لـيـبـيـا من الفوضــى إلى التشظــي بقلم:أ. فرج محمد صوان
تاريخ النشر : 2014-10-30
لـيـبـيـا من الفوضــى إلى التشظــي بقلم:أ. فرج محمد صوان


لـيـبـيـا من الفوضــى إلى التشظــي
منذ ما يقارب من أربع سنوات والمجتمع الليبي يعاني من مخرجات ما يسمى الربيع العربي، فحدة الانقسامات والاستقطاب في النسيج الاجتماعي دفعت الى نشوب الصراعات والنزاعات القبلية والجهوية من جهة، والايديولوجية العلمانية والإسلامية من ناحية أخرى، مما ساهم في صعود نجم الاسلام السياسي وظهور حركات متشددة «كأنصار الشريعة» التي استطاعت استقطاب البعض رغم اسلوب العنف الذي تنتهجه.
تفاقم الوضع في طرابلس بسبب صراع منفصل بين قوات مؤيدة للحكومة وقوات فجر ليبيا التي تدعم المؤتمر وحكومة الحاسي وكتائب إسلامية والجيش الليبي في عملية الكرامة في بنغازي المدينة الرئيسية في الشرق.
يذكر أنه يوجد في ليبيا برلمانان وحكومتان منذ سيطرت كتائب مسلحة من مدينة مصراتة على بعد 200 كيلو متر شرق العاصمة طرابلس في أغسطس الماضي حيث فرضت انعقاد المؤتمر الوطني العام الذي انتهت ولايته وشكلت ما يسمى حكومة انقاذ برئاسة الحاسي بدلاً من مجلس النواب الجديد وحكومة الثني. اضطرت حكومة رئيس الوزراء عبد الله الثني المعترف بها دولياً إلى الانتقال مسافة تزيد عن ألف كيلومتر إلى الشرق حيث يعمل مجلس النواب المنتخب أيضا مما قسم البلاد المترامية الأطراف فعلياً.
يمثل المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته جوهر الأحدث المأساوية، فلم يكتف بالحصانة ونهب الأموال، بل ظل يمثل رقما أساسيا في المشهد الليبي، بحيث اصبحت ليبيا بسببه مقسومة وبحكومتين وبرلمانين، وفي الوقت الذي نجح في تقسيم المجتمع سياسيا، تمكن الاسلاميين والمليشيات الأخرىس بنهجهم المتطرف وأساليب العنف أن يقسموا المجتمع قبليا ومناطقياً.
لقد تجرع الشعب الليبي الأمرين من فساد الحكومات الانتقالية المتعاقبة، وما فشل آخر حكومة مقالة إلا نتاج فساد متراكم لعقود مضت، قد لا يمكن إصلاحه بسهولة، وهو الأمر الذي فاقم من المصيبة وجعل الكثير من الليبيين يبكون ماضيهم ويحلمون بعودة النظام السابق، والأمر الاخر هو أن اجتـــياح طرابلس لا يعكس بأي حال قوة «فجر ليبيا» أو الاخوان المسلمين اللذين خسروا الانتخابات الأخيرة ولا حتى صواب رؤيـــتهم، فكل الأحزاب والحركات على مدى التاريخ تحمل مبادئ معلنة براقة وتأتي غالبيتها بحلول لا تمــــت للواقع بصلة، وقد استغل هؤلاء ضعف الدولة وتصارع أركانها والأحقاد الشخصية للاعبــين الأساسيين الذي كانوا متحالفين بالأمس ومختلفين اليوم، فقفزوا بعمليتهم المدعوة بهتانا «فجر ليبيا» لواجهة الأحداث وبمساعدة ابرز خصومهم.
ومهما يكن من أمر فإن اجتماع البرلمان بطبرق لا يخلق مبررا لمهاجمة فجر ليبيا والاسلاميين لمؤسسات الدولة والسيطرة على العاصمة، واحتلالهم مفاصل الدولة بما فيها رئاسة الوزراء والمعسكرات والبنك المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط والإذاعة والتلفزيون، وليتحول البرلمان المنتخب من الشعب في بضعة ايام من مجلس تشريعي شرعي إلى مجلس مطارد في أقاصي شرق البلاد يناشد الدعم من كل وحدب وصوب. كما تحول أعضاء المؤتمر السابق إلى موظفين لدى قادة مليشيات «فجر ليبيا»، ويذكرنا ذلك بالجيش (الانكشاري) في القرن الاخير من عهد الدولة العثمانية، حيث كان يتحكم في قرارات السلطان العثماني، مع الفارق ان اعضاء المؤتمر اشد وهناً طبعا، فتصريحاتهم بأن ما جرى هو مخالف للاعلان الدستوري من جهة والإقرار بهذه المؤامرة من ناحية أخرى ومشاركة قادة فجر ليبيا فيها انما يدل على تخبطهم في الجهل السياسي وعدم قدرتهم على وضع الأمور في نصابها.
وعجبي لمن يكابر ويقول ان ما جرى تصحيح لمسار الثورة وأن اجتماع البرلمان في طبرق انقلابا على الاتفاقات والتشريعات السابقة!
الأمر الآخر هو أن تطور الأحداث في بنغازي انعكس على مزاج المؤتمر وفجر ليبيا ونواب الاسلام السياسي المقاطعين لجلسات البرلمان حيث ايقنوا أخيرًا ضرورة الحوار وعلى مضض. في الحقيقة، إن استيلاء المؤتمر وبدعم من «فجر ليبيا» على السلطة بقوة السلاح قلب الموازين وقلب الطاولة ومن عليها، وفرض امرا واقعا من ضمنه إمكانية فصل الشرق وإعادة النظر في الفيدرالية التي كانت قد قوبلت بردود افعال غير متحمسة من القوى الرئيسية في البلاد بما فيها المؤتمر نفسه.
الرأي العام يفهم ويدرك جيدا تسريبات بعض الابواق حول ما جرى ويجري، فالمناطق الغربية كانت آمنة، قبل ان تهجم عليها جحافل «فجر ليبيا»، وتدرك ما تعني كلمة المقاومة الشعبية، فمنطقيا المقاومة الشعبية تتشكل من أهالي كل منطقة وليس لها حاجة في حال عدم وجود قوات مهاجمة تزحف من مصراتة أو الزاوية وحلفاؤهم ليسيطروا على باقي المناطق، وتوقع ليبيا في هذه الحالة من التشرذم المجتمعي.
إن ما بعد يوليو 2014 لم يكن ضربا من الخيال او المبالغة، فطالما حذرت دراسات وحوارات محايدة منطقية من الوصول لحالة كهذه، ولم تكن تلك نبوءة، كما انها ليست قدرا محتوما بقدر ما هي قراءة في سياق متواصل من الفشل افضى في نهاية الأمر الى خاتمة معلومة على النحو الذي نشاهده اليوم، فقد غدت حقائق وأحداثا مأساوية يوميًا تحدث في أكثر من منطقة في ليبيا ابتداء من بنغازي مرورا بورشفانة والزاوية، وأوباري وسبها، وانتهاءًا بككلة وغريان. لقد أصبحت الحقيقة التي يحاول البعض رفضها مجسدة بدرجة كبيرة تفرض نفسها في جغرافيا ما بعد الثورة ليس في ليبيا فقط وإنما على مستوى بلدان ما يسمى بالربيع العربي.
لامناص من ان المواقف الدولية والإقليمية تجاه ما حدث ويحدث في ليبيا يخرج عن سياق المعلن، فقد غدت ليبيا والمنطقة عموما ضمن لعبة الامم السياسية وإستراتيجية دولية تتنوع اجراءاتها وفقا لمتغيرات لوجستية وعملية وقد بدأ هذا واضحا مؤخرًا حيث تبادلت الأطراف الليبية المتنازعة على السلطة توجيه الاتهامات بتلقي الدعم من جهات خارجية. ففي حين تتهم جماعة فجر ليبيا البرلمان والجيش الليبي بتلقي الدعم من مصر والإمارات، وجهت الحكومة والبرلمان الاتهام للمؤتمر وجماعة فجر ليبيا باستقبال المساعدات العسكرية من دول كالسودان وقطر وتركيا التي نفت بدورها توجيه الدعم لهم وللجماعات المتطرفة المتحالفة معهم.
ولكن كل هذه الاتهامات والانقسامات والتشظي البارز على السطح ستنتهي إن وافق جميع الفرقاء على الجلوس إلى طاولة الحوار الوطني والتوصل لوقف اطلاق النار فهم مهما اختلفوا في الرؤى والآراء شركاء في ليبيا. وعلى العكس من ذلك فإن استمروا في صراعهم الذي لن يربحه أحد لأسباب كثيرة ومعقدة فسيلقون بالبلاد في أتون حرب أهلية قبلية جهوية ليس لها أول ولا آخر.