أضواء على مقبرة اليوسيفية بالقدس الشريف بقلم د.محمد بحيص عرامين
تاريخ النشر : 2014-09-25
أضواء على مقبرة اليوسيفية بالقدس الشريف
بقلم  د.محمد بحيص عرامين
رئيس الأرشيف الوطني الفلسطيني

قد لا نجافي الحقيقة إذا ما قلنا أن ليس هنالك محرمات أمام آلة وسياسة التهويد الاحتلالية فقد شملت كل شيء البشر والحجر والشجر وحتى الهواء قاموا بتسميمه وقد وصل بهم حد التمادي إلى تدمير وتخريب قبور الموتى والشهداء خاصة في القدس ومحيطها. ولن تكون آخر فصول هذه الإجراءات التي تهدف إلى طمس المعالم العربية والاسلامية والمسيحية من هذه الديار ما جرى يوم الأحد الماضي عندما قام ما يسمى بعمال سلطة الطبيعة الاسرائيلية بهدم 20 قبراً في مقبرة اليوسيفية أو باب الأسباط. وقد جاء في تصريح للمهندس مصطفى أبو زهرة / رئيس لجنة رعاية المقابر الإسلامية أن القبور التي تعرضت للهدم بالآت ثقيلة تقع في قطعة أرض هي امتداد لمقبرة اليوسيفية وقد دفن فيها مئات من الشهداء الذين استشهدوا خلال حرب 1967 في معركة الدفاع عن القدس. إن جريمة تخريب وهدم الأضرحة والقبور في مقبرة مأمن الله ومنع الدفن في الجزء  الجنوبي والمحاذي لسور القدس الشرقي في مقبرة باب الرحمة هي أمثلة حية على المخططات الاسرائيلية ذات الأهداف الواضحة في الوقت الذي تقوم به سلطات الاحتلال بزرع قبور وهمية بإدعاء أنها يهودية في ظاهر المسجد الأقصى المبارك من جهة الجنوب . لذا من الضروري إلقاء الضوء على مقبرة اليوسيفية لتعريف القارئ بفداحة ووحشية ما يجري من انتهاكات وجرائم خطيرة فاقت كل التصورات .  
لم تحظ هذه المقبرة باهتمام الكتّاب والمؤرخين مقارنة بمثيلاتها في بيت المقدس، على الرغم من كبر مساحتها، وعظم مكانتها لما تضم في باطنها من رفات الشهداء والعلماء والمجاهدين والصالحين،  وقد يحسبها المرء أنها امتداد طبيعي لمقبرة "باب الرحمة"، حيث تقع إلى الشمال منها، ويفصلهما عن بعضهما البعض الطريق الرئيسي الصاعد إلى باب الأسباط أحد أهم الأبواب الرئيسية للقدس القديمة. ومن المرجح أنها أقيمت في العهد الأيوبي، وقد سميت "باليوسفية" نسبة إلى يوسف بن شادي -آي صلاح الدين الأيوبي- وهي المقبرة التي تقع شمال باب الأسباط، حيث بركة الماء التاريخية التي كانت تقع في الجزء الجنوبي منها تتبع للمدرسة الصلاحية، وهي عبارة عن كنيسة ودير يقعان على يمين الداخل من باب  الأسباط أو باب (الأسود)، ويتميز هذا البناء  بكونه مزيجاً من النمط المعماري الروماني والإسلامي، ولا تزال فيه نقوش قرآنية منذ العهد الصلاحي وقد  أعيدت للكنيسة زمن جمال باشا.

وقد ذكر محمد بن يوسف الكندي في كتابه (ولاة مصر) أن أبا الحسن علي بن الإخشيد والذي توفي في عام 355هـ حُمل في تابوت إلى بيت المقدس، ودفن مع أخيه ووالده بباب الأسباط. ويشير تاريخ الدفن هنا إلى عهد الدولة الفاطمية في مصر، ولم تكن هنالك مقبرة تعرف بهذا الاسم. ويمكن الاستنتاج في هذا المقام أن المقصود، هو مكان قريب من باب المدينة الشرقي والمعروف بباب الاسباط، ويرجح أن تكون المقبرة المقصودة هي "باب الرحمة"، كونها تعود إلى الحقبة العمرية، مما يؤكد على أن إنشاء مقبرة باب الأسباط أو اليوسفية يعود إلى العهد الصلاحي، وأنه جرى تطويرها ربما زمن المماليك فيما بعد. وذلك على الرغم من أن بعض المؤرخين يرجعون إقامتها إلى قانصواه اليحياوي كافل الديار الشامية زمن المماليك، والذي يقال بأنه عمّر مدفناً له ولأولاده شمال مقبرة الرحمة، فإذا صحت هذه الرواية فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو، أولاً: لماذا سميت باليوسفية؟ وثانياً: لماذا لا يوجد أي أثر لهذه التربة على الإطلاق، ولم تذكر من قبل الرحالة الأوائل من العلماء والمؤرخين؟. لهذه الأسباب وغيرها فإنه من المرجح بأن تلك المقبرة أقيمت زمن الحقبة الأيوبية. وتجدر الإشارة إلى أنه تم تمويل إنشاء جدران استنادية مؤخراً  لمقبرة اليوسفية بدعم من الجمهورية التركية.
تقع مقبرة اليوسفية، أو مقبرة باب الأسباط، كما هي مشهورة على ألسنة الناس، على ربوة مرتفعة تمتد من باب السور الشرقي (باب الأسباط) إلى زاويته الشمالية، ومنها إلى ناحية الشرق بحوالي 35-40 متراً على وجه التقريب، وتلتقي حدودها مع الشارع العام المسمى (طريق أريحا)، والذي ينحدر جنوباً إلى أن يتقاطع مع الشارع الصاعد إلى باب الأسباط ، وذلك بطول حوالي 230 متراً، منها 50 متراً هي طول قطعة الارض التي يقع في طرفها الشمالي النصب التذكاري لشهداء حرب عام 1967م، وهي أرض خلاء حرجية تخلو من أية قبور، أما المساحة المتبقية فطولها 180 متراً على وجه التقريب، وهو الطول الفعلي للمقبرة، وتكون بذلك قد احتلت رقعة واسعة من الأرض على شكل شبه منحرف، حيث تتسع في الجنوب ليصل عرضها حوالي105 متراً، وتضيق كلما اتجهنا ناحية الشمال. واليوسفية ليست ملاصقة للسور، كما هو الحال بالنسبة لمقبرة "باب الرحمة "، بل يفصلها عن السور مسافة تتراوح بين 10-15 متراً، ويستخدم هذا الفضاء كطريق واسع ينحدر إلى باب الأسباط، تاركاً المجال لأعداد كبيرة من الناس، وخاصة المصلين للوصول إلى المسجد الأقصى لأداء الصلاة أو الوصول إلى الأحياء المجاورة له في البلدة القديمة.
وللمقبرة اليوسفية بوابتان؛ أحداهما في الشمال بالقرب لما يعرف عند الناس بسوق الجمعة، حيث كان يجري في هذا المكان بيع وشراء الأغنام والدواب الأخرى أيام الجمع، قبل أن يتم إلغاؤه من قبل بلدية الاحتلال، وتحويله إلى مكب للنفايات ـ
وترتبط البوابتان الشمالية والجنوبية بطريق مرصوفة بالحجارة البيضاء بعرض حوالي 4 أمتار، بحيث تفصل المقبرة إلى نصفين؛ غربي و شرقي.
من خلال النقوش الحجرية عند البوابتين يتضح بان ثلاث جهات قد اشتركت في تعمير وترميم المقبرة وتجديدها، وهي؛ دولة الإمارات العربية المتحدة، الجمهورية التركية، وورثة المرحوم مصطفى العلمي، جزاهم الله كل خير.
وان المتجول في تلك المقبرة التاريخية يلاحظ بأن القبور الجماعية (الفستقيات) تخضع لعمليات ترميم وتجديد بشكل مستمر، بينما القبور الفردية، خاصة القديمة منها، فبعضها بحالة جيدة ، غير أن البعض الآخر بحالة سيئة، يصعب معها قراءة النصوص المحفورة على شواهدها، أو أنها بدأت تتآكل وتتهدم بفعل القَدِم وعوامل الطقس وقلّة الاعتناء بها.
أما المعالم الرئيسية للمقبرة فأولها النصب التذكاري لشهداء حرب عام 1967م والذي أقيم لتخليد ذكرى الشهداء الذين ارتقوا إلى العلى في معركة الدفاع عن القدس في حرب العام 67م، من المجاهدين من أبناء البلد، والجنود الأردنيين الذين استبسلوا في الدفاع عن المدينة، وخاصة في المناطق المحيطة بالنصب، حيث كانت معركة (المتحف الفلسطيني) من أشرس المعارك التي خاضها نفر قليل من الجنود والمناضلين ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي الغازية، والتي استخدمت كافة أنواع الأسلحة الفتاكة، مما اوقع عدداً كبيراً من الشهداء وقد بقيت جثث الشهداء في العراء تحت أشعة شمس حزيران الحارقة لأيام عدة، قبل أن تسمح سلطات الاحتلال للأهالي والمتطوعين بدفنهم في مقبرة جماعية، على يمين الداخل إلى اليوسفية، وإلى الشرق قليلاً من مدفن آل الدجاني،

أقيم النصب التذكاري على ثلاث مساطب حجرية (درجات حجرية)، وقد نقش على واجهته الشمالية في سبعة أسطر ما نصّه:
بسم الله الرحمن الرحيم (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) ذكرى
شهداء معركة الشرف في القدس في 27 صفر سنة 1387 هـ – 5 حزيران سنة 1967م.
ومن الجدير بالذكر هنا، أن القائد الشهيد فيصل الحسيني، اعتاد زيارة هذا النصب في مناسبة إقامته في كل عام، وفي مناسبات أخرى، خاصة في الأعياد الرسمية، هو وجمع من أعيان وشخصيات المدينة، ووضع أكاليل الزهور على النصب التذكاري، وذلك قبل وفاته (رحمه الله) في حزيران 2001م.
إن إقامة مقبرة اليوسفية في العهد الأيوبي كما أسلفنا، لم تكن إلا استجابة لحاجة هذا العصر الذهبي الذي شهد تحرير القدس وفلسطين من أيدي الفرنجة الأوروبيين، على أيدي القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي ومن جاءوا بعده من ذريته ليكملوا مهمة الدفاع عن هذه الديار الطاهرة. ولقد سقط العديد من المجاهدين من جنود صلاح الدين الذين أتى بهم من المشرق والمغرب، ومن كل بقاع العرب والمسلمين في حربهم مع الفرنجة، فكان لا بد والحالة هذه من إقامة مقبرة بجوار المسجد الأقصى المبارك لدفن جثامين الشهداء الأبطال في ثراها، وفي مقابر أخرى في بيت المقدس، خاصة مقبرة المجاهدين أو مقبرة " باب الساهرة"، التي أمر كذلك صلاح الدين بالدفن فيها والتي تقع شمالي المدينة. وقد استمر الدفن في هذه المقابر منذ ذلك الزمن وحتى يومنا الحاضر. لذا فإن مقبرة اليوسفية كغيرها من مقابر بيت المقدس، تضم في ثراها جثامين العديد من الشهداء الأبرار، ومن العلماء والفقهاء والقضاة والصالحين، ومن أعيان ووجهاء المدينة وما حولها الذين ساهموا في نهضة الأمة في الحقول التربوية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وفي الإصلاح بين الناس .
إن المتجول  في أرجاء المقبرة، وفي شطريها؛ الشرقي والغربي، يجد عدداً كبيراً من شواهد القبور والنقوش الحجرية التي تدل على أن ساكنيها من الشهداء الأبرار.
 
وعن أهمية المقبرة ومكانتها فقد اكتسبت ، كسائر مقابر بيت المقدس، أهمية خاصة بسبب موقعها في بيت المقدس، وبالقرب من مسجدها المبارك الذي بارك الله فيه وبارك ما حوله بنصّ قرآني صريح.
وقد يكون أقدم نصّ للدفن في مقبرة اليوسفية، هو ما ذكره صاحب كتاب (ولاة مصر)كما ذكرنا سابقاً، هذا من الزاوية التاريخية لمقبرة اليوسفية، أما ما يمكن الوقوف عليه في زماننا هذا، والذي أكسب المقبرة مكانة خاصة عند سكان هذه الديار المقدسة، فيكمن في غناها بالمدافن العائلية الكبيرة والبارزة والتي يزيد عمرها عن قرن من الزمان، وهي تعود لعائلات مقدسية تمتعت بمكانة سياسية واجتماعية واقتصادية ليس فقط في بيت المقدس، وإنما في كامل الديار الفلسطينية. ولعل هذا ما جعل المقبرة غنية بأعداد الشهداء، والأعيان، والصالحين، والمربّين، والقضاة، والأطباء، والشيوخ .