امرأة عظيمة..بقلم: دعاء الجيلاني
تاريخ النشر : 2014-02-16
بقلم: دعاء الجيلاني

في الحقيقة كانت امرأة عظيمة، تشهد لها أزهار الحديقة، وأسواق المدينة بعبقها الفواح، وعيون الأنهار، وبيارات البرتقال، والسهول الخضراء، والسماء الزرقاء، وكانت شهادتي بتلك الرقيقة دائما جريحة...
كانت تغار منها الفراشات فتتلعثم بالأشجار، لتراقبها وهي تتربع على عرش الأزهار وتحتل مكانها، وتنظر العصافير إليها خلسة حينما ترقد على سريرها، لأنهم ما صادفوا وطنا نقيا كقلبها وعينيها، وعندما تبتسم تضحك الطبيعة حولها وترقص البساتين على أنغام ضحكاتها، وعندما تبكي كانت الدنيا بأكملها تجهض حزنا لأجلها، وحتى أن مجرى الدمع في عينيها تألم لحظة رقود قطراتها فيه... كانت هي الصباح والمساء لي، والجنة تحت قدميها دائما، إنها امرأة تخشى ظلمة الليل لأنها ستشتاقني عندما أنام في أحضانها، وتعشق النهار والستائر المفتوحة كي أستيقظ فتحملني كما تحمل الورود عبيرها، ثم تطوقني بجمالها...
إنها امرأة ما وضعت مساحيقا تجميلية أبدا، كان جمالها دائم الترفع عنها، وكلماتها لا تشبه أية كلمات، كنت أراها تبكي حينما تتعاظم همومها، وما شكت لأحد قط، كانت أطيب البشر وأصفاهم، ومن الحنان لديها دائما ما يروي الأرض والحجر، كبرت قليلا فأدركت عظمة هذه المرأة، ولكني رغم ذلك كنت أكافأها بملابسي المتسخة كي تغسلها، ولعبي بأشياءها الحميمية حتى أكسرها، فتجمع فتاتها بصمت... وكافأتها أيضا بالهرب من رياض الأطفال عندما كانت توصلني إليها، وبسكب الطعام على الأرض بعد يوم شاق قضته هي في تنظيف البيت، وما همني تعبها، وتركتها وحيدة تنتظرني بالدقائق وأنا ألهو مع أصدقائي، كانت أعظم امرأة ولا زالت ...
إنها المرأة الوحيدة التي ظننت أنها خالدة ولم أصدق أنها كبقية البشر ترحل دون أن تعود ثانية، وتنتهي دورة أحلامها، كنت أراها ملاكا في عيني، لم تكن تعرف النوم الطويل والراحة، وهبت عينيها لمراقبتي وقلبها لحبي وروحها كانت دائما تطوقني كطوق الياسمين، كانت تغمض عينيها وعبثا لا ينام فكرها وبالها، وكزنبقة تسقط أوراقها رحلت تاركة عبيرها الذي لا ينضب، فوجدت نفسي أكبر بسرعة في غيابها حد الهرم، ووجدت نفسي أبكي على كل ثانية لم أستغل وجودي فيها إلى جانبها، عرفت أن الحب إغداق ولم أجد امرأة سخية في حبها كأمي، كانت سخية حد التطرف في كل شيء، عرفت أنني قد خسرت جنة كانت تتنقل على الأرض، وما عدت طفلة، كبرت وأصبحت كما كانت تتمنى، فما خذلتها يوما، وما خذلتني هي لحظة في حياتها وغيابها، كانت تسبق الأحياء في كل شيء، رحلت أمي دون أن ترحل، لا زالت تغدقني حبا وانسانية، لا زالت تعلمني الجمال، وتغرس بي كل ما كانت تتمناه...
أمي امرأة عظيمة، عاشت عظيمة، ورحلت عظيمة، ولم تترك سوى تفاصيل كثيرة وشريط يومي يدور، وأحداث تأتي وتغيب ثم تعود، ولا ينقصها سوى أحداث وتفاصيل... ولا يجردها سوى غياب بطلة التفاصيل والأحداث... لا ينقصها سواها... أمي امرأة عظيمة ... حينما أنجبتني فإنها لم تنجب سوى ابنة تحاول دائما أن تكون مثلما كانت هي ... امرأة عظيمة...