محمد منير و خيانة التاريخ!
حيدر عيد
أنا اللي مش ممكن أخون
حزني و لحظات الشجون!
و هذا بالضبط ما فعله محمد منير!
خيانة كل ما غنى له من حب, شجن, وطنية أصيلة, انحياز للطبقة المطحونة, ديمقراطية, حرية, و عدالة. لا يوجد حالة وجدانية لم يغن لها, و كما كنا نعتقد, بقناعة كاملة.
و الحقيقة أن سؤال المليون دولار هو: لماذا؟ هل يمكن فهم هذا التحول الكبير خارج سياق التحولات التي ألمت ليس فقط بمصر, بل بالعالم العربي برمته من مغربه الى مشرقه؟
كنا نحاول أن نستوعب عالما جديدا في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم, عالم بلا أم كلثوم, و بلا مغني الثورة و الحب, العندليب الأسمر. من كان يتصور أن يأتي من يستطيع أن يملأ جزءا من الفراغ الهائل الذي تركه حليم, و قبله كوكب الشرق؟ من كان يتجرأ على المحاولة؟ و كان قد صاحب غياب العمالقة تدهور هائل في الذوق العام و بداية لانطلاقة افلام و أغاني المقاولات التي صاحبت سياسة الانفتاح الاقتصادي التي كان قد تبناها الرئيس المصري الراحل أنور السادات مع انقلابه على كل انجازات الرئيس جمال عبد الناصر الاجتماعية و السياسية.
و برزت مجموعة من المغنين الذين لم يستطيعوا الخروج من سطوة "شبح" حليم و ثومة. من الراحل عمر فتحي الى محمد الحلو وهاني شاكر و على الحجار...الخ و لكنهم لم يشكلوا "حالة" , باستثناء الشيخ إمام عيسى الذي كان مبدعا بطريقته الخاصة و شكل ظاهرة فنية فريدة, مع الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم, من الصعب تكرارها. و من ناحية أخرى كان هناك من يغني "لسلامة أم حسن من العين و من الحسد", و من تحاور "الطشت" الذي يدعوها للاستحمام!
و بدأت الكريمات الرخيصة التي تزيد وجوه المصريين "بياضا" خجلا من سمارهم الجميل, و بدأت صبغات الشعر الصفراء تغزو الأسواق "لإقناع" المصريات أن الشقار هو الجمال. كل ذلك مع خليط من أغان "وطنية" استهلاكية تتغنى بحب الوطن الذي استعاد جزءا من أرضه و لكن منقوص السيادة.
و فجأة برز صوت ملائكي جميل لشاب أسمر من النوبة, صوت ارتبط في بداياته بالشاعر الراحل عبد الرحيم منصور. لم ننتبه في البداية لمن طلب من البحر أن "يستلم الأمانة" في عالم من الغربة و "الغرابة", من قال لأمه "المسكينة, السمراء" ألا تعير ما يقال اهتماما لأنها "أميرة و طاهرة و صابرة!" و لكن الألبوم الأول مر مرور الكرام, متبوعا بألبوم آخر واجه صعوبة في مواجهة غول الانفتاح الاقتصادي و الجمهور الذي قيل أنه "عاوز كده". غنى لعروسة النيل و الحرية و سأل الأسئلة الوجودية (سؤال و غريبة) التي تعبر عن شجن المغترب في حياة مادية مسعورة بروح استهلاكية تسلع الانسان.
و جاءت الفرصة في بداية الثمانينيات مع اطلاق الألبوم الثالث الذي كان علامة فارقة من حيث الموسيقى و اللحن و الكلمة و الأداء. أجمل ما كتب فؤاد حداد للسمراء و لحن أحمد منيب و بليغ حمدي. كانت أغنية الليلة يا سمرا بالذات هي التي لفتت الأنظار بطريقة لم تحدث مع أي مغن آخر بعد عبد الحليم. خليط من الموسيقى العربية بألحان نوبية (السلم الخماسي) و صوت متميز لا يمكن تكراره. أضف الى ذلك جمال الكلمة التي ذكرتنا بآلام اللاجئ الفلسطيني الذي يحن "لشجر اللمون الذبلان على ارضه." و لفت ذلك نظر المخرج الكبير يوسف شاهين الذي كان يقوم بإخراج فيلم "حدوته مصرية" حيث طلب من منير أن يلعب دورا في الفيلم و أن يقوم بغناء المقدمة. و أصبحت تلك الأغنية, التي كتب كلماتها الراحل عبد الرحيم منصور, مرادفة للسلام الوطني, و لكن ببعد ديمقراطي انساني. ووقتها تدخل الرقيب و أزال كلمة "مكبوتة" في نهاية الأغنية!
أمد ايدي لك
طب ليه ما تقبلنيش
لا يهمني اسمك, لا يهمني عنوانك
لا يهمني لونك, ولا ميلادك,
يهمني الإنسان, و لو مالوش عنوان
يا ناس يا مكبوتة, هي دي الحدوتة
حدوتة مصرية
إذاً كان واضحا أننا أمام حالة موسيقية جديدة, عربية و لكن بسلم خماسي, منطقة لا يتجرأ على دخولها إلا هذا الأسمر القادم من أسوان. لا يلبس بدلة, بل يغني "أفتح زرار قميصي للنسمة و للأغاني", يتفاعل مع جمهوره بطريقة غير تقليدية, كاريزماتي, متواضع, والأهم هو الجرأة في التجريب من القديم و الحديث, المزج بين الفولكلور العربي و الموسيقى الأفريقية, حتى الدخول الى مناطق الريجي و الجاز أحياناً.
كل ذلك بعيدا عن السلطة و الغناء لها. فكل من غنى لها من جيله ذاب في غياهب النسيان. هو اختار أن يكون "واحد من الناس" و "جدع بلا جاه" يغني "أمجاد يا عرب أمجاد", ينوح مع "الحمام النواح", يطلب من بهية أن تطفئ النور لأن "كل العسكر حرامية!"
و فجأة تغير كل ذلك, كما تغير الكثيرون في مصر و العالم العربي. و خرج علينا بأغنية من كلمات و تلحين من عادى الثورة, من حرض على دم "الحمامة الشهيدة" التي كان قد غنى لها خلال الثورة! أغنية لا علاقة لها بوطنية نجم و جاهين و حداد و منصور, وطنية "تيك أوي", لمناسبات احتفالية تسعد الحكومة و تبعده عن "المشاكل". ثم بدأ بهلوسات فنية تشكل نقيضا لذلك الماضي الجميل, فظهر في فيديو, مع مجموعة من النجوم, للدعاية للسياحة العربية في أم الدنيا, و السائح الوحيد الذي ينتظره منير و كل الفنانين الذين شاركوا في الفيديو كليب من الخليج العربي! هناك من أطلق عليه "فيديو تسول" و بامتياز.
ثم جاءت اللحظة الحاسمة في مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي, حيث أحيا الحفل الختامي.
لأول مرة في حياتي أتوقف عن مشاهدة حفلة له أقامها لأغنياء مصر. من شاهدته كان مغنياً آخر لا علاقه له بمنير الذي تربينا على فنه الراقي. أهذا من كنا ننتظر أغنياته الجديدة بشغف هائل؟!هل يستمتع الأغنياء في شرم الشيخ بكلمات كلمات الفاجومي و الأبنودي (عندما كنا نطلق عليه لقب الخال!) و عبد الرحيم منصور و صلاح جاهين و فؤاد حداد؟ هل يستمعون" لحدوتة مصرية" كما يستمع لها الفلاح و العامل و الطالب؟هل يفهمون صرخة عام 2011 "إزاي؟!" "
الذي رأبته كان يغني" لصديقه أحمد موسى صاحب قناة "صدى البلد" الذي كان يتمنى أن تضرب الطائرات المصرية غزة, و الذي أبدى سعادة غامرة بالافراج عن مبارك, بل استضافه على قناته و احتفى به, من عادى ثوار و شهداء يناير. بل يقوم منير بالتصريح ان هذه القناة هي "قناته المفضلة!"
"محمد منير" الجديد ينتقي كلماته من شعر و الحان أعداء ثورة يناير عمرو مصطفى و أيمن بهجت قمر. يحابي السلطة بطريقة فجة , يردد كلمات "الوطنية" الاستهلاكية, المعلبة "للناس اللي فوق", يترنح بثمالة ليلتقط سيلفي مع سيدة من أغنياء مصر كانت يوما ما "سمراء" بشعر أسود قبل أن يتحول إلى الصافر!
"محمد منير" أصبح صبي عالمة, يمسح الجوخ, و يلم النقوط. "محمد منير" صديق توفيق عكاشة الوجه القبيح للثورة المضادة في العالم العربي!
و هكذا توفي محمد منير و برز بدلا منه "محمد منير" الذي لن ننتظر له شريطا جديدا. و لم يتبق لنا إلا أن نقرأ الفاتحة على روحه.
محمد منير و خيانة التاريخ!بقلم:حيدر عيد
تاريخ النشر : 2015-04-05