صدام.. و(سيرك) المحاكمة! بقلم: محمد سعيد محفوظ
تاريخ النشر : 2005-12-10
تذوق صدام لأول مرة خلال محاكمته طعم الظلم، كبلته نفس الأصفاد والأغلال التي خنقت في عهده أبناء العراق، وجعلته يتعرف على شعور من سلبت إرادته وأهدرت قيمته.. أما ما عدا ذلك فلا توجد في المحاكمة أي فائدة تتعلق بإنفاذ قانون أو محاسبة مجرمين، فلا تفنيد موضعي لما وصف بالجرائم، ولا تفسير لما قيل عن عدم شرعية هيئة المحكمة، ولا توضيح لما تردد عن عدم استقلالية القضاة، أما بقية الفعاليات فعبارة عن نص مسرحي مرتجل، صيغ سلفاً ـ كما هو معروف ـ بأيد أمريكية، أرادت للعالم أن (يتسلى) على مادة إخبارية جوفاء، لا ترقى لمستوى (الطرفة)!!

والمحاكمة لم تفقد شرعيتها لأنها تألفت في ظل العدوان الأمريكي على العراق فحسب، لكنها تمارس عدم الشرعية في سلوكها القمعي المغلف بذوق متكلف مع كل فرد داخل القاعة ـ باستثناء رجال الأمن الأمريكيين وممثلي الادعاء ـ إذ كيف تتوفر للمتهم ـ بغض النظر عن سمعته وموقف الرأي العام منه ـ فرصة المحاكمة المنصفة بغير أن يحظى محاموه بالوقت الكافي للتعبير عن وجهات نظرهم القانونية، وكيف يحرم رجل قانون ـ أياً كانت جنسيته ـ في ساحة قضاء من أن يفتح فمه، وماذا لو استعانت هيئة المحكمة بشاهد محوري في القضية غير ناطق بالعربية، هل سترفض الاستماع لشهادته؟ وهل رفضت لجنة التحقيق البرلمانية الإيطالية الاستماع لشهادتي خلال الصيف المنصرم حول اغتيال الصحفية إيلاريا آلبي لأنني لا أتحدث الإيطالية؟

لقد خيب القاضي الكردي زركار أمين ظني عندما تعاطي بهمجية مقنعة مع هيئة الدفاع عن صدام حسين، وفشل في الاختباء خلف ابتسامته لإخفاء ارتباكه بعد أن واجهه المحامون بنصوص القانون التي تتعارض قطعياً مع ما يجري في المحاكمة، وظهر للعيان ما دارت حوله الشكوك منذ (أسر) صدام ورجاله، وصار مؤكداً أن المحكمة قد تلقت الحكم بإعدامهم جميعاً من البيت الأبيض قبل عدة أشهر، وإنما تؤدي على مضض دوراً كلفت به لإسكات المطالبين بمحاكمة دولية للنظام العراقي..

إن من جوهر عمل القضاء أن يضمن للمتهم فرصته الكاملة في الدفاع عن نفسه باستخدام كافة الوسائل، وإذا كان القاضي زركار قد أنهك المتهمين ومحاميهم في جلستي المحاكمة الأولى والثانية للتثبت من هوياتهم وإدراجها في محضر المحاكمة ـ وهو حق من أبسط حقوقه تتأسس عليه كل الإجراءات اللاحقة ـ فقد كان من حق المحامين في المقابل أن يتثبتوا من شرعية المحكمة قبل بدء الجلسات اللاحقة، وأن يقتنعوا بأهليتها للبت في مصائر موكليهم، ولم يكن من العدل أن يتذرع القاضي بضيق الوقت أو جهله باللغة الإنجليزية أو غياب الترجمة الفورية كي لا يستمع إلى دفوع موضوعية تطعن في شرعية واختصاص واستقلالية المحكمة من الأساس..

ولا يمكن في أي جلسة قضائية أن يخصص وقت محدد لمحام أو شاهد من أجل أن يستعرض ما لديه من معلومات أو أفكار، وأذكر أنني شهدت بصفتي الصحفية عدداً من جلسات محاكمة الدكتور سعد الدين ابراهيم في محكمة النقض المصرية، وكان بعضها يمتد من الصباح إلى غروب الشمس، وقد تمتع المحامون خلالها بفرصة الحديث من دون تحفظات من قبل القضاة على الوقت أو على الانحراف عن جوهر القضية في بعض الأحيان إلى اتجاه آخر، قد يبدو للمحكمة أو الحاضرين غير ذي صلة، لكن الدفاع قد يبني عليه فكرة لاحقة تحتاج إلى بعض الوقت والشرح لاستخلاصها..

وقد احتج القاضي زركار أكثر من مرة على انعطاف المتحدثين نحو السياسة، مدعياً بأن المحاكمة ليست سياسية، وأن القضية لا علاقة لها بالسياسة!! ولا أدري من كان يخدع القاضي بالضبط، فإذا لم تكن المحاكمة سياسية، لماذ إذن يجري بث وقائعها إعلامياً على تليفزيونات العالم؟ ولماذا استثمرت منذ البداية في عدة مناسبات سياسية، تارة لتحسين صورة الاحتلال الأمريكي، وتارة أخرى للتشويش على الانتهاكات الجسيمة بحق أربعة عشر ألف معتقل عراقي في سجن (أبو غريب)، وتارة ثالثة لتغطية الفشل الذريع الذي لحق بخطة بوش الطموحة في إبادة الإرهاب والكشف عن الأسلحة النووية التي خبأها النظام العراقي السابق؟!!

لا أنكر أن رباطة جأش صدام أذهلتني، لقد بدا عليه في بعض الأحيان عدم الاكتراث بما يجري، كما لو كان يثق بأنه سينجو حتماً من ورطته، وأن انعدام الأساس القانوني للمحاكمة، وخلو الشهادات التي عرضت حتى الآن من أي إدانة مباشرة له سوف يكونان كافيين لإثبات براءته، ولم يفته أن يدغدغ مشاعر المسلمين بالمصحف المقدس بين يديه، والهتافات التي كان يطلقها بين حين وآخر..!

لكن القاضي زركار نفسه لم يكبح رغبته في المزايدة، عندما قاطع وزير العدل القطري السابق خلال مداخلته حول شرعية المحكمة في الجلسة الثالثة، معترضاً على وصفه العراق بأنها صارت أمريكية، وأن الحكومة الانتقالية ليست مستقلة، وحتى طه ياسين رمضان ـ الذي كان وزميله برزان التكريتي طبق الوليمة الرئيسي في تلك الجلسة ـ زايد على رئيسه صدام، وقال أنه لم يشرفه بأي مهمة في الدجيل، وإلا لكان قد لبى طلبه في الحال!! وكان لافتاً للنظر ومبعثاً للتقدير والدهشة في آن مشهد نهوض هيئة الدفاع وزملاء صدام في القفص عند دخوله القاعة، بوصفه "الرئيس الشرعي" الذي ما زال ينبغي احترامه!

وبرغم أن الشهود قد ذكروا عشرات الأسماء والتواريخ، إلا أن شهاداتهم تلك لم تحظ من كل المتابعين بالمصداقية الكاملة، ربما نتيجة لانفعالات بعضهم المبالغ بها، وتظاهر البعض الآخر بالبكاء أكثر من مرة، وكان واضحاً عدم ارتباك الشاهد المعروف الوحيد أمام هيئة المحكمة أحمد حسن محمد بما دفع العديد من المعلقين للقول بأنه ربما لقن سلفاً بعضاً من المعلومات التي سردها وتدرب على الإدلاء بها، وضاعف من تلك الشكوك التماسه الخروج من القاعة لفترة استراحة، فسرها صدام بأنها كانت لمراجعة بيانات شهادته، فيما استنكر تجريده من أوراقه، مما حمله على تدوين ملاحظاته على كف يده!! وهو إهدار لحق من حقوق المتهم، فضلاً عن إهانة كرامته قبل إدانته، وهو عقاب يصدر من هيئة المحكمة والشرطة القضائية التي تتبعها قبل انتهاء المحاكمة، إلا إذا كانت النية مبيتة لإخراسه، وإعدامه من دون أن ينطق بكلمة واحدة..

إن صدام يجب أن يحاكم، ككل الحكام العرب الذين طغوا وافتروا واغتروا بسلطانهم وحاشيتهم، لكن محاكمته يجب أن تكون حقيقية، لا مزيفة، تندفع بجموح نحو حكم الإعدام، ولا أدري في الواقع كيف لم يدرك العراقيون بعد حتمية وضرورة انتقالهم إلى زمن جديد لا مكان فيه للثأر والانتقام والإعدام، وإذا كان القدر قد أوقع صدام في قفص الاتهام، فليحاكم بعدل تحت قبة محكمة شرعية، وأمام قضاة مستقلين، وبحضور محامين وشهود أمناء، تتوفر لهم الحماية الكافية، فالتاريخ سوف يضع من ظلم صدام مع صدام في صفحة واحدة، هي صفحة المذنبين في حق العدالة وسيادة القانون..

إنني أطالب بإحالة صدام حسين وكل من (أسر) من أقطاب نظامه إلى محكمة دولية، ذات مظلة قانونية لا مجال فيها للتحيز أو التأثر بمواقف شخصية، ولديها قدرات أمنية وتقنية تكفل لها دراسة قضايا انتهاكات صدام على نحو دقيق غير ملتبس، ومن ثم تصدر حكماً لا ينغص الضمير العالمي، لا سيما أن جرائم الإبادة التي يعتقد أن صدام قد أمر بارتكابها، هي من صميم عمل المحاكم الدولية، وليس المحاكم المحلية أو الخاصة..

ونأمل في أن نرى يوماً جورج بوش وأعوانه في نفس المقاعد التي يجلس عليها صدام ورجاله لمحاكمتهم، ووقتها لن تختلف كثيراً شهادة الشهود، بما تحتويه من أبشع الجرائم والانتهاكات، إن لم تكن أشد فظاعة..

محمد سعيد محفوظ

إعلامي مصري

[email protected]