكثير من طباعه، وتعلم على يديه حرفة "إصلاح الساعات" وتجليد الكتب أيضًا.

َعمِلَ حسن البَنّا بعد تخرجه في دار العلوم سنة 1927 مدرسًا بإحدى المدارس الابتدائية بمدينة الإسماعيلية، وفي السنة التالية 1928 أسس جماعة الإخوان المسلمين، ولكنه قبل أن يؤسسها كان قد انخرط في عدد من الجمعيات والجماعات الدينية مثل "جمعية الأخلاق الأدبية"، و"جمعية منع المحرمات" في المحمودية، و"الطريقة الحصافية" الصوفية في دمنهور، وشارك أيضاً في تأسيس جمعية الشبان المسلمين سنة 1927، وكان أحد أعضائها. أما جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها فقد نمت وتطورت وانتشرت في مختلف فئات المجتمع، حتى أصبحت في أواخر الأربعينيات أقوى قوة اجتماعية سياسية منظمة في مصر، كما أصبح لها فروع في كثير من البلدان العربية والإسلامية. وكان البَنّا يؤكد دومًا على أن جماعته ليست حزبًا سياسيًّا، بل هي فكرة تجمع كل المعاني الإصلاحية، وتسعى إلى العودة للإسلام الصحيح الصافي، واتخاذه منهجًا شاملاً للحياة.

ويقوم منهج حسن البنا الإصلاحي على "التربية"، و"التدرج" في إحداث التغيير المنشود، ويتلخص هذا المنهج في تكوين "الفرد المسلم" و"الأسرة المسلمة"، ثم "المجتمع المسلم"، ثم "الحكومة المسلمة"، فالدولة، فالخلافة الإسلامية، وأخيرًا يكون الوصول إلى "أستاذية العالم".

قاد البَنّا جماعة الإخوان المسلمين على مدى عقدين من الزمان [1928-1949]، وخاض بها العديد من المعارك السياسية مع الأحزاب الأخرى، وخاصة حزب الوفد والحزب السعدي، ولكنه وجّه أغلب نشاط الجماعة إلى ميدان القضية الوطنية المصرية التي احتدمت بعد الحرب العالمية الثانية، ونادى في ذلك الحين بخروج مصر من الكتلة الإسترلينية للضغط على بريطانيا حتى تستجيب للمطالب الوطنية. وفي هذا السياق قام الإخوان بعقد المؤتمرات، وتسيير المظاهرات للمطالبة بحقوق البلاد، كما قاموا بسلسلة من الاغتيالات السياسية للضباط الإنجليز، ولجنود الاحتلال، وخاصة في منطقة قناة السويس.

كان للبَنّا آراء سديدة ونظرات ثاقبة في قضية النهضة التي تشغل المسلمين منذ قرنين من الزمان وما زالوا ينشدونها. فقد ربطها بقضية التحرر من الاستعمار والتبعية لأوربا من ناحية، وبالتقدم العلمي الذي يجب أن يحققه المسلمون من ناحية أخرى، وفي ذلك يقول: "لن تنصلح لنا حال، ولن تنفذ لنا خطة إصلاح في الداخل ما لم نتحرر من قيد التدخل الأجنبي"، ويقول: "لا نهضة للأمة بغير العلم وما ساد الكفار إلا بالعلم"، وكان يرى أن تبعية المسلمين لأوروبا في عاداتها وتقاليدها تحول بينهم وبين استقلالهم ونهضتهم، يقول: "أليس من التناقض العجيب أن نرفع عقائرنا (أصواتنا) بالمطالبة بالخلاص من أوروبا، ونحتج أشد الاحتجاج على أعمالها، ثم نحن من ناحية أخرى نقدس تقاليدها، ونتعود عاداتها، ونفضل بضائعها؟!

حل الجماعة مقدمة لمقتل البنا

في مساء الأربعاء 8 ديسمبر/كانون الأول 1948 أعلن رئيس الوزراء المصري محمود فهمي النقراشي حل جماعة الإخوان المسلمين ومصادرة أموالها واعتقال معظم أعضائها. وفي 12 فبراير/شباط 1949 أطلقت النار على حسن البنا أمام جمعية الشبان المسلمين، فنقل إلى مستشفى القصر العيني حيث فارق الحياة. ويقول الإخوان المسلمون إنه ترك ينزف دون علاج حتى الموت

قدرات خاصة وعقلية متفردة

كان حسن البَنَّا ذا قدرة عظيمة على العمل، فلم يَكُن ينام أكثر من خمس ساعات في اليوم، وكان واسع الاطلاع بصورة نادرة، فقد كان يحفظ العديد من دواوين الشعراء وعلى رأسها "ديوان المتنبي" عن ظهر قلب، بالإضافة إلى القرآن الكريم، ومحفوظاته من الأحاديث النبوية. وكان من أبرع الكُتَّاب، ومن أكثرهم قدرة على تصوير ما بنفسه، ومن أشدهم تأثيرًا في النفوس بالألفاظ الكريمة والمعاني المركَّزة، وبلغ من قوة حافظته أنه كان يعرف عددًا كبيرًا من الناس، ويعرف عنهم كل ما يحيط بهم معرفة تامة، ويعرف مدن القطر وقراه، وكل بلد فيه، ونظم أهلها، وعاداتهم وتقاليدهم، وكل ما يتعلق بكيانهم الروحي والاجتماعي والعقلي. وقد حباه لله بنية قوية كانت سندًا له في دعوته، ومكَّنته من احتمال مشاق الأسفار وأعباء العمل المتواصل ليل نهار. ويجمع الذين كتبوا أو تحدثوا عن "البَنَّا"، مادحين أو قادحين، أنه كان ذا شخصية قويَّة، استطاع أن يمزج شخصيته بالجماعة والدعوة في مختلف أطوارها وأحوالها. وحرص - في خطبه ومقالاته - على أن يتجنب الجدل الديني الذي يثيره عادة أصحاب العقول الضيقة، فقد كان حريصًا على جمع كلمة المسلمين، ولمِّ شملهم، وتوحيد طوائفهم وفرقهم. وكان يفهم الإسلام فهمًا معتدلاً، وكان يرى أن تعاليمه وأحكامه شاملة تنظم شؤون الناس في الدنيا والآخرة، وأن الإسلام عقيدة وعبادة، ودين ودولة، وروحانية ومصحف وسيف.

البنا يشرك الإخوان في حرب فلسطين ويثير غضب الحكومة العميلة

وكان للإخوان المسلمين دور بارز في حرب فلسطين في 1367هـ = 1948م التي كان للخيانة والعمالة أثرهما الحاسم في إلحاق الهزيمة بالعرب في معركة لم يستعدوا لها جيدًا، وعندما أُعْلنت الهدنة واشتعلت المظاهرات، وحدثت معركة عنيفة بين الطلبة والبوليس، ولقي حكمدار العاصمة "سليم زكي" مصرعه نتيجة انفجار قنبلة ألقاها عليه أحد الطلاب، وعلى الرغم من عدم معرفة الطالب الذي ألقى القنبلة وعدم تحديد الجهة المسؤولة عن ذلك، فقد وجهت الحكومة قرار الاتهام بقتل الحكمدار إلى الإخوان المسلمين، وصدر قرار بإغلاق صحيفة الجماعة، وأعقب ذلك صدور قرار بحل الجماعة بكل فروعها. لقد أولى البَنّا اهتمامًا خاصًّا بقضية فلسطين، واعتبرها "قضية العالم الإسلامي بأسره"، وكان يؤكد دومًا على أن "الإنكليز واليهود لن يفهموا إلا لغة واحدة، هي لغة الثورة والقوة والدم"، وأدرك حقيقة التحالف الغربي الصهيوني ضد الأمة الإسلامية، ودعا إلى رفض قرار تقسيم فلسطين الذي صدر عن الأمم المتحدة سنة 1947، ووجه نداءً إلى المسلمين كافة - وإلى الإخوان خاصة - لأداء فريضة الجهاد على أرض فلسطين حتى يمكن الاحتفاظ بها عربية مسلمة، وقال: "إن الإخوان المسلمين سيبذلون أرواحهم وأموالهم في سبيل بقاء كل شبر من فلسطين إسلاميًّا عربيًّا حتى يرث الله الأرض ومن عليها". واتخذت الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين قرارًا في 6 أيار/ مايو سنة 1948 ينص على إعلان الجهاد المقدس ضد اليهودية المعتدية، وأرسل البَنّا كتائب المجاهدين من الإخوان إلى فلسطين في حرب سنة 1948. وكان ذلك من أسباب إقدام الحكومة المصرية آنذاك على حل جماعة الإخوان في ديسمبر سنة 1948؛ الأمر الذي أدى إلى وقوع الصدام بين الإخوان وحكومة النقراشي. وفي يوم 27 من صفر 1368هـ = 28 من ديسمبر 1948 أطلق شاب من الجماعة الرصاص على النقراشي – أثناء دخوله وزارة الداخلية – بعد أن تخفَّى في زي ضابط شرطة، فأرداه قتيلاً، وباغتيال النقراشي بدأت السطور الأخيرة لحياة البَنَّا، وكانت تلك بداية النهاية. بعد إعلان النقراشي حل جماعة الإخوان المسلمين في 9 كانون أول 1948م ومصادرة أموالها واعتقال معظم أعضائها في اليوم التالي.

الدعوات والأفكار لايمكن أن تجتثها القرارات والفرمانات والسجون:

إن قصة الإمام حسن البنا وقصة إصراره وجهاده في سبيل نشر دعوته، وإستشهاده من أجلها، إذ لم يستطع رصاص الإغتيال أن يخمد هذه الدعوة، ولم تستطع فرمانات السلطات بالإجتثاث والتجريم والتكفير من أن تمحو هذه الفكرة.. بل زادتها المحن قوة وصلابة، تماما مثلما تصهر النار الحديد وتقويه... ولكن هل إستطاعت رصاصات الإغتيال أن تغتال أفكار البنا أو تنال من دعوته التي سرعان ماإنتشرت وتوسعت لتشمل مصر والعالم العربي والإسلامي. نعم استشهد "حسن البَنَّا"، ولكن أفكاره ومبادئه، ما زالت حية، تنبض بها القلوب وتتوهج بها الأرواح والعقول. ومازالت أفكار حسن البنا توقد شعلة الحماسة والهمة في الصحوة الاسلامية المنطلقة بثقة في مختلف أرجاء العالم.. فمن فوز كاسح للأخوان في الإنتخابات المصرية النيابية الأخيرة بشكل أذهل المراقبين، إلى إكتساح زلزالي وصف بأنه (تسونامي فلسطيني آخر) حين إكتسحت حركة حماس (الوريث الشرعي لحركة الإخوان في فلسطين) الإنتخابات الفلسطينية الأخيرة، ولايمكن أن نتجاهل أن أفكار حركة البنا مازالت مصدر إلهام العديد من القوى والحركات الإسلامية ومنها قوى إسلامية عراقية تسلقت بثقة وإقتدار في مسيرة الإنتخابات العراقية الأخيرة متمثلة بالحزب الإسلامي الوريث العراقي لحركة الإخوان المسلمين التي أنشأها الإمام الشهيد حسن البنا عام 1929. إن حسن البنا لم يمت، فهو شهيد،ودعوته لم تمت ولن تموت- بإذن الله- حتى يرث الله هذه الأرض ومن عليها..