الضمير الأنا الأخلاقيّ عند الإنسان بقلم:الدكتور سامي الشيخ محمد
تاريخ النشر : 2005-12-14
الضمير الأنا الأخلاقيّ عند الإنسان

الدكتور سامي الشيخ محمد

مبحث الضّمير من مباحث الفلسفة الأخلاقيّة ، فثمّة تعريفات ومترادفات فلسفيّة لمعنى الضّمير ، فالضّمير بوصفه الأنا الأخلاقيّ في الإنسان ، أو الأنا الأعلى بلغة التّحليل المدرسيّ للشّخصيّة ، مركز إصدار الأحكام الأخلاقيّة المعياريّة على أفعال وتصرّفات الإنسان ، ما تحّقق منها أو ما هو في طريقه للتّحقّق .

ولعلَّ من النّافع التوقّف عند أبرز التّعاريف الفلسفيّة للضّمير ، فتعريف المعجم الفلسفي له بأنّهُ :" .. خاصيّة العقل في إصدار أحكام معياريّة تلقائيّة ومباشرة على القيمة الأخلاقيّة لبعض الأفعال الفرديّة المعيّنة . وحين يتعلّق هذا الضّمير بالأفعال المقبلة فإنّهُ يتّخذ شكل صوت يأمر أو ينهى ، وإذا تعلّقَ بالأفعال الماضية فإنّهُ ضمير التكلّم ." [ د. وهبة ، مراد ، المعجم الفلسفي ، طبعة ثالثة ، دار الثّقافة الجديدة ، القاهرة ، 1979، ص247 ].

ومن التّعاريف الفلسفيّة للضّمير بأنّهُ : " .. خاصّة يصدر بها الإنسان أحكاماً مباشرةً على القيم الأخلاقيّة لأعمال معيّنة ، فإن تعلّقَ بما وقع ، صاحبه ارتياح أو تأنيب ، وإن تعلّقَ بما سيقع كان آمراً أو ناهياً ، وقد عني به الحدسيّون وعدّوه قوّة فطريّة تدرك الخير والشّرّ حدسياً من غير خبرةٍ سابقة ، وأنكر الطّبيعيّون ذلك ورجعوا به إلى التّجربة ، وربطوا الحكم على أخلاقيّة الأفعال بنتائجها . " [ تصدير الدكتور مدكور ، إبراهيم ، المعجم الفلسفي ، مجمع اللغة العربيّة ، جمهوريّة مصر العربيّة ، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية ، القاهرة ، 1983، ص، 110 ] .

وفي معجم علم الأخلاق الضّمير: " مقولةٌ من مقولات الإيطقا ، تدلُّ على قدرة الشخصيّة على القيام بمراقبة الذّات الأخلاقيّة ، وعلى الصّياغة الذاتيّة المستقلّة لواجباتها الأخلاقيّة ، ومطالبة نفسها بتأديتها ، وإعطاء تقييم ذاتي لما قامت به من تصرّفات ، وأحد تجلّيات وعي الذات الأخلاقيّ عند الشّخصيّة ، وقد لا يتجلّى الضّمير في صورة إدراك عقلي لقيمة الأفعال الأخلاقيّة ، فقط، بل وفي صورة معاناة عاطفيّة ، كما في الشّعور بتأنيب الضّمير ، أو في أحاسيس " راحة الضّمير" الإيجابيّة . وعليه ، فإنَّ الضّمير هو وعي الشّخصيّة الذّاتي لواجبها ومسئوليتها تجاه المجتمع ، ولكن لهذا الوعي شكلاً خاصّاً ، بحيث يتبديان واجباً ومسئولية للإنسان تجاه ذاته ." [ كون ، ايغور ( المشرف )، سلّوم ، توفيق (المترجم) ، معجم علم الأخلاق ، دار التقدم ، موسكو ، 1984، ص 248] .

أمّا في الموسوعة الفلسفيّة السّوفيتيّة فالضّمير :" مركّب من الخبرات العاطفيّة القائمة على أساس فهم الإنسان للمسؤولية الأخلاقيّة لسلوكه في المجتمع ، وتقدير الفرد الخاص لأفعاله ويلوكه . وليس الضّمير صفةٌ ولاديّة ، إنّما يحدّده وضع الإنسان في المجتمع ، وظروف حياته ، وتربيته ، وهكذا . ويرتبط الضّمير ارتباطاً وثيقاً بالواجب ، ويشعر المرء ـ بوعيه بأنّه أنجز واجبه تماماً ـ بأنّهُ صافي الضّمير ، أمّا انتهاك الواجب فيكون مصحوباً بوخزات التأنيب . والضّمير ، في استجابته الإيجابيّة لمتطلبات المجتمع ، قوّة دافعةٌ قويّة للتّهذيب الأخلاقي للفرد " .[ لجنة من العلماء والأكاديميّين السّوفياتيّين ، بإشراف ، روزنتال .م ، ويودين.ب ، ترجمة ، سمير كرم ،الموسوعة الفلسفية ، دار الطّليعة ، بيروت ، الطبعة الرابعة، 1981 ، ص ، 282 ].

وأمّا في الموسوعة الفلسفيّة العربيّة فثمّة تعاريف ومترادفات للضّمير كالوجدان ، الوعي الأخلاقي ، المعرفة الباطنيّة للعواطف والأحاسيس والمشاعر ، الشّعور ، السّريرة ..الخ : " …ترسّخت كلمة ضمير للدّلالة على الوعي الأخلاقي في الموسّعات ، والاستعمال اليومي ، إذ نقول : رجل صاحب ضمير ، افعل بحسب ضميرك ، أنَّبَهُ ضميرهُ ، إلاَّ أنَّ كلمة وجدان شائعة هي أيضاً في الاستعمال للدّلالة على تلك الحالات عينها ، فنحن نقول : رجلٌ صاحب وجدان .. الضّمير هو ، في اللّغة المستور ، فقد " أُطلِقَ على العقل لكونهِ مستوراً عن الحواس ، ( أبو البقاء ، " الكلّيات " –3) 135) ، يدل أيضاً على المضمر في النّفس ، الموجود فعلاً لكن مستور ، من هنا تنصبُّ مقاربة للضّمير بأنّهُ المستور من العواطف والنّوايا الّتي تظهر عند الحاجة أو الحاجز . وقال قدماؤنا بأنَّ الضّمير باطن الإنسان ، وما يخفى في السّر ، أو السّريرة ، أو الصّدور ، وبأنّهُ يعني السّرّ ، وداخل الخاطر " ( ابن منظور ، ج4، 491) . .. هو الوعي الأخلاقي ، والشّعور المميّز بين الخير والشّرّ ، ومحاكمة الذّات ومحاسبتها ، ومراقبتها وفق المعايير ، في كتب التّعامليّة والواجبة . الضّمير هو بنية الانفعالات والعواطف ، مع الأحكام والمعايير ، الّتي تمسّ قيمة عمل نفذّتُهُ أو أقوم به … " [ د. زيادة ، معن ،(رئيس التحرير) الموسوعة الفلسفيّة العربيّة ، معهد الإنماء العربي ، المجلّد الأوّل ، الطبعة الأولى ، معهد الإنماء العربي ، بيروت ، 1986 ، ص 543، ص 544 ] .

ممّا تقدّم ذكره من تعاريف ومعاني فلسفيّة وأخلاقيّة للضّمير ، بوسعنا القول : بأنَّ الضّمير هو الكيان الدّاخليّ للإنسان ، متمثّلاً في الوجدان المتعالي ببعديه الشّعوريّ والعقليّ ، فهو الجانب الحسّاس من الإنسان ، وهو القوّة الأخلاقيّة الباطنيّة فيه ، هذهِ القوّة منطلق التّغيير الأخلاقيّ والإنسانيّ الدّاخليّ والخارجيّ ، الجوّانيّ والبرّاني بآن معاً .

وباعتبار الضّمير قوّة جوّانيّة أخلاقيّة ، فإنَّ السّلب وظيفتهُ الأساسيّة في تقويم تصرّفات وأفعال الإنسان وأفكاره الدّاخليّة ، نعم الضّمير سلطةٌ سالبة ، لعلّة قدرته على تجاوز الآثار النّفسيّة والأخلاقيّة والسّلوكيّة ، النّاجمة عن القيام بتصرّفاتٍ وأفعالٍ شائنة ، أو التّفكير بالقيام بأفعالٍ تتعارض مع المبادئ والقيم والمفاهيم الأخلاقيّة الّتي يتكوّن منها الضّمير . هذهِ السّلطة سالبة كونها قادرة على الهدم والبناء النّفسيّ الأخلاقيّ في وقتٍ واحد ، أما القدرة على الهدم فتتمثّل في إحساس الإنسان ، ووعيهِ بطبيعة الأفعال الّتي يقوم بها ، أو ينوي القيام بها ، هذا الشّعور والوعي ، أوّل خطوات عمل الضّمير الّتي يتلوها الإحساس بالنّدم ، فالصّراع الدّاخليّ الهادف إلى تخليص الإنسان من ربقة الشّعور بالإثم ، فإعادة اللّحمة النفسيّة الأخلاقيّة للذّات ، الّتي غالباً ما يكون الإنكار والرّفضُ السّمة الأبرز لفعل السّلب لسلطة الضّمير ، وتكون التّوبة الخطوة الأولى في البناء ، وتحقيق وحدة الذّات ، هذه الوحدة تحقّق التّوازن النّفسيّ والأخلاقيّ لشخصيّة الإنسان ، والشّعور بالرّضى والسّرور .

بهذا المعنى يتّضح المراد من القول بأنَّ سلطة الضمير سلطة هدم ، هدمٌ للإثم والممارسات الأخلاقيّة الشّاذّة ، وبناء بناء للشّخصيّة بأبعادها النّفسيةّ والأخلاقيّة والاجتماعيّة والدّينيّة والجماليّة ، بناءً سليماً متوازناً يفضي للأمن والطّمأنينة والسّعادة ، والسّؤال : هل الضمير معصومٌ عن الخطأ ؟ . انقسم الفلاسفة بصدد الإجابة إلى قائلين بنعم ، وقائلين بلا ، فمنهم من قال بأنَّ أحكام الضّمير ، أحكامٌ مطلقة الصّواب ، وبالتّالي فهي معصومةٌ عن الوقوع في الخطأ . ومنهم من أنكر هذه العصمة ، بذريعة تأثّرهِ بالقيم والمبادئ الأخلاقيّة والتّربية الاجتماعيّة ، والأهواء الشّخصيّة .

أمّا نحنُ فنقول بضرورة توفّر جملةٍ من الشّروط لتحقّق العصمة ، أهمّها : أن تكون القيم والمبادئ والمفاهيم الأخلاقيّة ، التي تربّى عليها الإنسان وتشكّل منها أناهُ الأخلاقيّ سليمةً أخلاقيّاً ، كذلك أن يكون الضّميرُ راشداً ، فللضّمائر أعمارٌ كأعمار البشر ، منها الضّمير الجنين ، الوليد ، الطّفل ، الشّابّ ، الرّاشد ، فالكهل . أهمّها الضّمير الرّاشد ، الّذي يمتازُ بالقدرة على ضبط وإخضاع فكر وسلوك الفرد لسلطتهِ إخضاعاً مباشراً ، يحول دون اقترافه الإثم والمعصية والخطيئة . ليس هذا وحسب ، بل له المقدرة على إنقاذ صاحبه ، من ارتكاب الآثام والمعاصي ومنع حدوثها في المستقبل ، فيرتقي بذلك لمرتبة المخلّص ، ويجعلهُ موضع التّقدير والاحترام الشّخصيّ والاجتماعيّ .

نعم الضّمير الرّاشدُ يُصدرُ أحكامهُ وفاقاً للمبادئ والقيم والمفاهيم الأخلاقيّة الّتي تربّى عليها ، فبين الإجازة والرّفض ، والتّبرئة والإدانة ، وفرض العقوبات الشّخصيّة ، يمارس الضّمير سلطته الحرّة من كلّ قيد خارجيٍّ خارج تلك المبادئ والقيم والمفاهيم الأخلاقيّة .

نعم فامتلاكُ الإنسان ضميرٌ راشدٌ سليم النّشأة والتّكوين ، أمارةٌ على بلوغ الشّخصيّة ، مستوى أعلى من التطوّر الأخلاقيّ والوعي الذّاتيّ الّذي يُحرّر الإنسان من سلطة العالم الخارجيّ الزّائف من حوله ، فتغدو شخصيّتهُ مكتملة البناء والنّضوج ، في النّواحي العقليّة والنّفسيّة والأخلاقيّة والدّينيّة والجماليّة .

من ناحيةٍ أخرى يستدعي الحديثُ عن الضّمير الفرديّ ، نوعاً آخر من أنواع الضّمير هو الضّمير الجمعيّ ، متمثّلاً بضمير المجتمع ، والنّظام السّياسيّ عبر الدّولة ، فثمّةَ دولٌ لا تمتلكُ ضميراً راشداً ، فتجيء التّشريعات والنّظم والقوانين الّتي تسنها ، حيال مواطنيها ومواطني الدّول الأخرى وحكوماتهم ، فظّةً وغير متوازنةٍ أخلاقيّاً ، الأمر الّذي يتسبّب في حدوث إرباكاتٍ سياسيّة أمميّة في العلاقات الدّوليّة ، بين دول سياساتها أخلاقيّة إنسانيّة ، وأخرى سياساتها سيّئةٌ عدوانيّة ، فما يسمّى بالضّمير الدّوليّ المفترض أن يكونَ مؤسّساً على أسسٍ فلسفيّةٍ أخلاقيّةٍ سليمة ، يعدّ لازمةً لمنع حدوث انتهاك وطغيان بعض الدّول المارقة ضدّ الدّول المستضعفة .

نعم ثمّة دول مارست وتمارس انتهاكاتٍ إنسانيّةٍ وأخلاقيّةٍ بحقّ دول ومجتمعات وأفراد في الماضي والحاضر ، بفعل امتلاكها ضميراً طائشاً فاسداً ، مؤسّساً على مفاهيم وقيم ومبادئ تحاكي شريعة الغاب ، فتجيز ممارسة العنف والعدوان ،وصنوف القهر والاغتصاب ، والقتل والتّعذيب ، والاستيلاء على أراضي الغير ، ونهب الثّروات في أرجاء واسعة من العالم ، دون رحمةٍ أو شفقة ، عين ما فعله ويفعلونهُ الغربيّون والصّهاينة بحقّ العديد من دول العلم وشعوبه ، كما هو عليه الحال حيال العراق وفلسطين وغيرهما ، فما لم تمتلك بعض الدّول الغربيّة والأوروبيّة بزعامة الولايات المتّحدة الأمريكيّة ، ضميراً أخلاقيّاً سليماً من الأمراض والسّموم والفساد ، فإنَّ هكذا ضمير غير مؤهّلٍ كي يكون حاكماً أو حَكماً نزيهاً معصوماً عن الخطأ .

[email protected]