الجامع الأموي بقرطبة هل سيظل جامعا بعد 2016؟
محمد عبد المومن
باحث من المغرب
ليس الجامع الأموي بقرطبة تحفة فنية معمارية متفردة يزورها ملايين السياح سنويا فقط, إن معلم يلخص تاريخ الأندلس ومأساتها, فقد كان شاهدا على وقائعها الأولى, كما أنه اليوم تعبير مجسد عما تعرض له الأندلسيون بعد سقوط آخر دولهم أي تنصير الإجباري, وطمس الهوية بالسيف.
.
لقد أبهرت أقواسه ذات اللونين الأحمر والأبيض, ومحرابه مزوق بالتوريق, وقببه الثمانية كل من زاره, بما في ذلك ملوك قشتالة كإيزابيلا الكاثوليكية التي لم تسمح بأي تغيير في بنايته, وشارل الخامس الذي إذن ببناء كنيسة في وسطه ثم ندم.
وفي العقود الأخيرة لفت انتباه الباحثين في التاريخ والعمارة من الإسبان وغيرهم, فكتبوا حوله كثيرا من الدراسات التاريخية والعمرانية, كل انطلاقا من رؤاه وقناعاته. ففي حين حاول البعض إبراز أصالة المكان, حاول آخرون التأكيد على أوجه التقليد في هذا الجانب المعماري أو ذاك. لذلك لا أرى حاجة للتعريف بمميزاته العمرانية, ولا بما شهده من أحداث وتحولات خلال مسيرة تاريخه الطويل. حيث أن ما يهمنا في هذه الأسطر, هو المعركة التي بدأت بوادرها تلوح في الأفق بين عدد من جمعيات المجتمع المدني من جهة, وبين الكنيسة الكاثوليكية والمؤسسات الرسمية من جهة ثانية. إنها معركة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الجامع, الذي قاتل القشتاليون طويلا لتحويله إلى كنيسة. أما اليوم فعدد من أحفادهم يناضلون لتبقى له صفة الجامع رغم أن صلوات المسلمين ممنوعة فيه منذ زمن بعيد.
بدأت القصة قبل ست عشرة سنة أي سنة 1998 , عندما أقدمت الحكومة اليمينية التي كان يقودها خوسي ماريا أثنار على تعديل قانون الأملاك العقارية, وهو القانون الذي وضع سنة 1948, أي خلال حكم الديكتاتور فرانكو. هذا التعديل تضمن بنودا تسمح للكنيسة الكاثوليكية بتسجيل مجموعة من العقارات كملكية خاصة, بما في ذلك الكنائس والكتدرائيات والأديرة, ومن هذه العقارات ما يعد إرثا حضاريا وطنيا وعالميا جرى ترميمه وصيانته بأموال عمومية, هذا بالإضافة إلى آلاف المزارع, والحقول, والمنازل التي يستغلها الناس منذ عهود سحيقة, والتي طوروها وحافظوا عليها بأموالهم الخاصة, كما أن القانون المعدل سمح للكنيسة بتسجيل تلك العقارات في ملكيتها بشكل سري إلى جانب أنه منحها حرية التصرف بالبيع وغيره.
لكن القضية لم تحظى بما تستحق من الانتباه لكون تلك العقارات إما دور عبادة كاثوليكية خالصة, أو أملاكا متواجدة بقرى وبلدات إسبانيا العميقة.
لكنه في يوم 21 فبراير من سنة 2006 ( وهي السنة التي عرضت فيها دار كريستيز للمزادات مجموعة من عوارض جامع قرطبة للبيع بمبلغ فاق 300000 أورو للعارضة الواحدة, فتدخلت الحكومة الإسبانية لوقف العملية على اعتبار أن تلك العوارض مسروقة, وخرجت من إسبانيا بشكل غير قانوني ) تقدم أسقف قرطبة بطلب تسجيل كاتدرائية قرطبة في ملك الكنيسة الكاثوليكية, فقبل طلبه وسجل العقار في ملك المؤسسة الدينية المذكورة بعد أداء ثلاثين أورو لا غير.
لقد تلاعب الأسقف بالكلمات, فالكاتدرائية لا تشغل إلا حيزا صغيرا من جامع قرطبة البالغة مساحته 24900 مترا مربعا, كما أن اسمه الرسمي كما ورد في قرار منظمة اليونسكو الذي اعتبر الموقع تراثا عالميا هو جامع قرطبة.
إن " تفويت " جامع قرطبة إلى الكنيسة الكاثوليكية, معناه محو كلمة " جامع " التي يعرف بها المعلم التاريخي, وترسيخ لتسميته الكنسية المعلنة من طرف واحد, كما أن معناه أيضا نهاية مطالب المسلمين الأسبان بجعله مكان عبادة مشترك, يصلي فيه الجميع, المسلمون, والمسيحيون تجسيدا لمبدأ التعايش, كما أن هذا " التفويت " استمرار لمسلسل طويل, بدأه بعض المستشرقين الأسبان ولا يزال مستمرا لحد الآن, عنوانه تقزيم مساهمة العرب والمسلمين عامة في الحضارة الأندلسية, باعتبارهم مقلدين لما وجدوه في شبه الجزيرة الإيبرية من " إنجازات حضارية ", فالجامع كما يرى البعض ليس إلا تقليدا لكنيسة القديس خوان الإنجيلي, كما أن الحمراء ليست إلى تقليدا للمعمار الروماني, والموسيقى الأندلسية ليست إلى تقليدا للترانيم الكنسية وهكذا دواليك...
لقد بقيت سنتين فقط قبل أن يصبح الجامع الأموي ملكا أبديا للكنيسة الكاثوليكية, ومع ذلك فإن مواقف الأسبان متباينة, فالمؤسسات الرسمية صامتة صمت القبور, ولم يصدر عنها أي تعليق أو تدخل لحد الآن, ابتداء من البلدية التي تتغاضى عن تسمية الجامع بالكاتدرائية في الملصقات والتذاكر, وانتهاء بالحكومة المشغولة بالأزمة الاقتصادية الخانقة التي تشهدها البلاد, وبعض جمعيات المجتمع المدني ترى أنه على الدولة أن تتدخل لمعالجة الأمور بشكل شمولي, يشمل كل العقارات التي استولت عليها الكنيسة والمقدر عددها بعشرات الآلاف, وقسم آخر يرى أن ما جرى عملية سطو تضاف إلى عملية سطو أخرى, هي استيلاء الكنيسة على مداخيل بملايين الأورو من عقارات تصرف عليها الدول, مع إعفائها من الضرائب, وهؤلاء يتساءلون عن علاقة الكنيسة بالدولة في إسبانيا, وهل هذا البلد علماني بالفعل. وقسم أخير يرى أنه لابد من التحرك بسرعة لإبقاء المعلم الحضاري ملكا للقرطبيين وللأندلسيين وللأسبان ولكل الناس.
لا يمكن تغطية الشمس بالغربال فالجامع الأموي بقرطبة سيظل معلما حضاريا يعبر عن المرحلة الأندلسية من تاريخ إسبانيا, والجدل الدائر حوله الآن دليل وعي لدى بعض شرائح الشعب الإسباني بأهمية الإرث الأندلسي كما أنه استمرار لعدد من " المعارك الأندلسية الراهنة " كمعركة الاعتذار عن طرد المورسكيين سنة 1609, ومعركة المقابر الإسلامية التي يجري نبشها, ومعركة المساجد الأندلسية المغلقة, ومعركة الإشارات العنصرية في شعارات المدن الإسبانية, ومعركة كتب الإسكوريال, ومعركة الآثار الإسلامية التي يتم محوها بمدينة سبتة... حقا إن الأندلس ملحمة تتجدد.
الجامع الأموي بقرطبة هل سيظل جامعا بعد 2016؟ بقلم: محمد عبد المومن
تاريخ النشر : 2014-02-14
