حروف الزيادة في القرآن بين المجيزين والمانعين (لا أُنموذجاً ) بقلم: د. سامي عطا حسن
تاريخ النشر : 2015-05-15
حروف الزيادة في القرآن
بين المجيزين والمانعين
(لا أُنموذجاً )
د. سامي عطا حسن
حروف الزيادة : هي التي يعبر عنها النُّحاة بحروف الصِّلة ، وهي بالمعنى الاصطلاحي النحوي: أحد أقسام الكلمة في مقابلة الأسماء والأفعال ، إذ أنهم قسموا الكلمة إلى: اسم ، وفعل ، وحرف . وليس المراد بها الحروف التي يبحث فيها علماء الصَّرف في باب المُجَرد والمَزيد ،والتي جمعوها في كلمة : ( سألتمونيها ) .
فحروف الزيادة هي : التي تكلم فيها علماء النحو ، والبلاغة ، والتفسير ، مثل : ( إذ ، إذا ، إلى ، أم ، إن ، أن ، الباء ، الفاء ، الكاف ، اللام ، لا ، ما ، من ، الواو ) .
قال بعض العلماء : إنها زائدة ، وقال آخرون : إنها أصلية ، وليست زائدة . وسأقتصر في هذا البحث على مناقشة زيادة ( الحرف: لا ) ، من خلال ذكرِ آراءِ كلٍّ من فريقِ المجيزين لزيادته ، وفريق المانعين من وقوع زيادته في القرآن الكريم ، وبيان الراجح منها .

مقدمة
الحمد لله وكفى ، وسلام على عباده الذين اصطفى ، ثم أما بعد :
أثار التعبير بلفظ الزائد جدلا كبيراً بين العلماء من نحاة ، وبيانيين ، ومفسرين ، وخصوصا فيما زعموا وُرودَه من ذلك في القرآن الكريم ، المحفوظ بحفظ الله عز وجل ، ومع أن أهل اللغة كلهم متفقون على أنه لا يجوز إلغاء حرف من كتاب الله تعالى ، ولا يجوز حذف حرف منه ، وجميعهم متفقون – وهو الحق – أن ليس في كتاب الله العزيز ما لا معنى له ، وهو يجل عن ذلك ، ولكنهم حين يتعرضون للنصوص القرآنية في كتب التفسير واللغة والنحو ، يسمون بعض الحروف زائدة على حد قول البصريين ، أو صلة وحشواً كما يقول الكوفيون.( )
ومن الأحرف التي قيل بزيادتها : ( لا ) ، وقد أكد البحث من خلال تتبعه لهذا الحرف الذي قيل بزيادته في القرآن الكريم ، أن إيراده يمثل وجهاً من وجوه الإعجاز اللغوي والبياني للقرآن الكريم .
فلا يوجد في القرآن الكريم بأسره حرف واحد زائد أو صلة ، أي مجرد حلية لفظية ، إذ أن كل حرف من أحرفه وُضِعَ وَضعاً مُحكَماً دقيقاً له مغزاه ، وله دلالة خاصة مقصودة من المجيء به .فالقرآن غاية لا تدرك في الإحكام والإتقان ، ليس فيه حرف زائد على الإطلاق .
يقول فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراز:
( فليس فيه – أي القرآن - كلمة إلا هي مفتاح لفائدة جليلة ، وليس فيه حرف إلا جاء لمعنى ، دع عنك قول الذي يقول في بعض الكلمات القرآنية إنها مُقحَمَة ، وفي بعض حروفه إنها زائدة زيادة معنوية ، ودع عنك قول الذي يستخف كلمة ( التأكيد ) ، فيرمي بها في كل موطن يظن فيها الزيادة ، لا يبالي أن تكون تلك الزيادة فيها معنى المزيد عليه فتصلح لتأكيده ، أو لا تكون ، ولا يبالي أن يكون بالموضع حاجة إلى هذا التأكيد أو لا حاجة له به . أجل دع عنك هذا وذاك ، فإن الحكم في القرآن بهذا الضرب من الزيادة أو شبهها ، إنما هو ضرب من الجهل – مستوراً أو مكشوفاً - ، بدقة الميزان الذي وُضِعَ عليه أسلوب القرآن .)( )
ومع أن القائلين بالزيادة – وأكثرهم من علماء النحو - ، يرون أن القرآن نزل بلغة العرب ، والعرب يفعلون ذلك في لغتهم ، ويذكرون للحرف الزائد معنى مفيداً ،كالتقوية والتأكيد ، ولا قائل منهم بأن القرآن الكريم فيه حرف جيء به لغير فائدة ، والمانعون من القول بالزيادة يقولون : إن التوكيد والتقوية فائدة لا يتم المعنى بدونها ، إذن فليست زائدة . ولا يصح القول بذلك .
وبعد :
فهذا بحث عن زيادة ( لا ) المزعومة ، ذكرتُ نماذج لها في بعض الآيات ، مبينا رأي كلٍّ من فريق المجيزين للزيادة ، والمنكرين المانعين من وقوع الزيادة في القرآن الكريم .
المبحث الأول
معنى الحرف والزيادة في اللغة والاصطلاح
المطلب الأول : معنى الحرف في اللغة والاصطلاح :
1 - الحرف في اللغة :
قال ابن قتيبة : (أبو محمد عبيد الله بن مسلم (تـ 276هـ)) : ( والحرف يقع على المثال المقطوع من حروف المعجم، وعلى الكلمة الواحدة، ويقع الحرف على الكلمة بأسرها، والخطبة كلها، والقصيدة بكمالها. ألا ترى أنهم يقولون: قال الشاعر كذا في كلمته، يعنون في قصيدته. والله عز وجل يقول :( يَحْلِفُونَ باللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ...(74)( التوبة: ٧٤) وقال :(..وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26))( الفتح: ٢٦)
وقال ابن فارس : (أبو الحسين أحمد بن فارس ( تـ395هـ) : ( الحاء والراء والفاء : ثلاثة أصول ، حدّ الشيء ، والعدول ، وتقدير الشيء . فأما الحدُّ : فحرف كل شيء حده ،كالسيف وغيره . والأصل الثاني : الانحراف عن الشيء ، يقال : انحرف عنه ينحرف انحرافاً ، وحرفته أنا عنه ، أي : عدلت به عنه . قال تعالى : ( ..... يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)) (سورة المائدة : 13).
والأصل الثالث: المِحراف ، حديدة يقدر بها الجراحات عند العلاج .. ومن هذا الباب : فلان يَحرِفُ لعياله ، أي : يَكسِب . )( )
وقال الزمخشري ، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر: (تـ 538هـ):( وهو يَحرِفُ لعياله ، يكسب من هنا وههنا ، أي : من كل حرف )( ) . وكلمة (حرف) تعني -في أصل وضعها اللغوي- نحو : الطرف ، والجانب ، والحدّ ، وتستعمل بعدة اعتبارات، أحدها هنا: الحرف المعهود ، لأنه طرف في الكلام . ( )
وقال ابن منظور : ( أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم (تـ711هـ)) : ( الحرف من حروف الهجاء معروف، وأحد حروف التهجي، والأداة التي تسمى الرابطة، لأنها تربط الاسم بالاسم ، والفعل بالفعل، كعن وعلى ونحوهما. والحرف في الأصل: الطرف ، والجانب، وبه سمي الحرف من حروف الهجاء. وحرفا الرأس: شِقَّاه. وحرفُ السفينة والجبل ، جانبهما. والجمع أحرف ، وحروف ، وحرفة. وقال الأزهري: وكل كلمة تُقرأ على الوجوه من القرآن تسمى حرفاً ). ( ) وقد ذكر المرادي: (حسن بن قاسم (تـ749هـ)) أن العلة في تسمية القسم الثالث من أقسام الكلمة حرفاً ، إما لأنه طرف في الكلام وفضلة ..ويعني بذلك أنه طرف في المعنى ، لأنه لا يكون عمدة وإن كان متوسطا. وإما لأنه على وجه واحد . والحرف في اللغة هو الوجه الواحد. ( )
2 - والحرف في الاصطلاح :
عرفه النحاة بتعريفات كثيرة ، أقدمها ماذكره سيبويه بقوله : ( الكلم : اسم ، وفعل ،وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل . ) ( ) أو كما قال ابن مالك( جمال الدين محمد بن عبد الله الطائي الأندلسي (تـ 672هـ) في ألفيته :
كلامنا لفظٌ مفيدٌ كاستقم .............. واسمٌ وفعلٌ ثم حَرفٌ الكلم . ( )
ثم اشتهر بين النحويين بعد ذلك أن الحرف : ( ما دل على معنى في غيره )( )
المطلب الثاني - : معنى الزيادة في اللغة والاصطلاح ..
الزيادة لغة : قال الجوهري : (اسماعيل بن حماد (تـ 393هـ):الزيادة تأتي بمعنى ( النمو تقول : زاد الشيء يزيد زيداً وزيادة ، أي : ازداد ، وزاده الله خيرا ، وزاد فيما عنده ) ( ).
وقال ابن منظور : الزيادة : النمو ، وكذلك الزُّوادة ، والزيادة بخلاف النقصان) ( )
أما معنى الزيادة في الاصطلاح :
تجنب كثيرٌ من النحاة والمفسرين إطلاق كلمة ( الزيادة ) على بعض ما ورد في القرآن تأدباً ، ولئلا يظن البعض وجود شيء يمكن الاستغناء عنه ، ولا معنى له في القرآن الكريم .
وقال الراغب الأصفهاني ، أبو القاسم الحسين بن محمد( تـ 502هـ ) : [[ الزيادة : أن ينضم إلى ما عليه الشيء في نفسه شيء آخر ، يقال : زدته فازداد . قال تعالى : ( ...... وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ) (يوسف : 65) ]] ( )
وعرفها ابن يعيش : ( أبو البقاء يعيش موفق الدين بن علي بن يعيش ( تـ643هـ)) : بقوله : الزائد هو : ( الذي يكون دخوله كخروجه من غير إِحداثِ معنى ..) وقال : إن تعبيري ( الصلة( ) والحشو من عبارات الكوفيين، والزيادة والإلغاء من عبارات البصريين )( )
وقال السيوطي: (أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ( تـ911هـ)) : وعلى المفسر ( أن يجتنب إطلاق لفظ الزائد في كتاب الله تعالى ، فإن الزائد قد يُفهم منه أنه لا معنى له ، وكتاب الله منزه عن ذلك ، ولهذا فرَّ بعضهم إلى التعبير بدله بالتأكيد والصلة ، والمُقحَم . ) ( ).
المبحث الثاني
القول بالزيادة بين المثبتين والمانعين .
قال ابن جني : ( أبو الفتح عثمان بن جني ( تـ392هـ )) : ( وزيادة الحروف كثيرة ، وإن كانت على غير قياس ، كما أن حذف المضاف أوسع وأفشى وأعم وأوفى ... ثم قال : وأما زيادتها فلإرادة التوكيد بها. )( )
وذكر الزركشي : ( بدر الدين محمد بن عبد الله ( تـ 749هـ )أنه ( قد اختلف في وقوع الزائد في القرآن ، فمنهم من أنكره ، قال الطرطوسي( القاضي نجم الدين إبراهيم تـ 758هـ) في ( العمدة ) : زعم المبرد( أبو العباس ، محمد بن يزيد تـ285هـ) وثعلب ( أبو العباس أحمد بن يحيى الكوفي تـ 291هـ) أن لا صلة في القرآن ، والدَّهماءُ من العلماء ، والفقهاء ، والمفسرين على إثبات الصلات في القرآن ، وقد وجد ذلك على وجه لا يسعنا إنكاره ، وقال ابن الخباز ( شمس الدين أحمد بن الحسين تـ639هـ) في (التوجيه ) ، وعند ابن السراج ( محمد بن إبراهيم الغرناطي تـ 674هـ في كتابه : الأصول في النحو ) أنه ليس في كلام العرب زائد ، لأنه تَكَلُّم بغير فائدة ، وما جاء منه حمله على التوكيد .) ( )
وعليه فقد اختلف العلماء في وقوع الزائد على مذهبين ، منهم من أنكره ، ومنهم من أثبته ..
ومن العلماء القائلين بالزيادة :
1- سيبويه : ( أبو بشر عمر بن عثمان بن قنبر ( تـ 180هـ) : فقد اهتم سيبويه بقضية زيادة الحروف ، وأثبتها في القرآن الكريم بمفهومه ، ومما أشار إليه من حروف المعاني الزائدة بعض حروف الجر مثل : ( الباء ، من ، اللام ) بيد أنه لم يستخدم مصطلح الزيادة ، وإنما يقول : توكيد لغو، واللغو عنده ليس لغو المعنى،وإنما هو لغو الإعراب والصنعة الإعرابية) ( )
2- الفراء : (أبو زكريا يحيى بن زياد (تـ 207هـ) : وشاع عنده مصطاح الصلة ( )، وهذا هو المسلك الغالب عند الكوفيين .
3- ابن جني( أبو الفتح عثمان بن جني ( تـ392هـ ): قال عند كلامه عن الزيادة :
( ومعنى قولي : زيدت : أنها إنما جيئ بها توكيداً للكلام ..) ( )
4- الزمخشري : ( أبو القاسم محمود بن عمر ( تـ538هـ) : وهو من القائلين بزيادة بعض الحروف في القرآن الكريم ، فقال عند تفسيره لقوله تعالى : (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) (الأعراف : 62) يقال : نصحته ، ونصحت له ، وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة ، وأنها وقعت خالصة للمنصوح له ......ولا نصيحة أمحض من نصيحة الله تعالى ورسله – عليهم السلام - .) ( )
5- المالقي :أحمد بن عبد النور ( تـ 702هـ) : وهو من القائلين بزيادة بعض الحروف ، وقال : ( فالزائد الذي أعني هو الذي يستقيم الكلام مع عدمه ..) ( )
6- أبو حيان الأندلسي : ( أثير الدين محمد بن يوسف بن علي بن يوسف ( تـ745هـ) : قال عند تفسيره لقوله تعالى:(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) (مريم: 25 ) والباء في (بِجِذْعِ) زائدة للتأكيد . ( )
7- ابن هشام : ( أبو محمد عبد الله جمال الدين ابن هشام الأنصاري(تـ761هـ) : قال بزيادة بعض الحروف ، ومن كلامه عن الزيادة قوله : ( والقول بزيادة الحرف أولى من القول بزيادة الاسم.) ( )
ومن العلماء القائلين بعدم الزيادة : قال نفر من العلماء القدامى والمحدثين بأصالة الحروف التي قيل بأنها زائدة ، ومن أبرز هؤلاء :
1- الطبري : ( أبو جعفر محمد بن جرير ( تـ 310 هـ)) قال : ( فأما أهل العربية ، فإنهم اختلفوا في معنى ( ما ) التي في قوله : (فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ)( البقرة:88 ) . فقال بعضهم : هي زائدة لا معنى لها، وإنـما تأويـل الكلام: فقلـيلاً يؤمنون، كما قال جل ذكره: ( وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ) ( فَبِـمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ) هي زائدة لا معنى لها ، وإنما تأويل الكلام : فقليلا يؤمنون . كما قال جل ذكره : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) (آل عمران : 159)وما أشبه ذلك.
فزعم أن «ما» فـي ذلك زائدة، وأن معنى الكلام: فبرحمة من الله لنت لهم ..........
ثم قال : وأنكر آخرون ما قاله قائل هذا القول فـي (ما) فـي الآية....... إلى أن يقول : وهذا القول عندنا أولـى بـالصواب لأن زيادة (ما) لا تفـيد من الكلام معنى فـي الكلام غير جائز إضافته إلـى الله جل ثناؤه.) ( )
2- ابن مضاء القرطبي ( أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن اللخمي القرطبي(تـ592هـ): وهو من الرافضين لوجود زيادة الحروف في القرآن ، قال : ( ومن بنى الزيادة في القرآن بلفظ أو معنى على ظن باطل قد تبين بطلانه ، فقد قال في القرآن بغير علم ، وتوجه إليه الوعيد . ومما يدل على أنه حرام ، الإجماع على أنه لا يُزاد في القرآن لفظ غير المجمع على إثباته ، وزيادة المعنى كزيادة اللفظ ، بل هي أحرى ، لأن المعاني هي المقصودة ، والألفاظ دلالات عليها) ( )
3- الرازي : ( فخر الدين محمد بن الحسين الرازي ( تـ 604هـ ) : قال : ( وليس لقائل أن يقول : ( الكاف ) في قوله : (..لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: 11) . حرف زائد لا فائدة فيه ، لأن حمل كلام الله على اللغو والعبث وعدم الفائدة بعيد . )( )
وقال في موضع آخر : ( المسألة السادسة : قال بعضهم : الباء في قوله : (.. وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ...... (6))( المائدة : 6 ) زائدة ، والتقدير : وامسحوا رؤوسكم . قال الشافعي – رضي الله عنه - : إنها تفيد التبعيض ، وحجة الشافعي – رضي الله عنه – وجوه ، الأول : أن هذه الباء إما أن تكون لغواً أو كلاماً مفيداً ، والأول باطل ، لأن الحكم بأن كلام رب العالمين وأحكم الحاكمين لغو ، في غاية البعد ، وذلك لأن المقصود من الكلام إظهار الفائدة ، فحمله على اللغو خلاف الأصل ، فثبت أنه يفيد فائدة زائدة . ) ( )
4- ابن الأثير : (أبو الفتح ضياء الدين نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم المعروف بابن الأثير الموصلي (تـ 637هـ)) : وهو من العلماء الذين نفوا الزيادة في القرآن الكريم ، فقال : ( ورد في قوله تعالى في سورة القصص : (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19))(القصص: 18-19) . فقوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ) بتكرير ( أن ) مرتين ، دليل على أن موسى – عليه السلام – لم تكن مسارعته إلى قتل الثاني كما كانت مسارعته إلى قتل الأول ، بل كان عنده إبطاء في بسط يده إليه ، فعبر القرآن عن ذلك في قوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ ..) .
وجرت بيني وبين رجل من النحويين مفاوضة في هذه الآية ، فقال :إن (أن) الأولى زائدة ،
ولو حذفت فقال : فلما أراد أن يبطش لكان المعنى سواء ، ألا ترى إلى قوله تعالى: ( فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) ) (يوسف: 96) . وقد اتفق النحاة على أن ( أن ) الواردة بعد ( لما ) وقبل الفعل زائدة ، فقلت له : النحاةُ لا فُتيا لهم في مواقع البلاغة والفصاحة ، ولا عندهم معرفة بأسرارهما ، من حيث إنهم نحاة ، ولا شك أنهم وجدوا أن (أن ) ترد بعد لما وقبل الفعل في القرآن الكريم ، وفي كلام فصحاء العرب ، فظنوا أن المعنى بوجودهما كالمعنى إذا أسقطت ، فقالوا : هذه زائدة ، وليس الأمر كذلك ، بل إذا وردت (لما) ، وورد الفعل بعدها بإسقاط (أن) دل ذلك على الفور ، وإذا لم تسقط ، لم يدلنا ذلك على أن الفعل كان على الفور ، وإنما كان فيه تراخٍ وإبطاء .
وبيان ذلك من وجهين :
أحدهما : إني أقول : فائدة وضع الألفاظ أن تكون أدلة على المعاني ، فإذا أوردت لفظة من الألفاظ في كلام مشهود له بالفصاحة والبلاغة ، فَالأَولَى أن تحمل تلك اللفظة على معنى ، فإن لم يوجد لها معنى بعد التنقيب والتنقير والبحث الطويل ، قيل : هذه زائدة ، دخولها في الكلام كخروجها منه ، ولما نظرت أنا في هذه الآية ، وجدت لفظة ( أن ) الواردة بعد ( لما) وقبل الفعل دالة على معنى ، وإذا كانت دالةً على معنى ، فكيف يسوغ أن يُقال : إنها زائدة..؟
فإن قيل : إنها إذا كانت دالة على معنى ، فيجوز أن تكون دالة على غير ما أشرت أنت إليه .
قلت في الجواب: إذا ثبت أنها دالة على معنى ، فالذي أشرت إليه معنى مناسب واقع موقعه ، وإذا كان مناسباً واقعاً موقعه ، فقد حصل المراد منه ، ودل الدليل على أنها ليست زائدة .
الوجه الآخر : أن هذه اللفظة لو كانت زائدة ، لكان ذلك قدحاً في كلام الله تعالى ، وذاك أنه يكون قد نظق بزيادة في كلامه لا حاجة إليها ، والمعنى يتم بدونها ، وحينئذ لا يكون كلامه معجزاً ، إذ من شرط الإعجاز عدم التطويل الذي لا حاجة إليه ، وإن التطويل عيب في الكلام،فكيف يكون ما هو عيب في الكلام من باب الإعجاز ..؟ هذا محال .
وأما قوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ ..) فإنه إذا نظر في قصة يوسف - عليه السلام - ، مع إخوته منذ ألقوه في الجب ، وإلى أن جاء البشير إلى أبيه – عليه السلام - ، وجد أنه كان ثَمَّ إبطاء بعيد ، وقد اختلف المفسرون في طول تلك المدة ، ولو لم يكن ثَمَّ مدة بعيدة ، وأمد متطاول ، لما جيئ بأن بعد لما وقبل الفعل ، بل كانت تكون الآية : فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه .وهذه دقائق ورموز لا تُؤخَذ من النُّحاة ، لأنها ليست من شأنهم)( )
5- الدكتور طالب محمد إسماعيل الزوبعي : وله في ذلك كتاب تحت عنوان :
( الحروف الزائدة في ضوء الدراسات القرآنية ) قال في خاتمته : ( إن ما يدعيه بعض النحويين والمفسرين من زيادة بعض الحروف في القرآن الكريم ، أمر مجانب لمعاني العربية الواضحة ، وسننها اللاحبة . وعند تحليلنا للنصوص القرآنية الكريمة التي وردت فيها هذه الحروف ، معتمدين في ذلك على كتب التفسير المختلفة ، فقد ثبت أن لهذه الحروف دلالات أخرى ، دلالات توضيحية ، ودلالات بلاغية تقوية للمعنى ، فضلا عن المعنى العام لأكثر هذه الحروف وهو التوكيد ، وعلى هذا الأساس ، فهذه الحروف أبعد ما تكون عن الزيادة مهما كان القصد من التسمية .
إن الأسلوب القرآني هو الأسلوب العربي السليم ، وكان هَمّ النحاة أن يضعوا القواعد والأحكام التي تسعى إلى تضييق نطاق الأساليب العربية السليمة ، فعندما وجد هؤلاء أن أساليب القرآن الكريم لا تخضع لقواعدهم ، ادعوا زيادتها ، والواقع أن من سمات القواعد والأحكام النحوية أنها محدودة ، في حين أن التصرف في فنون القول وأساليبه غير محدود .
إن القاعدة النحوية واللغوية تقاس على ما جاء في القرآن من ضروب القول وأفانينه ، وليس كما فعل أغلب النحويين واللغويين بإجرائهم أو بقياسهم النص القرآني على قواعدهم ..)( )
6- الاستاذ الدكتور فضل حسن عباس : وله في ذلك كتاب تحت عنوان : ( لطائف المنان وروائع البيان في دعوى الزيادة في القرآن ) ( ) قال في خاتمته : ( وبعد: فأرجو أن أكون بعد هذا التطواف مع ما ادعاه الحاقدون ، وسماه بعض النحويين واللغويين زائداً وحشواً – جل الكتاب عن ذلك - ، وبعد أن عرضنا بالتفصيل لهذه القضايا ، أرجو بعد هذا التطواف في رياض القرآن النضرة ، أن تكون الفكرة التي أردناها من هذا الكتاب قد اتضحت..)( ).
ولكن يبدو أن الفكرة لم تتضح في ذهن الدكتور : محمد جمعة حسن نبعة ( )، فشن حملة شعواء على فضيلة الأستاذ الدكتور فضل حسن عباس في بحث له تحت عنوان ( معاني حروف الزيادة عند النحاة – دراسة نحوية دلالية ) ( ) قال فيه :
( أود أن أورد مثالاً على هؤلاء النافين للزيادة، مقالة الدكتور فضل حسن عباس في كتابه لطائف المنان، لنرى التَّمَحُل الذي ذكرنا برهاناً على هذا الأسلوب.. ؟؟ قال الدكتور فضل: وبعد لأي وَحثّ، ونأيٍ في بحث، وإِجالة في نظر، وتقليبٍ في فكر.......
هذه هي طريقة الدكتور فضل في البحث العلمي، إننا نرى التلاعب بالألفاظ تقديماً وتأخيراً، وبعد ذلك الهروب من إثبات الزيادة ، بحجة عدم الوقوف عند ظاهرة ما قرره أصحاب القواعد النحوية. ..إلى أن يقول : ولننظر إلى أسلوبه في مناقشة المسألة، أرأيت إلى روعة البيان وبيان الروعة ؟ ولعلك أيها القارئ بدأت تدرك سر هذا الحرف، أو حرفية هذا السر!! أهي صنعة التلاعب بالألفاظ ؟ أم أنها أمانة البحث العلمي ؟ التي يجب الوقوف عندها، والبحث في تأويل النص بما يتلاءم مع مرامي كلام الله. فإَما أن نُثبت الزيادة أو أن ننفيها، وذلك عن طريق علمي لا علاقة للعواطف والمشاعر وتنوع الأساليب فيه.)
وكان قبل ذلك قد أصدر حُكما متسرعاً وغير صائب فقال :
( وإن كل مَنْ يدعي أنه لا زيادة في القرآن بالمعنى الذي ذكرت ، إنما يذهب إلى إنزال القرآن منزلةً أقل من مستوى كلام العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، وتحداهم وقهرهم وأعجزهم عن أن يأتوا بمثلـه، فكل زيادة وردت في الكتاب العزيز كان لها معنى ومدلول وسر بلاغي ، لم يفقهه إلا من تملك ناصية اللغة العربية، وأتقنها شعراً ، ونثراً ، وبلاغة.
وهؤلاء هم أجلاء أهل العلم والفقه، من لدن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وحتى يومنا هذا، وإلى قيام الساعة.
ومن رد الزيادة بهذه المعاني التي ذكرت بعضها، وبدعوى أنها إساءة إلى كتاب الله تعالى، فقد قام بِلَيِّ أعناق النصوص والآيات، وتجشَّم الصعاب متكلفاً ما لا طائل وراءه ، وليس يشينُ
كتاب الله إذا نهج على منوال كلام العرب، وسلك مسلكهم في الخطاب، أن تكون فيه هذه الزيادة الرائعة الحبيبة إلى النفس ، المتأولة تأويلاً سليماً.هذا من جهة الإعراب واللغة والمعنى .
أما من جهة العقيدة وما يتعلق بها، فالضرورة قائمة لتأويل هذه الحروف بأنها زائدة لتوكيد النفي، مثل قولـه تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فإن لم تكن الكاف في ( كمثله) زائدة لتوكيد( ليس ) التي تفيد النفي، فإن المعنى سيختل، وقد ذهب إلى هذا التأويل جمهور أهل العربية، وأجلاء علماء العقيدة والبلاغة والأصول، وكلهم أثبت زيادة الكاف لتوكيد النفي في هذه الآية...؟! ولندع بعض المعاصرين يتمحلون التأويل البعيد، ليثبت عدم وجود هذه الزيادة في القرآن الكريم ، ظاناً أنه يدافع عن كتاب الله العزيز، وذلك من غير ما حُجّةٍ واضحة ، أو دليل مقنع، بل هو هروبٌ من المعنى الواضح الجليّ، إلى المعنى الغامض الذي لا يُظهر قوة ولا إعجازاً، لهذا الكتاب المبارك.)
ونقول :
لقد نِِمتَ يا دكتور( محمد جمعة ) وأدلجَ الناس ، فقد بحث عدد من العلماء هذا الموضوع ، وذهبوا إلى غير ما ذهبت إليه ، منهم : الدكتورة :هدى السِّداوي فلها بَحثٌ تحت عنوان : ( الكاف معناها واستعمالاتها في اللغة العربية والقرآن الكريم) خلصت فيه إلى النتائج التالية :
1- إن الكاف اسم ، وليست حرفاً ، من كونها بمعنى مثل ، ومن قبولها لعلامات الاسم المختلفة ، من دخول الخافض عليها ، والاضافة ، والاسناد إليها ، ووقوعها خبراً، ومفعولا به ، والمفعول لا يكون إلا اسماً ، وعَود الضمير عليها ، وضَرَبَت لذلك الأمثلة ( )..ونص أكثر النحويين على أن الأسماء لا تأتي زائدة . ( )
2- لا تكون الكاف زائدة ألبتة ، فالقول بالزيادة غير صحيح ، ولا يتلاءم مع مكانة اللغة العربية ، ومع جلال القرآن المُنَزَّه عن كل عيب أو نقص . ( ) . وبمثل ذلك قال فضيلة الاستاذ الدكتور محمد يسري زعير: ( ولهذا رأينا الكاف لا تكون إلا اسماً ، لأنها لا تكون إلا بمعنى (مثل ) ، حتى تلك التي يزعمون أنها للتعليل ، لا تخلو من الدلالة على المُشابهة ..) ( )
وقال في بحث آخر : ( والحق أن الكاف اسم لأنها بمعنى ( مثل ) ، والفرق بينهما في معنى التشبيه ، أن الكاف للتشبيه المقيد ، و( مثل ) للتشبيه المطلق ، كما أشار إلى ذلك أستاذنا الدكتور دراز . وعليه يكون إعراب الآية : أن الكاف في محل نصب خبر (ليس ) وهي مضاف ، و( مثل ) مضاف إليه ، و( مثل ) مضاف ، وعلامة الإضمار (الهاء ) مضاف إليه ، و (شيء) اسم ( ليس ) ، أي : ليس مثلَ مِثله شيء ، أي : ليس هناك أدنى مشابهة بين الله وشيء من مخلوقاته ، وبهذا تسلم الآية من دعوى كاذبة ، وهي :
زيادة الكاف ، أو :زيادة مثل .
وأما ذكر خبر ( ليس ) من قبلِ اسمها ، فذلك للعناية والاهتمام به ، كما يُذكَرُ المفعولُ قبلَ فعله ، نحو قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) (الفاتحة: 5)( )
7 - وسئل الاستاذ الدكتور فاضل السامرائي عن دلالة الكاف في قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ( الشورى: 11 ) ، فقال : النحاةُ يستشهدون بهذه الآية على زيادة الكاف. وأن الكاف زائدة للتوكيد ، يعني ليس مثله شيء. ويقولون : إن الكاف الداخلة على (مثل) زائدة للتوكيد ، لأن للكاف نفس معنى التشبيه. وقسم آخر يقول ليست زائدة ، وفيها كلام كثير لن نخوض فيه. لكن الذي يبدو أنها ليست زائدة. إذ التشبيه درجات في البلاغة، أعلى التشبيه أن تحذف وجه الشبه وأداة التشبيه ،
مثل : هو أسد ، أو هو الأسد ، أو هي البدر..
هي الشمس مسكنُها في السماء فَعَزِّ الفؤادَ عزاءً جميلاً
فلن تستطيع إليها الصعود ولن تستطيع إليك النزولا
هذا أعلى شيء ، ودونه هي كالبدر ، أو هي مثل البدر ، وهم يعتقدون أن (مثل) أعلى في التشبيه من الكاف ، لأن فيها معنى الموازنة، إذا جئت بأداة التشبيه ستكون دون الحذف فإن جئت بأداتي التشبيه سيكون دون ذلك أبعد، فربنا جاء بأداتي التشبيه، الكاف ومثل ، إذن ليس له مثيل ، ولو من وجه بعيد، فهي إذن ليست زائدة وإنما تؤدي معنى. ( )
8 - وقد سبقهم إلى تقرير هذه الحقيقة فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراز، فقال : ( فليس في كتاب الله كلمة إلا وهي مفتاح لفائدة جليلة ، وليس فيه حرف إلا وجاء لمعنى ، دع عنك قول الذي يقول في بعض الكلمات القرآنية إنها ( مُقحَمَة ) ، وفي بعض حروفه إنها ( زائدة ) زيادة معنوية ، ودع عنك قول الذي يستخفُّ كلمة ( التأكيد ) ، فيرمي بها في كل موطن يظن فيها الزيادة ، لا يبالي أن تكون تلك الزيادة فيها معنى المزيد عليه ، فتصلح لتأكيده أو لا تكون . ولا يبالي أن يكون بالوضع حاجة إلى هذا التأكيد ، أو لا حاجة له به .
أجل : دع عنك هذا وذاك ، فإن الحكم في القرآن بهذا الضرب من الزيادة أو شبهها ، إنما هو ضرب من الجهل – مستوراً أو مكشوفاً – بدقة الميزان الذي وضع عليه أسلوب القرآن . وخذ نفسك أنت بالغوص في طلب أسرارالقرآن البيانية على ضوء هذا المصباح ، فإن عَمِيَ عليك وجهُ الحكمة في كلمةٍ منه أو حرف ، فإياك أن تعجل .. وقل قولاً سديداً هو أدنى إلى الأمانة والإنصاف. أو قُل : الله أعلم بأسرار كلامه ، ولا علم لنا إلا بتعليمه) ( ).. وهل بعد كل ما سلف ، نستسيغ القول بأن هناك كلمة زائدة في القرآن ..؟
المبحث الثالث
لا ... بين الزيادة وعدمها
تأتي ( لا ) على ثلاثة أوجه : نافية ، وناهية ، وزائدة .
أ- أما ( لا ) النافية فلها ثلاثة أقسام :
الأول : أن تكون عاملة عمل ( إن ) وتسمى : لا النافية للجنس ، ولا تعمل إلا في نكرة ، ويكون اسمها مفرداً ، أو مضافاً ، أو شبيهاً بالمضاف ، نحو قوله تعالى : (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) ( سورة البقرة :2) .
الثاني : أن تكون عاملة عمل ليس ، نحو : لا رجل موجوداً .
الثالث : أن تكون عاطفة ، نحو : جاء زيدٌ لا عمرو .
ب - وأما (لا الناهية ) : ، وهي الموضوعة لطلب الترك ، كقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ .) (سورة الممتحنة : 1).
ج - وأما ( لا الزائدة ) : فهي التي يمكن الاستغناء عنها ، وجاءت في الكلام لتقويته وتأكيده ، وتأتي زائدة – على حد قول المجيزين لذلك - على ثلاثة أقسام :
القسم الأول : أن تكون زائدة لفظا لا معنى كقولك :جئتك بلا زاد، وغضبتُ من لا شيء ، ومنه قوله تعالى : (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ .) (سورة البقرة :68) .
فـ (لا ) في الأمثلة السابقة زائدة من جهة اللفظ ، بدليل وصول عمل ما قبلها إلى ما بعدها ، وليس بزائدة من جهة المعنى ، لأنها تفيد النفي ، ولهذا سماها ابن هشام : المعترضة بين الخافض والمخفوض ، وإن النحويين يعنون بالزائد : المعترض . ( )
وقد تكون (لا ) في نحو : جئت بلا زاد ، بمعنى : غير ، فتكون اسما لا حرفا .
وفي هذا يقول سيبويه : ( واعلم أنَّ ( لا ) قد تكون في بعض المواضع بمنزلة اسم واحد هي والمضاف إليه ، ليس معه شيء ، وذلك نحو قولك : أخذته بلا ذنبٍ ، وغضبت من لا
شيء ، وذهبت بلا عتاد . والمعنى : ذهبت بغير عتاد ، وأخذته بغير ذنب . )( )
القسم الثاني : أن تكون زائدة لتوكيد النفي ، بعد الواو العاطفة ، وحينئذ تُسبق بنفي ، أو نهي ، نحو : ما قام زيد ولا عمرو .. قال الرُّماني : ( إذا قلت : ما قام زيد وعمرو ، احتمل أنهما لم يقوما معاً ، ولكن قاما منفردين ، فإذا زدت ( لا ) زاد هذا الاحتمال ، وصار إعلاما بأنهما لم يقوما ألبتة . ) ( ). وقد جاءت ( لا ) زائدة لتوكيد النفي بعد واو العطف كثيراً في القرآن الكريم ، قال الله تعالى : (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ .)( الفاتحة : 7 ) . قال ابن الأنباري بعد أن ذكر الآية السابقة :( لا زائدة للتوكيد عند البصريين ، وبمعنى غير عند الكوفيين)( ). وتَعَيَّنَ دخول ( لا ) في الآية لئلا يتوهم عطف الضالين على الذين . ( ) .
وعلل صاحب البرهان دخول ( لا ) في هذه الآية بقوله : ( إن ( لا ) دخلت هنا مزيلة لتوهم أن الضالين هم المغضوب عليهم ..) ( )
القسم الثالث : أن تكون زائدة في اللفظ والمعنى ، وهي التي دخولها كخروجها ، وهذا مما لا يقاس عليه كما يقول المرادي ( )، وعبر عنها ابن هشام بقوله : ( لا الزائدة الداخلة في الكلام لمجرد تقويته وتوكيده ، نحو : (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)) (سورة طه : 92، 93 ) . ( )
وقد جاءت (لا) زائدة لفظا ومعنى– على قول من يجيز ذلك - في مواطن عديدة ، منها :
الموطن الأول : زيادة ( لا ) بعد أن المصدرية :
من ذلك قول الله تعالى : (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)) (الأعراف : 12) .
قال الزمخشري : ( (لا) في ( أَن لا تَسْجُدَ ) صلة بدليل قوله: ( مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ ) ( ص: 75 ) . ومثلها:( لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ ) (الحديد: 29 ) بمعنى ليعلم .
فإن قلت: ما فائدة زيادتها..؟
قلت: توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه ، كأنه قيل: ليتحقق علم أهل الكتاب.
وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك . ( )
ويُرَدُ على الزمخشري أن ( لا ) في أصل وضعها اللغوي معناها : النَّفيُ والسَّلب ، فكيف تفيد تقوية الفعل المثبت وتأكيده ..؟ وكيف يُفهَمُ أن ( لا تسجد ) مؤكدٌ معنى ( تسجد ) ..؟ فالاثبات والنفي أمران متناقضان .
وقال الآلوسي : ( واستشكل بأنها كيف تؤكد ثبوت الفعل مع إبهام نفيه ..؟
قال الشهاب الخفاجي : والذي يظهر لي أنها لا تؤكده مطلقا ، بل إذا صحبت نفياً مقدماً أو مؤخراً ، صريحاً أو غير صريح ، كما في ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) وكما هنا ، فإنها تؤكد تعلق المنع به .
ثم قال الآلوسي : وقيل: إنها غير زائدة ، بأن يكون المنع مجازاً عن الإلجاء والإضطرار ، فالمعنى؛ ما اضطرك إلى أن لا تسجد. وجعله السكاكي مجازاً عن الحمل ، و( لا ) قرينة للمجاز ، أي ما حملك ودعاك إلى أن لا تسجد..؟ وليس بين الجَعلين كثير فرق ، وجوز أن يكون ذلك من باب التضمين. )( )
وقال الراغب: (المنع يقال في ضد العطية ، يقال : رجل مانع ومَنّاع أي بخيل.... ويقال في الحماية ، ومنه مكان منيع ، وقد منع ، وفلان ذو منعة ، أي عزيز ممتنع على من يرومه، ... قال تعالى : ( ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ..) ( الأعراف: 12) ، أي ما حملك ..؟ وقيل : ما الذي صدك وحملك على ترك ذلك ..؟ ) ( ).
وقال الفخر الرازي : (ظاهر الآية يقتضي أنه تعالى، طلب من إبليس ما منعه من ترك السجود، وليس الأمر كذلك. فإن المقصود طلب ما منعه من السجود، ولهذا الإشكال حصل في الآية قولان:
الأول: وهو المشهور أن كلمة (لا) صلة زائدة، والتقدير: ما منعك أن تسجد..؟ وله نظائر في القرآن كقوله: ( لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ )( القيامة: 1) معناه: أقسم. وقوله: ( وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ) (الأنبياء: 95) أي يرجعون. وقوله: ( لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ ) (الحديد: 29) أي : ليعلم أهل الكتاب. وهذا قول الكسائي، والفَرّاء، والزجاج، والأكثرين.
والثاني: أن كلمة { لا }ههنا مفيدة ، وليست لغواً ،وهذا هو الصحيح، لأن الحكم بأن كلمة من كتاب الله لغو لا فائدة فيها مشكل صعب .وعرض القول الصحيح بقوله : إن الله ذكر المانع وأراد الداعي ، فكأنه قال: ما دعاك إلى أن لا تسجد..؟ لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة عظيمة يُتَعجب منها ، وَيُسأَلُ عن الداعي إليها.) ( )
وقال الطبري : غير (أن في تأويل قوله: ( ما مَنَعَكَ ألاَّ تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ ) بين أهل المعرفة بكلام العرب اختلافاً ، أبدأُ بذكر ما قالوا، ثم أذكر الذي هو أولى ذلك بالصواب ، فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ما منعك أن تسجد، و«لا» ههنا زائدة. وقال بعض نحويي الكوفة نحو القول الذي ذكرناه عن البصريين في معناه وتأويله......وبعد أن ذكر أقوالا أُخر ...
قال أبو جعفر الطبري : والصواب عندي من القول في ذلك أن يقال: إن في الكلام محذوفاً قد كفى دليل الظاهر منه، وهو أن معناه: ما منعك من السجود فأحوجك أن لا تسجد..؟ فترك ذكر أحوجك استغناء بمعرفة السامعين... وإنما قلنا إن هذا القول أولى بالصواب ، لما قد مضى من دلالتنا قبل على أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له، وأن لكلّ كلمة معنى صحيحاً، فتبين بذلك فساد قول من قال (لا) في الكلام حشو لا معنى لها. ) ( )
أما أبو السعود ، فإنه يورد القول بالزيادة كما فعل الزمخشري ، ثم يذكر الرأي الآخر على أن ( لا ) أصلية ، فيقول : ( وقيل : الممنوع عن الشيء مصروف إلى خلافه ، فالمعنى : ما صرفك إلى أن لا تسجد ..؟) ( )
ومما سبق ذكره من كلام النحويين والمفسرين يظهر أن في تفسير الآية قولان :
الأول : يقول بزيادة ( لا ) تنظيراً لها بآية سورة (ص ) ( قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم لم كنت من العالين ) . والسؤال فيها واضح عن المانع الذي منع إبليس من السجود ، وآية الأعراف التي معنا ، السؤال فيها عن المانع من عدم السجود ، وعدم السجود أفادته (لا)النافية ، فتكون ( لا ) زائدة لأنها لم تذكر في سورة ( ص ) ، وزيدت للتنبيه على أن المُوَبَّخ عليه ترك السجود ، ولتأكيد معنى الفعل الذي دخلت عليه وتحقيقه ، أي : ما منعك أن تُحقق السجود وتلزمه نفسك ، واعترض عليه بأن ( لا ) النافية لا تؤكد ثبوت الفعل مطلقاً ، كما استظهره الشهاب الخفاجي.
والثاني : أن (لا ) في آية الأعراف أصلية، والمعنى صحيح ومستقيم على أصالتها ، وأن ( ما منعك ) محمول على ( ما حملك أو دعاك ) مجازاً أو تضميناً .
والمعنى : ما حملك ودعاك إلى أن لا تسجد ، وبعضهم قال : ( منع ) بمعنى ( حمل ) من باب التضمين ، وليس من باب المجاز ، لأ، المجاز لا يصح فيه إرادة المعنى الحقيقي لـ اللفظ .
ورأي آخر يقول : إن الممنوع من الشيء مصروف إلى خلافه ، والمعنى : ما صرفك إلى أن لا تسجد ، من باب المجاز المرسل ، علاقته اللزوم أو الضدية .
وأحسن الوجوه في تفسير الآية أن يقال : إن المنع ضد العطية ، وقد يقالُ في الحماية ، إذ يقال في اللغة : فلان منع فلاناً من أن يُؤذَى ، أي : حماه من أن تناله يد الأذى .
ويقال : فلان في مَنَعَة ، أي : في قوة حامية له ، سواء أكانت من داخل النفس أم من خارجها، – أفاده الراغب في المفردات - .
والمعنى بناء على ذلك : ما حماك وجعلك في مَنَعَةٍ مِنِّي في ترك السجود ، أي : من المعاقبة على تركه . ويكون جواب إبليس ( أنا خيرٌ منه ) مطابقا للسؤال ، كأنه يقول : إن اعتقادي في تمييزي وفضلي على آدم ، جعلني في مَنَعَةٍ ، وَعِزَةٍ ، وَحِمايَة ، واعتقادُ التَّميُّز والأفضلية يجعل صاحبه - في ظنه –في حماية من الخضوع لغيره . وهذا معنى لغوي صحيح ، وتخريجٌ عربي مستقيم ، يتجنب القول بالمجاز أو التضمين . فضلا عن إبعاده القول بزيادة ( لا ) الذي يعتبره المحققون إسرافاً وتسرعاً لا يجوز ولا يسوغ القول به في كتاب الله عز وجل . ( )
وبمثل ذلك قال الدكتور أحمد الحوفي – عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة - ، إذ بعد أن ذكر أقوال القائلين بزيدة ( لا ) والمانعين للزيادة قال معقبا : ( أما القول بزيادة (لا) فهو مردود . وأما القول بأنها لتوكيد النفي المعنوي المفهوم من (لم يكن من الساجدين ) فإنه واضح التكلف . وأما ما استصوبه الطبري وهو أن في الكلام محذوفا ، وأصله : ما منعك من السجود فأحوجك أن لا تسجد ..؟ فإن الأسلوب العربي لا يساعد على تقبله .
كذلك لا يحتمل الأسلوب العربي أن يكون أصل الكلام (ما منعك من السجود ألا تسجد ) ، فإن الأسلوب العربي لا يساعد على تقبله .
وهاأنذا أعرض رأيا جديدا لعله أدنى إلى الصواب ، وأحق بالقبول ، وهو أن ( منعك ) هنا ليس معناها حال بينك وبين السجود ، أو نهاك عن السجود ، بل معنى المنع هنا من المنعة والعزة والحماية والحصانة ، نقول : فلان يمنع الجار ، أي : يحميه من أن يضام . ونقول هذا حصن منيع ، أي : قوي لا يغلب . وقد منع فلان مناعة ، فهو منيع ، أي : اعتز . وفلان في عِزّ وَمَنَعة ، أي : لا يخلص إليه أحد . وهو ذو منعة ، مصدر ، مثل : الأنفة. أو جمع مانع ، وهم عشيرته وحماته ( لسان العرب ، وأساس البلاغة ، مادة منع ) . فلننظر إلى الآية الكريمة في ضوء هذا المعنى ، فنجد أن ( لا ) أصلية ، وأن المعنى : ما الذي حماك من ألا تسجد إذ أمرتك ..؟ أو ما الذي غَرَّكَ فحسبت أنك منيع من عقابي حينما أمرتك بالسجود فلم تسجد ..؟ أو ما الذي حصنك من أن لا تسجد ..؟ ولا يقدح في هذا الرأي أن مَنَعَ في الآية الأخرى ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) معناها : ما الذي حال بينك وبين السجود ،أو ما الذي نهاك ، لأن لكثيرمن الكلمات معاني متعددة تتضح من السياق . ( )
الموطن الثاني : زيادة ( لا ) قبل فعل القسم :
ومن هذا قول الله تعالى : (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) (سورة القيامة : 1) ،
وقوله تعالى : (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ) (البلد: 1) ، قال الهروي : ( قال البصريون والكسائي ، وعامة المفسرين: إن معناه : أقسم ، ولا زائدة ) ( )
وذهب الفراء إلى أن (لا) لا تأتي زائدة في أول الكلام ، وإنما هي في سورة القيامة ردٌّ لكلام من المشركين متقدم ، كأنهم أنكروا البعث فقيل لهم : لا ، ليس الأمر كما تقولون ، ثم قال : أُقسِمُ بيوم القيامة . ( ) .
وقد رجح ابن الشجري رأي الفراء بقوله : ( وأقول: إن بعض النحويين أنكر أن تكون (لا) زائدة في قوله :(لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) (القيامة : 1)) قال : لأن زيادة الحرف تدل على اطِّراحه ، وكونه أول الكلام يدل على قوة العناية به ، فكيف يكون مُطَّرَحاً ومَعنِياً به في حالة واحدة ..؟؟ وإذا قبح الجمع بين اطراح الشيء والعناية به ، بطل كون (لا) في هذه الآية زائدة ، وجعلناها نافية ، رداً على من جحد البعث ، وأنكر القيامة ، وقد حكى الله أقوالهم في مواضع من كتابه . وكأنه قيل : (لا) ليس الأمر على ما تقولتموه من إنكاركم ليوم القيامة ، ثم قال : أقسم بيوم القيامة ، ولا أقسم بالنفس اللوامة ، فلا ههنا جواب لماحكى من جحدهم البعث) ( )
وأيدهما الزركشي بقوله : ( حقها أن تكون آخراً وحشواً ، وأما وقعها أولاً فلما فيه من التناقض إذ قضية الزيادة إمكان طرحها ، وقضية التصدير الاهتمام ، ومن ثم ضعف قول بعضهم بزيادة (لا) في قوله تعالى : (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) (القيامة : 1). ( ) .
وقد رد ابن يعيش رأي من أنكر زيادة (لا) في أول الكلام بقوله : ( قال المفسرون في قوله
(لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) (سورة القيامة : 1)) إن (لا) زائدة مؤكدة ، والمراد – والله أعلم - :أقسم ، وقد استبعد بعضهم زيادة (لا) هنا،وأنكر أن يقع الحرف مزيدا للتأكيد أولا واستقبحه، قال :لأن حكم التأكيد ينبغي أن يكون بعد المؤكد ، ومنع من جوازه ثعلب : (أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار النحوي الشيباني بالولاء المعروف بثعلب؛(تـ291هـ) ، وجعل (لا) رداً لكلام قبلها ، وعلى هذا يقف عليها ، ويبتدىء : أقسم بيوم القيامة .) ( )
ولم يرتض أبو حيان كون (لا ) زائدة أو نافية ، حيث يقول عند تفسيره لقوله تعالى : (فَلَا أُقْسِمُ بمَوَاقِعِ النُّجُومِ ( الواقعة : 75) : (قرأ الجمهور: { فلا أقسم } ، فقيل: لا زائدة مؤكدة مثلها في قوله:{ لئلا يعلم أهل الكتاب } [الحديد: 29] والمعنى: فأقسم.
وقيل: المنفي المحذوف، أي فلا صحة لما يقول الكفار. ثم ابتدأ : أقسم، قاله سعيد بن جبير وبعض النحاة؛ ولا يجوز........والأولى عندي أنها لام أشبعت فتحتها، فتولدت منها ألف، كقوله : ( أعـوذ بالله مـن العِقـرَابِ) .) ( )
وقال الزمخشري في آية الواقعة : ( فَلاَ أُقْسِمُ ) معناه فأقسم. ولا مزيدة مؤكدة مثلها في قوله:( لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَـبِ ) (الحديد: 29) وقرأ الحسن: «فلأقسم». ومعناه: فلأنا أقسم: اللام لام الابتداء دخلت على جملة من مبتدأ وخبر، وهي: أنا أقسم، كقولك: (لزيد منطلق) ثم حذف المبتدأ، ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأمرين:
أحدهما: أن حقها أن يقرن بها النون المؤكدة، والإخلال بها ضعيف قبيح.
والثاني: أن (لأفعلن) في جواب القسم للاستقبال، وفعل القسم يجب أن يكون للحال ) ( )
الموطن الثالث : من مواضع زيادة (لا) لفظاً ومعنىً زيادتها قبل المقسم به :
ومن ذلك قوله تعالى : (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا .) (النساء:65)
ومنه قول الشاعر :
فلا وأبيك ابنة العامري ........ لا يَدَّعي القوم أني أَفِرّ . ( )
والأصل فيه : يدعي القوم ، فزيدت (لا) .
وقال العكبري : ( (لا) الأولى زائدة ، والتقدير : فوربك لا يؤمنون ، وقيل : الثانية زائدة ، والقسم معترض بين النفي والمنفي . ) ( )
وذهب الأنباري إلى أن (لا) الأولى في الآية نافية لفعل محذوف يدل عليه الفعل المذكور ، والأصل : فلا يؤمنون ، ثم أكد بالقسم بعد ذلك . ( )
أما الزمخشري فذهب إلى أن (لا) زائدة قبل القسم ، حيث يقول : فلا وربك ، معناه : فوربك كقوله تعالى : (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)) (الحجر:92) . و(لا) مزيدة لتأكيد معنى القسم ، كما زيدت في (لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ )( الحديد: 29) لتأكيد وجود العلم ،و(لَا يُؤْمِنُونَ )جواب القسم .
فإن قلت : هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر (لا) في (لَا يُؤْمِنُونَ) ، قلت : يأبى ذلك استواء النفي والإثبات فيه ، وذلك قوله : (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)) (الحاقة: 38، 39، 40) ) ( )
تحقيق القول في المقسم به المبدوء بأداة النفي( )
ورد المُقسَمُ به مسبوقاً بأداة النفي (لا) في ثمانية مواضع من القرآن الكريم ، وهي : -
أ - مقسم به تقدمته أداة النفي مقترنة بالفاء ، وذلك في ستة مواضع من القرآن الكريم ، وكلها في ثنايا السور وهي :
1 - قوله تعالى : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم). (النساء:65.)
2 – قوله تعالى : (فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون). (الحاقة : الآيتان :38 ، 39)
3 – قوله تعالى :(فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون) (المعارج:40.)
4-قوله تعالى : - (فلا أقسم بمواقع النجوم) (الواقعة:75.)
5- قوله تعالى : - (فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس).( التكوير : الآيتان :15، 16)
6- قوله تعالى : - (فلا أقسم بالشفق). (الانشقاق :16.)
ب – مقسم به مسبوق بأداة النفي غير مقترنة بالفاء ، وذلك في موضعين : -
1- قوله تعالى :( لا أقسم بيوم القيامة ، ولا أقسم بالنفس اللوامة ) (القيامة : الآيتان :1، 2 )
2 – قوله تعالى : - ( لا أقسم بهذا البلد ) (البلد:1.)
وقد تناول المفسرون هذا النوع من المقسم به بالحديث ، ولهم في ذلك آراء ، ويمكن أن نجمل حديثهم عنه فيما يلي :
الرأي الأول ، وحاصله :
ا - أنَّ (لا) لنفي القسم : فكأن الله تعالى يريد أن يقول : لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب ، فهو أعظم وأجل من أن يقسم عليه بهذه الأشياء . ويكون الغرض من هذا الكلام تعظيم المقسم عليه ، وتفخيم شأنه ، أو : يكون الغرض إثبات أن المقسم عليه ، أظهر وأجل من أن يقسم عليه بمثل هذه الأشياء ، فإن إثباته أظهر وأجل وأقوى من أن يحاول إثباته بمثل هذا القسم ، وبه قال الفخر الرازي . ( )
ب – أن (لا) هذه إذا وقعت خلال الكلام ، كقوله تعالى : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) (النساء :65.) ، فهي صلة تزاد لتوكيد القسم ، مثلها في قوله تعالى : (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله) (الحديد: 29.) لتأكيد وجوب العلم . وإذا وقعت ابتداء كما في سورة القيامة ، وسورة البلد ، فهي للنفي ، لأن الصلة لا تكون في أول الكلام . ووجهُهُ: -
إن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به ، فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية . والمراد : أنه لا يعظم بالقسم ، لأنه في نفسه عظيم ، أقسم به أولا ، ويترقى من هذا التعظيم إلى تأكيد المقسم عليه ، إذ المبالغة في تعظيم المقسم به ، تتضمن المبالغة في تعظيم المقسم عليه .. وبه قال الزمخشري . ( )
ج – أن (لا) لنفي ما ينبئ عنه القسم من إعظام المقسم به وتفخيمه . فإن معنى لا أقسم بكذا : لا أعظمه بإقسامي حَقَّ إعظامه ، فإنه حقيق بأكثر من ذلك . وهذا الرأي يدور على أن ( لا ) للنفي ، وهذا الأسلوب يتضمن التعظيم . لكن : هل التعظيم منصب على المقسم به ، كما ذهب إليه أبو السعود ( )، على معنى : لا أعظمه بإقسامي به حق إعظامه ، فإنه حقيق بأكثر من ذلك . أم أن التعظيم منصب على المقسم عليه ، على معنى : لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات المطلوب ، فإنه أعظم من أن يقسم عليه بهذه الأشياء ، وهذا ما ذهب إليه الفخر الرازي . ( )
أم هو منصب على المقسم به ، والمقسم عليه ، كما ذهب إلى ذلك الزمخشري ..؟ إذ المبالغة في تعظيم المقسم به تتضمن المبالغة في تعظيم المقسم عليه ( ) .
ويَرُدُّ هذا الرأي قوله تعالى في سورة الواقعة : - (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) (الواقعة:76.) فهذا دليل على أن هنا قَسَماً مُثبتاً ، وأن الكلام إثبات قسم، لا نفي قسم ،وليس بعد بيان الله بيان . ويقاس على هذا بقية المواضع الثمانية ، إذ هي مثلُها في اللفظ ، فتكون مثلها في الحُكم .
الرأي الثاني : -
وحاصله : أن صيغة (لا أقسم) عبارة من عبارات القسم ، واختلفوا في توجيهها على أقوال :
التوجيه الأول :
أنَّ (لا ) صلة ، أي : زائدة ، والمعنى : أقسم . وقال بزيادتها : (ابن خالويه) ( )
وقال بزيادتها كذلك الزمخشري ، في تفسيره للآية ( 75 ) من سورة الواقعة قال : [ فلا أقسم ، معناه : فأقسم، ولا مزيدة مؤكدة ، مثلها في قوله تعالى : (لئلا يعلم أهل الكتاب) ( الحديد:58 ) ] ( ) ، وقال في موضع آخر من الكشاف : [ إدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم ، وأشعارهم ، قال امرؤ القيس:
لا وأبيكِ ابنةَ العامريّ لا يَدَّعي القوم أَنِّي أَفِرّ ( )
وفائدتها توكيد القسم ، ثم قال : ( واعترضوا عليه بأنها( أي : لا النافية) إنما تزاد في وسط الكلام لا في أوله ، وأجابوا بأن القرآن في حكم سورة واحدة ، متصل بعضه ببعض ، والاعتراض صحيح ، لأنها لم تقع مزيده إلا في وسط الكلام ، ولكن الجواب غير سديد ، ألا ترى إلى امرئ القيس كيف زادها في مستهل قصيدته ] ( )
وقيل : إنها زيدت توطئة وتمهيدا لنفي الجواب ، كما في قوله تعالى : (لا أقسم بيوم القيامة) (القيامة:1 ) فالمعنى : لا ، أقسم بيوم القيامة ، لا يتركون سدى ( ).
وما قاله الزمخشري وغيره مردود بأمور منها :
1 – لا : ليست زائدة لتأكيد القسم ، لأن ما يراد توكيده ينبغي أن يكون متأخراً عما هو مؤكد له ، فليس من المقبول أن نجعل (لا) مزيدة لتأكيد معنى القسم الوارد بعدها ، وقد منع (ثعلب) وغيره مجيء لا زائدة للتأكيد في إبتداء القول، واستقبحه بعض أهل اللغة ، وأنكروه ، لأن حكم التأكيد ينبغي أن يكون بعد المؤكد ( ) .
وَ ( لأن زيادة الحرف يدل على إطراحه ، وكونه في أول الكلام يدل على قوة العناية به، لذا لم يجز أن نجعل (لا) في هذه الآية زيادة ) . ( )
2 – إن قولهم إن (لا) زيدت توطئة وتمهيداً لنفي الجواب ، مردود بقوله تعالى : - ( فلا أقسم بمواقع النجوم )( الواقعة: 75). فإن جوابه هو قوله تعالى : (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون) (الواقعة : الآيتان :77 ، 78.) وهو مثبت غير منفي . ومثله قوله تعالى : (لا أقسم بهذا البلد)( البلد:1) فإن جوابه مثبت، وهو قوله تعالى :(لقد خلقنا الإنسان في كبد)(البلد:4.).
التوجيه الثاني :
إن (لا) نافية لكلام سابق ثم إستأنف القسم : وتحقيقه في قوله تعالى : ( لا أقسم بيوم القيامة ) (القيامة: 1.). أن ( لا ) نافية لكلام المشركين المنكرين للبعث ، أي : ليس الأمر كما زعموا ، ثم ابتدأ : أقسم بيوم القيامة .
قال القرطبي : ( وقال بعضهم : ( لا ) : رَدٌّ لكلامهم حيث أنكروا البعث ، فقال : ليس الأمر كما زعمتم . قلت : وهذا قول الفراء ، قال الفراء : وكثير من النحويين يقولون ( لا ) صلة ، ولا يجوز أن يبدأ بجحد ثم يُجعل صلة ، لأن هذا لو كان كذلك لم يعرف خبر فيه جحد من خبر لا جحد فيه ، ولكن القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا البعث ، والجنة ، والنار ، فجاء الإقسام بالرد عليهم ، وذلك كقولهم : لا والله لا أفعل ، فـ ( لا ) رد لكلام قد مضى ، وكقولك :لا والله إن القيامة لحق ، كأنك أكذبت قوما أنكروه ) .( ) وهو رأي أبي علي الفارسي كذلك ( ) .
وهذا القول ضعيف من وجوه : -
1- إن هذا الكلام المحذوف الذي قدروه لا دليل عليه .
2- قولهم هذا يتنافى مع ما قرره النحويون من أن اسم (لا ) وخبرها لا يجوز حذفهما إلا إذا كانا في جواب سؤال ، كما تقول : هل من رجل في الدار ، فيكون الجواب : لا ، أي : لا رجل في الدار ( ) .
3- قرر علماء المعاني في مثل هذا الموضع تعيين العطف بالواو حتى لا يحصل اللبس ، كما يقال : هل شفي فلان من مرضه ؟ فيقال : لا ، وشفاه الله . ولا يصح أن نقول : لا شفاه الله حتى لا يتوهم أنه دُعاءٌ عليه لا له . فلو كان الأمر كما يقولون ، لقال سبحانه : لا وأقسم بيوم القيامة ( ) .
4- قال تعالى :- ( لا أقسم بيوم القيامة . ولا أقسم بالنفس اللوامة ) (القيامة : الآيتان : 1، 2) . فلو كان الأمر كما يقولون من أن ( لا ) جاءت لنفي كلام سابق ، لم يكن ثمة داع لإعادة حرف النفي مرة أخرى في قوله تعالى : ( ولا أقسم بالنفس اللوامة )( القيامة: 2)
التوجيه الثالث :
إن أصل (لا أقسم) : لأقسم : أشبعت فتحة اللام فظهرت الألف .
أجاز الفراء ( ) دخول لام الإبتداء على فعل القسم المضارع ، مستدلا بقراءة الحسن ( ) (لأقسم بيوم القيامة ) (سورة القيامة: 1) ، وتابعه ابن جني ، ولكنه قدر حذف مبتدأ بعدها ، قال : - ( أي لأنا أقسم بيوم القيامة ، وحذف المبتدأ للعلم به ) ( ) ، وخرجها الزمخشري على معنى (فلأنا أقسم) ، اللام لام ابتداء ، دخلت على جملة من مبتدأ وخبر ، وهي : أنا أقسم قال :- ( ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأمرين :
أحدهما : - إن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة ، والإخلال به ضعيف قبيح .
والثاني : - إن لأفعلن في جواب القسم للاستقبال . وفعل القسم يجب أن يكون للحال ). ( )
وقال العكبري : ( فيها وجهان :
أحدهما : هي لام التوكيد دخلت على الفعل المضارع كقوله تعالى : (وإن ربك ليحكم بينهم ) ) النحل:154) ، وليست لام القسم .
والثاني : - هي لام القسم، ولم تصحبها النون اعتمادا على المعنى ، ولأن خبر الله صدق ، فجاز أن يأتي من غير توكيد ) ( ). ونقول : صحيح أن خبر الله صدق ، ولكن لم نجد آية واحدة ذكرت فيها لام القسم متصلة بالفعل المضارع ، دون أن تصحبها النون ، وإذا أخذنا بالقول أن خبر الله صدق – وهو كذلك - ، واعتمدنا عليه ، فلا داعي للقسم أصلا ، لكنه أقسم لحكمة يعلمها .
ومن خلال العرض الموجز السابق نصل إلى :
1- ليست اللاّم لامَ ابتداء ، أُشبِعَت فتحتها فتولدت عنها ألف ، وليست زائدة كذلك .
2- إن القَسَم المسبوق بالنفي ، هو عبارة من عبارات القسم ، وليست ( لا ) أداة نفي، نافية للقسم كما ادعى البعض ، إذ أنه مردود بتعيين المقسم به، كما في قوله تعالى : ( فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون ) (الحاقة : الآيتان : 38 ، 39)، وقوله تعالى :(فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم )(الواقعة : الآيات : 75، 76، 77. ) فقد صرح بالقسم هنا ، وليس بعد بيان الله بيان . كما أن تأكيد الأمر عن طريقِ النفي مألوف في لغة العرب ، فإنك إذا قلت لصاحبك: (لاأوصيك بفلان)، فإنما تُريد تأكيد التوصية به ، وتبالغ في الاهتمام به.فتبلغ بالنفي ما لا تبلغه بالأسلوب الصريح المباشر ، وكذلك نفيُ القسم ، استعمل في القسم من طريقٍ آكد وأبلغ. ( )
الرأي الثالث :
أن يدل المعنى على زيادة (لا) ، ومن هذا الموضع قول الله تعالى : (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) ) (الأنبياء : 95) . قال ابن الشجري (تـ542هـ) بعد أن ذكر الآية السابقة : ( والمعنى : حرام على قرية أهلكناها رجوعهم إلى الدنيا ) . ( )
وقال ابن عطية (ت 546 هـ): (فأما معنى الآية فقالت فرقة : وحتم ( على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ) إلى الدنيا ، فيتوبون ويستعتبون ، بل هم صائرون إلى العقاب، وقال بعض هذه الفرقة الإهلاك هو بالطبع على القلوب ونحوه ، والرجوع هو إلى التوبة والإيمان. وقالت فرقة المعنى : ( وحرام ) أي ممتنع، ( على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ) . وقالوا : ( لا ) زائدة في الكلام ، واختلفوا في الإهلاك والرجوع بحسب القولين المذكورين، قال أبو علي يحتمل أن يرتفع ( حرامُ ) بالابتداء ، والخبر: رجوعهم . و ( لا ) زائدة، ويحتمل أن يرتفع ( حرام ) على خبر الابتداء ، كأنه قال : والإقالة والتوبة ( حرام ) ، ثم يكون التقدير : بأنهم لا يرجعون . فتكون ( لا ) على بابها ، كأنه قال : هذا عليهم ممتنع بسبب كذا ، فالتحريم في الآية بالجملة ، ليس كتحريم الشرع الذي إن شاء المنهي ركبه.
قال القاضي أبو محمد: ويتجه في الآية معنى ضمنه وعيدٌ بيّن ، وذلك أنه ذكر من عمل صالحاً وهو مؤمن ، ثم عاد إلى ذكر الكفرة الذين من كفرهم ومعتقدهم أنهم لا يحشرون إلى رب ، ولا يرجعون إلى معاد ، فهم يظنون بذلك أنه لا عقاب ينالهم، فجاءت الآية مكذبة لظن هؤلاء ، أي : وممتنع على الكفرة المهلكين أن لا يرجعون ، بل هم راجعون إلى عقاب الله وأليم عذابه ، فتكون ( لا ) على بابها ، والحرام على بابه . فتأمله.) ( )
وقال القرطبي : (ت 671 هـ): (قوله تعالى: ( وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ) ..وبعد أن ذكر أن في الآية تسع قراءات قال : واختلف في «لا» في قوله: «لاَ يَرْجِعُونَ» فقيل: هي صلة؛ روي ذلك عن ابن عباس، واختاره أبو عبيد؛ أي : وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك. وقيل: ليست بصلة، وإنما هي ثابتة، ويكون الحرام بمعنى الواجب؛ أي وجب على قرية؛ كما قالت الخنساء:
وَإِنَّ حَراماً لاَ أَرَى الدَّهْرَ بَاكِياً......... عَلَى شَجْوهِ إلاَّ بَكيتُ على صَخْر
تريد أخاها؛ فـ( لا) ثابتة على هذا القول.
قال النحاس : ( تـ338هـ) والآية مشكلة ومن أحسن ما قيل فيها وأجلّه ما رواه ابن عيينة ، وابن عُلَيّة ، وهشيم ، وابن إدريس، ومحمد بن فضيل وسليمان بن حيان ، ومعلّى عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قول الله عز وجل: ( وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ ) قال: وجب أنهم لا يرجعون؛ قال: لا يتوبون.
قال أبو جعفر: واشتقاق هذا بيّن في اللغة، وشرحه: أن معنى حُرّم الشيء حُظِر ومُنع منه، كما أن معنى أُحِلَّ : أبيح ولم يمنع منه، فإذا كان (حَرامٌ) و(حِرْمٌ) بمعنى واجب ، فمعناه : أنه قد ضيق الخروج منه ومنع ، فقد دخل في باب المحظور بهذا.
وأما قول أبي عبيدالقاسم بن سلام (تـ 244هـ) : إن (لا) زائدة فقد رده عليه جماعة؛ لأنها لا تزاد في مثل هذا الموضع، ولا فيما يقع فيه إشكال، ولو كانت زائدة ، لكان التأويل بعيداً أيضاً؛ لأنه إن أراد وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا إلى الدنيا فهذا ما لا فائدة فيه، وإن أراد التوبة ، فالتوبة لا تُحرّم.
وقيل: في الكلام إضمار أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها، أو بالختم على قلوبها ، أن يتقبل منهم عمل ، لأنهم لا يرجعون ، أي : لا يتوبون؛ قاله الزجاج وأبو علي؛ و(لا) غير زائدة. وهذا هو معنى قول ابن عباس - رضي الله عنه- .) ( )
وقال الشيخ الاستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي : (وقال بعض العلماء: " وجعل أبو مسلم هذه الآية من تتمة ما قبلها ، و( لا ) فيها على بابها. وهى مع لفظ ( حرام ) من قبيل نفى النفى. فيدل على الإِثبات، والمعنى: وحرام على القرية المهلكة، عدم رجوعها إلى الآخرة، بل واجب رجوعها للجزاء، فيكون الغرض إبطال قول من ينكر البعث. وتحقيق ما تقدم من أنه لا كفران لسعى أحد ، وأنه - سبحانه - سيحييه وبعمله يجزيه.
ومنهم من يرى أن ( لا ) زائدة، وأن المراد بالرجوع رجوع الهالكين إلى الدنيا ، فيكون المعنى: وحرام على أهل قرية أهلكناهم بسبب كفرهم ومعاصيهم، أن يرجعوا إلى الدنيا مرة أخرى بعد هلاكهم. ومنهم من يرى أن المراد بقوله تعالى : ( أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ) أى: لا يرجعون إلى التوبة أو إلى الإِيمان.
قال صاحب الكشاف: استعير الحرام للممتنع وجوده، ومنه قوله تعالى: ( إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَافِرِينَ ) أى. منعهما منهم.. ومعنى الرجوع: الرجوع من الكفر إلى الإِسلام والإِنابة، ومجاز الآية: إن قوما عزم الله - تعالى - على إهلاكهم غير متصور أن يرجعوا وينيبوا إلى أن تقوم القيامة...
ويبدو لي أن القول الأول هو أقرب إلى الصواب، لأنه هو المتبادر من ظاهر الآية، ولأنه هو المستقيم مع سياق الآيات، ولأنه بعيد عن التكلف ، إذ أن الآية الكريمة واضحة فى بيان أن حكمة الله قد اقتضت أن يرجع المهلكون فى الدنيا بسبب كفرهم ومعاصيهم إلى الحياة يوم القيامة ، ليحاسبوا على أعمالهم كما قال تعالى: ( قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ) . ولعل مما يؤيد هذا الرأى قوله تعالى بعد ذلك: ( حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ.. ).فإن حتى هنا ابتدائية، وما بعدها غاية لما يدل عليه ما قبلها، فكأنه قيل: إن هؤلاء المهلكين ممتنع ألبتة عدم رجوعهم إلينا ، وإنما هم سيستمرون على هلاكهم حتى تقوم الساعة فيرجعوا إلينا للحساب، ويقولوا عند مشاهدته: يا ويلنا ؛ قد كنا فى غفلة من هذا.) ( )
ومما سلف يتبين لنا أن بعض المفسرين والنحويين ( ) يقولون أن (لا)هنا زائدة ، والمعنى :أنهم يرجعون ، إذ أن المراد بالرجوع في الآية هو الرجوع بعد الموت إلى الحياة الدنيا ، وذلك أن الكفار الذين أهلكهم الله يفزعون – حين يرون بوادر العذاب الذي أُعد لهم في الآخرة – أشد الفزع ، ويتمنون أن يعادوا إلى الحياة الدنيا ، ليصلحوا ما فسد من أعمالهم ويعملوا صالحا غير الذي كانوا يعملونه ،ويحققوا إيمانهم على الوجه الصحيح ، كما حكى القرآن عنهم في سورة المؤمنون (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)) (المؤمنون : 99-100 ) .
والمعنى للآية على ما يرى هؤلاء العلماء : حرام ومحال على أهل قرية أهلكهم الله تعالى أن يعودوا إلىالدنيا كما يريدون ، فجاءت عبارة (لا يرجعون ) مكان ( يرجعون ) ، فكانت (لا)زائدة في هذاالمقام ، واستأنسوا بقوله تعالى : (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)) (الأنبياء:96-97 ) . أي أنهم قالوا ذلك وهم في البرزخ بعد هلاكهم في الدنيا ، وانتظارهم إلى يوم القيامة أما الذين لا يقولون بالزيادة ، فيقولون : ما الذي يُلجئنا إلى أن المراد بالرجوع هو الرجوع إلى الدنيا ، حتى نضطر للقول بزيادة (لا).
فالرجوع في اللغة والشرع يطلق على الرجوع إلى الدنيا ، وعلى الرجوع إلى الآخرة ، ، وقد ورد الرجوع إلى الآخرة في آيات كثيرة من القرآن الكريم ، وفي سياق هذه الآيات التي نحن بصدد الحديث عنها ، فقبلها مباشرة : (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)) (الأنبياء : 93-95 ). هذا السياق يثبت أن المراد من الرجوع هو : رجوع الناس بعد الموت إلى الله عز وجل في حياة أخرى، يقومون فيها بين يدي الله ، فيحاسبهم على ما قدموا ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر . ويكون معنى الآية : إن الناس الذين أهلكهم الله بسبب شرورهم وفسادهم في الدنيا ، محال أن يكون ذلك نهاية أمرهم ، بل لا بد أن يحشروا ويرجعوا إلى الحياة الأخرى ، ليحاسبوا على أعمالهم في الدنيا ، وكلمة (لا) في الآية أصلية ، والمعنى على أصالتها مستقيم .( )
وفي الآية رد على الشيعة الذين يقولون بصحة الرَّجعة إلى الدنيا قبل يوم القيامة ، لقد حكم الله سبحانه أن من مات لن يعود إلى هذه الدنيا مرة أخرى، وأجاب الذين يتمنون العَود والرَّجعة إلى الدنيا بالمنع الكامل، قال سبحانه: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)) (المؤمنون : 99-100 )
وهكذا يقطع النص القرآني الأمل عند من يطمع في العودة إلى الدنيا مرة أخرى ، بقوله الحاسم (كلا).....
يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ..الآية )( المؤمنون : 99 ) : (يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت من الكافرين والمفرطين في أمر الله تعالى، وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا، ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته ) ( )، ويأتي ابن كثير بعد ذلك بالكثير من الآيات القرآنية التي تؤكد هذه الحقيقة، وهي عدم الرجوع، ثم يعقب عليها بقوله: (فذكر الله تعالى أنهم يسألون –الرَّجعَة- فلا يُجابون عند الاحتضار ويوم النشور، ووقت العرض على الجَبَّار، وحين يعرضون على النار، وهم في غمرات عذاب الجحيم، وقوله ههنا: (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا) كلا : حرف ردع وزجر، أي: لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه.. ومن ورائهم: يعني أمامهم.. والبرزخ: قال مجاهد: أي الحاجز ما بين الدنيا والآخرة. وقال محمد بن كعب: البرزخ: ما بين الدنيا والآخرة، ليسوا مع أهل الدنيا يأكلون ويشربون،ولا مع أهل الآخرة يجازون بأعمالهم. وقيل: البرزخ: المقابر، لا هم في الدنيا، ولا هم في الآخرة، فهم مقيمون إلى يوم يبعثون ) ( ). وحسبنا أن نُنهي كلامنا في هذا الموضوع بقوله تعالى في سورة يسن: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)) (يس : 30 – 31 ) فقد احتكم النص القرآني إلى رؤية المخاطبين ومشاهدتهم ، لما في حياتهم الدنيا، والمشاهدة توضح لهم أن من سبق من الناس الذين هلكوا بالموت أو العذاب، لم يعد منهم أحد، وهذا مطرد لا يتخلف، بدليل المشاهدة التي تواترت في هذه القضية خلال عدة قرون ....