الفرعون البريء !!بقلم: عبدالجواد خفاجي
تاريخ النشر : 2014-11-30
الفرعون البريء !!
ـــــــــــــــــــــــ
عبدالجواد خفاجي

المجتمع المصري جاهل من ثلاث جهات وليس من جهة واحدة، أولها جهله بحقائق الأمور في دولة مخابراتية أمنية بوليسية ونظام حكم دكتاتوري ليس الآن فقط بل منذ نجاح حركة الضباط (الذين أطلقوا على أنفسهم أحراراً) في طرد الملك فاروق والاستيلاء على العرش كتركة متوارثة لمؤسسة عسكرية تستدعي مؤسسات أخرى داعمة مقابل امتيازات مالية وسلطوية واجتماعية.

الجهة الثانية: جهله بالسياسة ليس لأن السياسة علم عويص وبحر غريق، وليس لأن الشعب لا يملك العقل الكافي للفهم، ولكن لأن الدولة الأمنية كانت تمارس الإرهاب ليس فقط ضد السياسيين وإنما ضد كل من تسول له نفسه الفهم السياسي أو الحديث في السياسة حتى آمن الشعب أن "الحيطان لها ودان"، وأن الحديث في السياسة يعني المجازفة بالحياة نفسها تحت التعذيب.

الجهة الثالثة: متعمدة وناجزة اعتمدت على تمييع الرأي والشخصية المصرية بثوابتها الحضارية ، وتبنيج العقل المصري بما عُرف عنه ـ تاريخيا ـ من نبوغ ، وكان الاعتماد في ذلك على آلة الإعلام منذ العام 1952 وحتى اليوم وقد اتسع هذا النشاط التمييعي في فترة مبارك بفعل استغلال الفضاء المفتوح والسيطرة على الإعلام وإدارات الجامعات والنقابات وإنشاء حظيرة للمثقفين من سدنة النظام ، وتوظيف المؤسسات الثقافية وضعضعة التعليم واضطهاد القدوة في المجتمع وأولها المعلم وإلهائه بعيدا عن التعليم وبناء الشخصية وتصويره للرأي العام في صورة المافيا، وغير ذلك تحجيم وتكبيل الآباء الروحيين في هذا الشعب واضطهادهم وتصويرهم في صورة الإرهابيين الكبار، وكان من نتيجة ذلك أن الشعب صدق أن النظام السياسي ديمقراطي ووطني وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.

وإذا كان الجهل قوة لا يُستهان بها .. فقد وظف أعوان مبارك ومؤسسات الدولة العميقة ـ كما يُقال ـ جهل الشعب المصري بحقائق الأمور وهذه بديهة من بديهيات السياسة في مجتمع مخابراتي أمني أن يكون المجتمع جاهلا بحقائق الأمور، وأن يُستغل هذا الجهل سياسياً.

ولعل أول دلائل جهل هذا الشعب أنه صدق نفسه عندما صدق أن هتافه أو نومه في الميادين يمكن أن يُسقط النظام السياسي الأمني المستبد لمبارك، لولا أن العسكر أرادوا ذلك فيما سُميَّ بـ "ثورة ثم ثورة " مع اختلاف التاريخين في مدة فاصلة لا تتجاوز عامين.. وإذا كان الشعب قد أيقن أن مجرد تجمع في ميدان التحرير قد أسقط نظام مبارك وهو يقين غير حقيقي بالمرة، فقد استغل المستغلون هذا اليقين لإسقاط أول إفرازات الثورة الأولى، وبنفس الكيفية التي وفرت الكثير من الجهد السياسي لإقناع العالم أن ما حدث إنما هو ثورة وليس انقلاباً دموياً.. وفي الحالتين نحن أمام شعبوية فارغة من الوعي وثورات سابقة التجهيز، هي ليست ثورات الشعب وإنما هي ثورات الكهنة ـ الذين يتحكمون في الشعب ـ على الفرعون الذي يسعي لتوريث الحكم في الأولى، وثورة على الثورة لاستعادة الحكم لفرعون جديد في الثانية.

اللعبة إذن أننا كنا أمام استبدال العرائس على مسرح السلطة، وهو مسرح مؤقت انتهى بانتهاء العرض العسكري الذي كان يهدف منذ البداية إلى إسقاط مشروع التوريث الذي ـ لو نجح ـ لاستبعد العسكر إلى الأبد من حكم مصر.. وقد انتهى العرض بعودة عرش المخلوع فاروق إلى من ورثوه بالقوة العسكرية منذ العام 52 وحتى اليوم.

تبرئة مبارك كانت خطوة متوقعة لكل قارئ سياسي متوسط الفهم منذ نجاح الثورة المضادة التي شغلت رأي الشعب المصري دون إجابة عن السؤال الشعبي: "ثورة دي ولا انقلاب؟".. فلا معنى لاستمرار حبسه أو إدانته أو إعدامه وقد تم استبعاده من الحكم هو ومشروع توريثه. وقد تم إجهاض الثورة التي استبعدته في إطار لعبة (ثورة وثورة) أو في إطار استغلال المادة اللغوية (ثَوَرَ) التي تعني (خَـوَرَ) في مجتمع جاهل سياسيا.

من جهة أخرى فإن تبرئة مبارك تبدو واجبة لأن مبارك لم يكن مجرماً ـ من وجهة نظر العسكر ـ إلا بالقدر الذي صدق معه زوجته وابنه الأصغر أن مصر يمكن أن تورث لأحد بعيداً عنهم، وقد دفع الرجل ضريبة تصديقه لزوجته وابنه، أما غير ذلك فإن إعدام مبارك أو حبسه أو إدانته تعني تصديق الشعب لنفسه أنه ثوري، وتصديقه لنفسه وهو يحلم بالثورات والتغييرات الديمقراطية، وتعني الإقرار أن هناك قوى شعبية وثورية يمكنها أن تواجه إرادة حاكمة لمصر ومالكة لعرش فاروق غير من أسقطوا فاروق.

ثمة لغط في الشارع المصري ـ منذ 25 يناير 2011 وحتى الآن ـ نتيجة الاستقطاب الحاد لوضعية المواطن الجاهل ، وتوجيه للرأي العام بعيداً عن القضية الأساسية وأعني بها مصير الحياة السياسية وتغيراتها نحو حكم ديمقراطي وتداول السلطة، وفي محيط هذا اللغط يبدو أثر الإعلام المُسلَّع والمثقفين المُؤدلَجين (بضاعة أي نظام سياسي)، وفاعلية مخابراتية تديرها الدولة العميقة وكذلك رأس المال الأسود ومصالحه الاستغلالية والسياسية التي اعتادت مزاوجة المال بالسلطة.
وكان من نتيجة هذا اللغط ليس فقط تفتيت القوى الثورية ، بل تفتيت لُحمة ونسيج الشعب المصري نفسه، وخلق حالة تنازع سياسي قبلي أيدولوجي طبقي رأسمالي ديني عرقي وهلمجره من تنازعات تفتيتية، وقد لاحظنا أيضاً نتيجة لذلك شيطنة القوى الثورية لبعضها، وشيطنة الإسلاميين السياسيين وشيطنة الآباء الثوريين كذلك، والاختلاف حول درجة الشيطنة، والاستسلام للإشاعات والمقولات المؤبلسة التي تهدف إلي استعداء العلويين ضد بعضهم واستعداء الموالين لبني أمية ضد العلويين ونعت فريق ثالث بالخوارج، والانشغال بشيطنته الفرقاء لبعضهم بعيدا عن القضية الأساسية ، وهلم جره من استقطاب سياسي ترك أثره على الشارع المصري وانجرف الناس نحوه بشوق كبير يعادل محصلة الكبت السياسي الذي كانوا يعيشون فيه.

كان لابد إذن أن يخرج مبارك بريئاً في شعب جاهل ومتهم في عقله، وأنه غير مؤهل للديمقراطية، ويتلاعب به الإعلام ، وأجهزة المخابرات والمتوحشون الأمنيون.

كان لابد أن يخرج بريئا لأن الشعب هو المتهم، وليس لأن مبارك غير مجرم بل لأنه مجرم في مجتمع جاهل بلا قضاء حقيقي غير قضاء المجرم نفسه.. هو مجرم استطاع أن يؤسس نظاما قادراً على تبرئته حتى وهو خارج السلطة، كما كان قادراً ـ وهو في السلطة ـ على سلب عقل الشعب، وإفساد العدالة ونشر الفساد حتى وصل إلى الضمائر والذمم والعقول. وقد استطاع هذا النظام رغم سقوط رأسه أن يستنبت رأساً أخرى وأبواقا جديدة لا تزال تقنع الشعب أنه متهم في عقله وأنه غير مؤهل لاستقبال الحياة الديمقراطية وأن أعداءه ليسوا الدكتاتوريين الذين هم في السلطة بل المناوئين لهم الذين هم في الشارع المصري والسجون المصرية.

كان لا بد أن يخرج مبارك برئياً في شعب كان يسمع بأذنيه مقولة أنه غير مؤهل للديمقراطية دون أن يسأل: متى كنا مؤهلين للعبودية ؟
وكان لابد أن يخرج مبارك بريئاً في مجتمع ظل يستمري حكم مبارك 33 سنة وهو يردد مقولات عبيطة من عين "اللى تعرفه أحسن من اللى ماتعرفهوش " و "مبارك حرامي شبع وغيره ممكن يكون حرامي جعان .. خلينا مع الحرامي الشبعان" .. مقولات كان يرددها الشعب المصري دون أن يعي أن حزب مبارك المسمى (وطني" هو نفسه صاحب إطلاق وترويج هذه المقولات التوريثة.

وحتى الآن لا يبدو الشعب المصري بريئاً فقد صدق كل ألآعيب الساسة الذين قادوه إلى ثورة وثورة مضادة، وليس بريئاً لأنه حتى الآن يصدق الإعلام المصري وهو يقوده نحو هاوية الحياة السياسية والحقوقية والإنسانية والاقتصادية والمجتمعية.
ليس بريئاً لأن الجهل ليس دليل براءة، والقانون لا يحمي المغفلين !.

الشعب المصري ليس بريئاً لأنه صدق نفسه وهو ينام في ميادين مصر ، صدق نفسه أن ما يحدث هو إرادة جماهيرية حرة مؤسسة على وعي جمعي وفلسفة ثورية، وتلك فرية تاريخية يجب ألا يصدقها الشعب المصري الذي مسح مبارك ونظامه عقله الجمعي وإرادته الحرة فلا توجد ثورات في التاريخ بلا وعي جماهيري وإرادة حركة وفلسفة ثورية وقادة ثوريين.

وليس بريئاً لأنه قَبِِلَ ـ مع جوعه ـ أن يستعجل مد يده نحو المال الأسود الذي أُنفِق بسخاء على ثورة أخرى لتبرئة مبارك. وفي الحالتين هو مجرد شعب يبحث عن الرغيف من أية يد تمتد إليه دون أن يسأل ما مصلحة قوى رأسمالية عفنة في الداخل أو دول خارجية صاحبة وظيفة ـ ولن أقول أجندة ـ في النظام العالمي الذي يؤمِّن حياة الكيان الصهيوني في قلب الخارطة العربية ويحرس سياسات دول المنطقة من الاحتكام إلى ثقافة المنطقة وثوابتها التراثية ويمنعها من استعادة ليقتها في عصر يموج بتدخلات استعمارية عولمية في كافة الدول الطرفية المتخلفة وخاصة دول الشرق الأوسط.

مبارك هو البريء لأنه حكم شعبا جاهلا ينقاد ببلادة دون أن يسأله طوال 33 عاماً أين مشروعنا الوطني وإلام تتجه بنا عربتك الأمنية والمخابراتية؟ .

مبارك بريء لأنه استطاع أن يتحول إلى فرعون عصري مستعيداً ليس حضارة الفراعنة ولكن استتفاههم لشعبهم وتأليه أنفسهم وتسويغ ذلك على الشعب مستعينا بالكهنة. حتى أنه اقتسم مع الكهنة السلطة والثروة لدرجة سوغت له استمرار اللعبة وانتقالها لأبنائه من بعده .

الذي حدث من ثورة وثورة مضادة هو صراع الكهنة على الحكم وتغيير الفرعون الذي فرعنوه ، وما ذلك ببعيد على الكهنة وتلك لعبتهم القديمة.

والآن وجب على الشعب المصري أن يذهب إلى الصحراء المصرية ، لا ليستصلحها، ويلون وجهها بالخضار بدلاً من الصفار، وليس لينشئ مصانعه مستغلا ثروات مصر الطبيعية الوفيرة في بطن الصحراء، ولكن ليبني هرماً رابعاً بجوار أهرامات الجيزة لفرعونهم البرئ. وعلى أصحاب الأقلام والموهوبين أن يزينوا التاريخ بسيرة الفرعون البريء.