الفكر الإجتماعي في العصور القديمة بقلم: يوسف حجازي
تاريخ النشر : 2006-01-31
الفكر الإجتماعي  في العصور القديمة بقلم: يوسف حجازي


الفكر الإجتماعي في العصور القديمة ... بقلم يوسف حجازي

كان موضوع المجتمع والدولة والعلاقة بين الحاكم والمحكومين من أهم المواضيع التي اتخذت طابعاً أكثر اتساعاً على أيدي المفكرين والفلاسفة منذ بداية اتصال الإنسان بالمجتمع وحتى اليوم ولعل أبرز ما ثار حوله من جدل - ما بين اتفاق واختلاف - النظريات التعاقدية التي تفسر واجب الولاء نحو القوانين ونحو السلطة .

بالرجوع إلى عهد أو عقد أو وعد بالطاعة يقدمه الفرد في مقابل منافع يكتسبها من المجتمع المدني، الذي يقوم على أساس هذا التعاقد , لكن هذه النظريات التعاقدية الاجتماعية اختلفت جميعاً في تحديد أطراف التعاقد ودوافعه وأسبابه وشروطه وأهدافه , فقد أتخذ السوفسطائيون من مقولة زعيمهم بروتاغوراس "الإنسان مقياس كل شيء" محور فلسفتهم وطبقوا ذلك على السياسة والأخلاق وجاءوا بأغرب فلسفة اجتماعية وأخلاقية فقالوا :"إذ لم يكن هناك حق في الخارج ، وكان ما يظهر للشخص بأنه حق ، فهو حق بالنسبة إليه وحده " ولا يمكن أن يكون هناك قانون اخلاقى عام يخضع له الناس جميعا , والمسألة إنما ترجع إلى إحساس الإنسان , فما يراه حقا فهو حقا له , وما رأى أن يعمله فليعمله ,فذالك عمل مشروع له ,

لكن سقراط الذي اتخذ شعار " اعرف نفسك بنفسك " محورا لفلسفته اختلف مع السوفسطائيين , وخاصة في اعتبار الحواس وحدها سبيل وصول المعلومات إلى العقل , ورأى أن تحصيل المعرفة ينبني على العقل لا على الحواس , ولذالك تكون المعرفة عند سقراط كلية عقلية لا جزئية حسية , وقد كانت مبادئ سقراط التي حاول أن يقيمها على أسس ثابتة لضبط سلوك الناس الاخلاقى والاجتماعي قاعدة للمذاهب الفلسفية التي ظهرت فيما بعد , ومن أشهرها , مذهب الميغاريين الذي أسسه إقليدس , ومذهب القورينائيين الذي أسسه ارسطبس , ومذهب الكلبيين الذي أسسه انتسثنيس , وهو مذهب يرى أن السعادة لا تتحقق إلا بالحياة مع الطبيعة حياة مكتفية بذاتها , وان الفقر والعمل الشاق المؤلم أمور نافعة تسهل للإنسان تحصيل الفضيلة وتعينه على نيل الحرية , ولقد زهدوا في اللذائذ , ولم يحترموا عرف الناس وما تواضعوا عليه , بل كانوا يفعلون ما يتحرج الناس من فعله , ولذالك أطلق عليهم أهل زمانهم بسبب ذالك الكلبيين نسبة إلى الكلاب التي تفعل ما تشاء من غير خشية من احد

أما أفلاطون تلميذ سقراط فقد كان متأثرا في تفكيره الاجتماعي بما يجرى في المدن اليونانية من عدم استقرار وحكم استبدادي وصراعات , ولذالك اخذ يبحث عما يراه النظام الأفضل الذي ينبغي أن تكون عليه المجتمعات الإنسانية , وقد انتهى إلى نتائج تضمنها كتابه " ألجمهوريه " الذي يعرض فيه فلسفته الاجتماعية التي تقوم على ما يجب أن يكون وليس علة ما هو كائن بالفعل في المدن اليونانية , وقد رأى أن الغرض من حياة الإفراد هو الحكمة والفضيلة والمعرفة , ولكن الأفراد لا يستطيعون إدراك غايتهم هذه إلا بواسطة الدولة الأرستقراطية التي تؤسس على الفكر والتعقل , ولا يتم ذالك إلا آن يكون الحكام هم الفلاسفة , ولما كان من واجب الدولة أن تمكن الأفراد من الوصول إلى سعادتهم , فان عليها أن تشجع الخير وتهدم الشر , وهنا تكمن اخطر آراء أفلاطون وأكثرها خيالا وبعدا عن الواقع , فهو ينادى بإلغاء نظام الأسرة لمصلحة الدولة عن طريق الاشتراكية في النساء , وتربية الأولاد بمعرفة الدولة , وإعدام الأولاد الضعفاء والمرضى والذين يولدون لآباء أشرار,

لكن أرسطو وهو أول فيلسوف من العصور القديمة لجأ إلى المنهج الاستقرائي " المسح الاجتماعي " فقد استطاع بعد دراسة دساتير " 158 مدينة دولة " أن يستنتج عدد من القواعد السياسية المتعلقة بالحياة الاجتماعية , وقد اتفق مع أفلاطون في أن غاية إنشاء الدولة هو إسعاد أفراد ألأمه , ولكنه اختلف معه في الأساس الذي تقوم عليه الحياة الاجتماعية , ورأى انه يقوم على غريزة التجمع عند الإنسان , وليس على الحاجات الاقتصادية كما قال أفلاطون , لان الإنسان عند أرسطو " حيوان اجتماعي " كما اختلف معه في النظرة إلى الملكية الخاصة , ورفض نظرية أفلاطون في الملكية الجمعية لأنها تتصادم مع الفطرة الطبيعية للإنسانية , ونادى بالملكية الخاصة مراعاة لهذه الفطرة , كما خالفه أيضا في الأسرة ورأى أنها ضرورية للكل الاجتماعي وهو الدولة , ووصفها بأنها جسم عضوي له غاية في نفسه وله حقوق خاصة , أما بخصوص الدولة فلم يحدد المثل الأعلى كما حاول أفلاطون , وقال انه ليس هناك شكل خاص هو نفسه خير الأشكال , فكل شكل يعتمد على ما يحيطه من ظروف, وبعد أرسطو تدهورت الفلسفة وصارت الأبحاث الفلسفية تدور حول الإنسان وخيره وسعادته , وفي هذا النطاق ظهرت المدرسة الرواقية التي صورت الحياة حرباً دائرة بين العقل والشهوات , يجب أن تنتهي بانتصار العقل وإعدام الشهوات , ولهذا كانت نظريتهم تنتهي بالإنسان إلى التقشف والزهد وعدم التوازن بين القوى المختلفة في الإنسان , وقد اتفقوا مع أرسطو في أن الإنسان حيوان اجتماعي ولكنهم اختلفوا معه في نظرته إلى الشهوات , فهو يعدها جزء من الإنسان له مكانه ولم ينادي بمحاربتها وإنما دعا إلى ضبطها بواسطة العقل , أما الرواقيون فقد اعتبروها شرا محضا ولا بد من إبادتها.

كما ظهرت أيضا في تلك الفترة المدرسة الأبيقوريه التي اعتبرت اللذة وحدها هي غاية الإنسان , فهي وحدها الخير – والألم وحده هو الشر , ولكن اللذة لم تقتصر في نظرهم على اللذة الجسمية بل قالوا أن اللذة العقلية أكبر قيمة من اللذة الجسمية , وأن الفرار من الألم خير من السعي في تحصيل اللذة , فعدم الألم وهدوء البال وطمأنينة النفس وذهاب الاضطراب من الخوف أفضل من العمل على إيجاد اللذة الإيجابية , والسعادة في البساطة والاعتدال وابتهاج النفس وضبطها , والحكيم هو من يسيطر على رغباته حتى لا تدفعه إلى الضلال, أما بخصوص المجتمع والدولة فهم يرون أن الدولة جاءت نتيجة التعاقد بين أفراد المجتمع على أساس مادي يتمثل في مصلحة أفراده , وأن القوانين شرعت لحماية المجتمع ولذا يجب على الأفراد أن يحترموها.

أما الفكر الإجتماعي عند الرمان فقد انطبع بالطابع اليوناني , لأنه لم يكن للرومان شخصية فكرية مستقلة تتميز بملامح خاصة , ولكن تأثرهم كان أبرز ما يكون وضوحا بالمدرستين الرواقية والأبيقورية , فقد أشاد الفيلسوف الروماني "لوكريتوس" بالفيلسوف "أبيقور" الذي نادى بتحقيق اللذة الروحية والحسية عن طريق إستخدام العقل والمنطق الذي يرى أنه يحرر الإنسان من المخاوف الخرافية الشائعة التي كانت مصدر تفسير كثير من الظواهر الطبيعية في ذلك العصر, لكن الخطيب شيشرون الذي تأثر بالمدرسة الرواقية عارض أقوال الأبيقوريين وقال إن غاية الحياة هي الفضيلة والتقشف والزهد ومحاربة الشرور وليس اللذة , وقد كان هذا التأثر بمثابة رد فعل يرمي إلى تعديل واقع الشعب الروماني وانجرافه الكبير إلى تيار الفساد , لكن ولما لم يعد في وسع الفلسفة إقناع الناس بما تقدمه لهم من نماذج أخلاقية للحياة , ولا بما تتعهد به من سعادة , حاولت أن تستمد من المعتقدات الدينية الوثنية المعرفة بعد أن كانت هي سبب سقوطها , وهكذا امتزجت الفلسفة بالعقائد الدينية المنهارة التي كانت هي كذلك تحاول أن تجد في الفلسفة سندا لها , ونشأت بهذا الامتزاج نظم حاولت أن تقدم إلى الشعور الديني لدى الناس فكرة في العالم تقنعهم , ولكن لم تكن تلك المحاولة ناجحة , بل كان نصيبها الإخفاق وتفاقم الانحلال الأخلاقي , واشتد شعور الناس بالحاجة إلى الإصلاح , وعلى الرغم أنه كان للفكر الروماني أثر في ظهور كثير من النظم القانونية والسياسية للمجتمع , فإن التاريخ السياسي يؤكد أن الانحلال الإجتماعي قد بلغ غاية لديهم , فقد ازدادت الأتوات والضرائب , وعم التذمر , وذابت أسس الفضيلة , وانهارت دعائم الأخلاق وصار العدل يباع ويساوم مثل السلع , وكانت الرشوة والخيانة تنالان من الأمة التشجيع, وفي ذلك يقول "جيبون": ( في أواخر القرن السادس , وصلت الدولة في ترديها وهبوطها إلى أخر نقطة , وكان مثلها كمثل دوحة عظيمة كانت أمم العالم في حين من الأحيان تستظل بظلها الوارف , ولم يبق منها إلا الجذع الذي لا يزداد كل يوم إلا ذبولاً.

( الحلقة القادمة الفكر الاجتماعي في العصور الوسطى )