العـقاد.. وأول تهديد بالقتل! بقلم: محمد سعيد محفوظ
تاريخ النشر : 2005-12-10
العـقاد.. وأول تهديد بالقتل! بقلم: محمد سعيد محفوظ


كان مصطفى العقاد يتوقع لحياته ذلك المصير.. لقد قال لي ذات مرة أنه كابد من الإسلاميين المتشددين أكثر مما كابد من اليهود المهيمنين على صناعة السينما في هوليوود! وكانت جريمته في نظرهم أنه اجترأ على رسول الإسلام والمقدسات، فتوعده زعيم جماعة (المسلمين الأحناف) في أمريكا بالقتل!! وحذره مكتب التحقيقات الفيدرالية من أن أعماله تستفز المسلمين السود!! واعتبره المسلمون الآسيويون في بريطانيا أسوأ من سلمان رشدي! وأرغم على الخضوع لحماية اسكوتلانديارد..!! لقد كان يعلم أن حياته في خطر، وأن شبح التعنت الديني يلاحقه.. لكنه لم يتوقع مطلقاً أن تجري أحداث المشهد الأخير في حياته على ذلك النحو المأساوي!

في ربيع العام 2000 التقيته في أبوظبي، ودار بيننا حديث طويل، قبل أن يحل ضيفاً على إحدى برامجي التليفزيونية، كان العقاد وقتئذ يحصد نجاح سلسلة أفلام الرعب (هالوين) أو (أعياد القديسين) ـ التي أنتج منها نحو سبعة أجزاء خلال ربع قرن، وترك إنتاج فيلمها الختامي لنجله مالك ـ ولم يكن العقاد في حاجة لأن يتزلف رجال الأعمال أو السياسة لتمويل أحلامه السينمائية، فقد كانت أوضاع شركته في هوليوود ـ وفرعها في لندن ـ مستتبة، وكانت خزانتهما عامرة بالأرباح، لكنه كان يؤمن بأن على الأنظمة الإسلامية أن تؤدي ضريبة بقائها لعقود على صدر الشعوب، وأن تدفع ثمن تخبطها السياسي الذي أودى بسمعة المسلمين أمام العالم، برعاية مشروعات ثقافية هادفة ـ كأفلامه ـ تصحح المفاهيم الملتبسة على الرأي العام العالمي حول الدين الإسلامي... ومن هنا كان يتردد على المنطقة العربية، حاملاً إليها الأفكار، وعائداً منها بالوعود.. الوعود فقط!!

ظل العقاد يطرق الأبواب بعناد وصبر إلى أن شاب شعره، التهمت الخلافات الداخلية والحروب مع الجيران مليارات الدولارات من أموال العرب في ثلاثة عقود، دون أن يتبقى للعقاد منها بضعة ملايين فقط للتذكير بالقائد صلاح الدين، حتى استيقظنا ذات صباح على نبأ سقوطه شهيداً بساحة غير تلك التي نذر علمه وخبرته للقضاء فيها على الجهل والعنصرية، وفيما انبرى المزايدون زاعمين بأن حلمه بنيل الدعم كاد أن يتحقق لولا انهماكه في (أعياد القديسين)، وجدتني أفتش في خزانة شرائطي القديمة، باحثاً عن إحدى حلقات برنامجي الموقوف على تليفزيون أبو ظبي (مقص الرقيب)، والتي عرضت ليلة الأحد 26 مارس من العام 2000، ودارت حول فيلم (الرسالة) وأسباب منعه في مصر، وعندما عثرت عليها وأعدت مشاهدتها، لم أصدق نفسي.. الرجل كان ينتظر اغتياله! كان يعلم أن الإرهاب الديني يترصد له، وكان واثقاً من أنه سينال منه يوماً!!

خبر (أسود)!!

كانت البداية ـ كما رواها لي العقاد ـ خبراً قصيراً، نشره الصحفي المصري كمال الملاخ في صحيفة الأهرام القاهرية بعنوان (فيلم عن محمد رسول الله بطولة أنتوني كوين)، كان ذلك قبيل منتصف السبعينات، والصحف المصرية ـ بعد نصر أكتوبر ـ في دائرة الاهتمام داخل وخارج الوطن العربي، والمشاعر الدينية والسياسية لكل من الأنظمة والشعوب في طور المراهقة، و(غول) الإرهاب الفكري يتحرر لتوه من فاشية الستينات، ولم يقبل البسطاء ـ ومنهم بعض ذوي العمائم ـ أرجحية أن يقوم الممثل المكسيكي الأصل أنتوني كوين بدور رسول الإسلام، ولم يكن عنوان الخبر بالطبع سوى مفارقة مقصودة لحفز القارئ على تتبع التفاصيل، فضجت أوساط المسلمين برفض الفيلم قبل أن يبدأ التصوير، وعجز مصطفى العقاد ـ طبقاً لتأكيده ـ عن تكذيب الخبر، في الوقت الذي كان رجل الأعمال السعودي عدنان خاشقجي قد تعهد بتمويل الفيلم مع الكويت وليبيا والمغرب، وبرغم تلك الثورة الإعلامية استقبل الأزهر مجموعة عمل السيناريو ـ التي تألفت من نخبة الأدباء والمؤرخين المصريين بقيادة السيناريست الأمريكي ذي الأصل الأيرلندي هاري كريج ـ وبعد عام من الدراسة، عكف فيه علماء الأزهر ـ وعلى رأسهم الدكتور عبد الحليم محمود ومن بعده الدكتور عبد الرحمن بيصار ـ على قراءة السيناريو كلمة كلمة، لم يجدوا في نصه ما يتعارض مع الدين، ومن ثم اعتمدوا السيناريو بخاتم الأزهر على كل صفحة من صفحاته، ثم ما لبث أن وافق عليه المجلس الشيعي الأعلى في لبنان، وجاء الدور على رابطة العالم الإسلامي لتصدر حكمها، فحمل العقاد نفسه واصطحب مساعده، وذهبا إلى مكة ـ حيث مقر الرابطة ـ للاستماع إلى حكم أعضاء أمانتها العامة..

ولم يكن رفض الأعضاء للعمل هو ما فاجأ العقاد، بل كانت ذروة المفاجأة لديه عندما اكتشف أن أحداً من هؤلاء الأعضاء لم يكلف نفسه عبء قراءة السيناريو، تحت تأثير الخبر المبتسر الذي أساءت به صحيفة الأهرام عن غير قصد للفيلم، وكان بعض أعضاء الرابطة ـ طبقاً لوصف العقاد ـ من "اللاجئين" المزايدين غير السعوديين، وكانوا (ملكيين أكثر من الملك)، فعارضوا الفكرة قطعياً باعتبار أن (من يود التعرف على الإسلام عليه قراءة القرآن)!! ولم يقف إلى جوار العقاد من بينهم سوى عضو سعودي واحد في الأمانة العامة يدعى الدكتور أحمد جمال... وكانت القصة الشهيرة التي طالما رواها العقاد من دون الإفصاح عن هويات أبطالها، عندما دار النقاش حول حرمة التصوير، فاستشهد بنشر صورة الملك فيصل بن عبد العزيز على صدر صحيفة عكاظ، واعتراف جامعة كاليفورنيا ـ التي تلقى فيها العقاد علوم السينما ـ بأن مخترع نظرية التصوير كان مسلماً أندلسياً ـ وهو الحسن ابن الهيثم ـ لكن الجدل لم يفض إلى اتفاق، ولم يجد المخرج ومساعده مفراً من الانسحاب...

الفيلم أو القمة!!

كان إخفاق العقاد في إقناع علماء الرابطة بفيلمه هو الخطوة الأولى في طريقه الحافل بالصعوبات، فقد تراجع خاشقجي عن دعمه، ولحقت به الكويت، وبقي نصيبهما من ميزانية الفيلم مجمداً في أحد المصارف السويسرية، ولم يبق من فريق الممولين سوى العاهل المغربي الملك الحسن الثاني، والقائد الليبي معمر القذافي، ـ وكان كلاهما مؤمناً بغاية الفيلم ـ وبدأ العقاد في التصوير بالمغرب، من دون صخب إعلامي استجابة لشرط الملك الحسن، ولكن بعد ستة أشهر علم الملك فيصل بأن الفيلم يجري تصويره برغم معارضة السعودية، فهدد بمقاطعة مؤتمر القمة العربي الذي كان مقرراً انعقاده في الرباط في أكتوبر من ذلك العام 1974، ما لم يتم إلغاء التصوير والتوقف عن مساعدة العقاد، الأمر الذي حمل المغرب ـ بكثير من الحرج ـ على إمهال العقاد وفريقه ثلاثة أيام فقط لمغادرتها، ولم يكن ثمة مكان آخر في ذلك الوقت غير ليبيا كي يتجه إليه العقاد...

وفي ليبيا شاهد العقيد القذافي مع مجلس قيادة الثورة ما تم تصويره من الفيلم في المغرب، وعندما ظهر المسلمون في إحدى اللقطات وهم يرددون (الله أكبر) فيما يرشقهم المشركون بالحجارة، صاح معهم القذافي: الله أكبر! ثم قرر على الفور تذليل كل العقبات ليتواصل التصوير، فأمر بتوفير الميزانية المطلوبة لإعادة بناء الديكورات في ليبيا، وتسخير أفراد المقاومة الشعبية لأداء أدوار (الكومبارس) ـ ضمن ما يطلق عليه بلغة السينما (المجاميع) ـ والسماح للممثلين الأجانب بشرب الخمر في معسكر مغلق! وهكذا عادت الكاميرا للدوران، لينتهي التصوير بعد بضعة أشهر، وتبدأ رحلة شاقة جديدة لا تقل في صعوبتها عن رحلة ميلاد الفيلم..

العقاد وسلمان رشدي!

منع عرض الفيلم في جميع الدول الإسلامية، بينما افتتح في لندن، لكنه وجد معارضة شديدة من المسلمين المتعصبين هناك، وكان أغلبهم من الهنود والباكستانيين، وقد قال لي العقاد: لقد كان هؤلاء خطراً على حياتي.. كانوا يعتبرونني (سلمان رشدى)!!

استوقفتني هذه العبارة في مقابلتي مع مصطفى العقاد، فهي لا تنطوي على مبالغة في الظن بإساءته للدين الإسلامي فحسب، بل على التجسيد الدقيق للعقاب المشابه الذي ارتأى المتعصبون أن العقاد يستحقه.. ولم تكن الأضواء قد تسلطت بعد على المؤلف البريطاني ذي الأصل الهندي سلمان رشدي، فقد صدر كتابه (آيات شيطانية) في العام 1988، والذي تطاول فيه على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قبل أن يفتي مرشد الثورة الاسلامية في إيران آية الله الخميني في ذلك الوقت بإهدار دمه!! لكن المخرج السوري ـ الذي اضطر للخضوع طوال موسم افتتاح فيلمه في العاصمة البريطانية لحراسة شرطة اسكوتلاند يارد ـ لم يجد في وصفه ما يضارع سخط المتشددين من دعايته النبيلة للإسلام، سوى غضبهم العارم من كتاب سلمان رشدي المهين والمسئ للإسلام!! والسبب وراء اختلال ميزان القيم لدى مثل هؤلاء هو عدم تكلفهم مطلقاً عناء التعرف على العمل ودراسته وتحليله، قبل تصنيفه ووصمه بالكفر والإلحاد!!



ويواصل العقاد سرد الرواية المؤلمة، فيصف كيف استفزته مظاهرات المسلمين في شوارع لندن، تندد بالفيلم الذي جسد فيه أنتوني كوين دور رسول الله!! فالحقيقة أن الشخص الذي مثل دوره أنتوني كوين هو سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب وليس رسول الله، وهو ما يعني أن كل هذه المظاهرات المشحونة بالتخلف والتكلف إنما تأسست على التباس في الفهم، لم يكن يحتاج أكثر من مشاهدة الفيلم، الخالي من أي لقطة إباحية قد تخدش حياء المسلمين أو غير المسلمين، وماذا لو ترتبت على ذلك الغضب الطائش أعمال عنف وتخريب؟؟ سيكون الأمر برمته هزلاً وعبثاً!!

لكن العقاد أفلح أخيراً في إقناع زعماء المسلمين الساخطين في العاصمة البريطانية بحضور عرض خاص للفيلم، للتثبت عملياً من براءته، ومجدداً لا يبرهن العقاد بطريقته تلك في التعاطي مع الخصوم على دأبه فقط، وإنما على تسامحه مع من يلصقون به الاتهامات الباطلة، ولا يستندون في ادعاءاتهم إلى المنطق والحجة، وإنما إلى الأكاذيب والشائعات!

المشهد الأخير!

وشاهد المحتجون الفيلم ـ وكان حتى ذلك الحين يحمل عنوان (محمد رسول الله) ـ حتى بلغ مشهده الأخير، الذي يركع فيه المسلمون من كل فج عميق في نفس اللحظة، فإذا بالمتفرجين في صالة العرض ينهضون من مقاعدهم، ويتجهون نحو شاشة السينما، ثم يصطفون، ويركعون مع الراكعين في المشهد، فتسقط من عين العقاد دمعة، ويدرك ـ فيما تزاحم عليه الجمهور لتقبيله ـ أنه انتصر بالفيلم في أول معركة له مع الجهل!

ثم أقبل على العقاد ثلاثة شبان، يلحون عليه إلى حد البكاء أن يغير عنوان الفيلم، كي يتمكنوا من تعليق دعاياته في الأندية والملاهي الليلية والبارات، إذ لا يليق باسم رسول الله أن يوجد في مثل تلك الأماكن! وحاول العقاد جاهداً أن يقنعهم بأن الأنبياء كانوا يقصدون محلات اللهو والخمر للوعظ والدعوة، لكن الشبان الثلاثة لم يقتنعوا وواصلوا إلحاحهم، ويقول لي العقاد: كان شعورهم صادقاً، وقد سألت نفسي "من أنا لكي أجرح شعور هؤلاء؟"، وهنا قررت تغيير اسم الفيلم من (محمد رسول الله) إلى (الرسالة)!

وانتشر الخبر، وشرعت كل دولة في مراجعة موقفها، والعدول عنه بمجرد مشاهدة الفيلم، لكن شاه إيران محمد رضا بهلوي بقي رافضاً لعرض الفيلم في بلاده، مما تسبب في خسارة كبيرة للموزع الإيراني الذي اشترى حق توزيع الفيلم في إيران، حتى اندلعت ثورة الخميني ورحل بهلوي إلى القاهرة في شتاء عام 1979، وظلت أجهزة الرقابة الإيرانية متمسكة بالرفض، لكنها بررت موقفها هذه المرة بأن أذان الصلاة في بعض المشاهد ليس شيعياً ـ أي لا يتضمن عبارة (عليّ وليّ الله) ـ فالتمس منهم العقاد استفتاء الخميني، الذي شاهد الفيلم بالفعل، وصرح بأنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك من سنة وشيعة، وسمح بعرض الفيلم، ليستمر عاماً كاملاً في كل دور العرض الإيرانية من دون استثناء!

المسلمون السود!

غير أن المعركة في الولايات المتحدة كانت ما تزال محتدمة، فقد افتتح الفيلم في 1600 دار للعرض السينمائي بمختلف الولايات الأمريكية، مصحوباً بدعاية مضادة في بعض المساجد، التي يعتقد أئمتها أن السينما حرام، فكيف بتناولها لقصة رسول الله؟؟ ويبدو إثبات جريمة الفيلم عند هؤلاء ـ من تلك الزاوية ـ مستحيلاً، إذ أنه من مستلزمات ذلك ـ كما ينص التشريع الإسلامي ـ الشهادة بالعدل أو الاعتراف، وغياب أحدهما يقود إلى الاتهام الباطل، أو الأخذ بالشبهات، أو اعتساف الأدلة دون اليقين، وكانت تلك هي النتيجة!

أعلن المذياع نبأ هجوم بعض المسلمين السود ـ الذين يطلقون على أنفسهم (جماعة المسلمين الأحناف) ـ على ثلاثة بنايات رئيسية في واشنطن ـ إحداها تخص شركة يهودية ـ واحتجاز 22 رهينة، والتهديد بقتل جميع الرهائن ما لم يوقف العقاد عرض فيلمه (الرسالة)!! وأصيبت الحياة في العاصمة الأمريكية بالشلل، فيما كان العقاد يحتفل مع شركة يونايتد أرتست في نيويورك بافتتاح الفيلم، وما أن ورد إليه النبأ حتى تلقي اتصالاً هاتفياً من مكتب التحقيقات الفيدرالية FBI، يحذره من أن استمرار عرض الفيلم سيستفز مزيداً من الغاضبين!! وهكذا بادر العقاد بوقف العرض، وطلب الاتصال بزعيم تلك الجماعة (السوداء) في السجن لإقناعه بالفيلم، وتحققت له رغبته، وشرح للزعيم المتشدد ـ وكان يدعى عبده خالص ـ كيف أن الحقائق اختلطت بالشائعات، وأن قيم الدين لم تمس في الفيلم، وأن شخص رسول الله لم يتجسد في أي من لقطاته، لكن زعيم الجماعة رفض، ودعا لمزيد من العنف إذا لم يحجب الفيلم عن دور العرض في الولايات المتحدة، واستجابت شركة التوزيع، وتم سحب الفيلم، فتحررت الرهائن بعد ثلاثة أيام!

وأغري فريق الفيلم بإعادة طرحه للاستفادة من الدعاية السياسية التي توفرت، فعاد الفيلم هذه المرة إلى 2400 صالة سينما، ليرسل عبده خالص تهديده من السجن بقتل العقاد وحرق جميع الصالات التي تعرض الفيلم، فذعر الأمريكيون، وتجنبوا مجرد السير على الأرصفة المقابلة لدور السينما!!

ويختم العقاد روايته لهذا الفصل البائس من معركته مع الجهل والإرهاب بقوله: أرأيت؟؟ لقد عانيت من المسلمين المتعصبين أكثر مما عانيت من اليهود في هوليوود!!

محمد سعيد محفوظ

إعلامي مصري

[email protected]