حول العشيرة و أهدافها بقلم:عبد الوهاب بكلي
تاريخ النشر : 2014-02-04
بسم الله الرحمان الرحيم

خاطرة حول العشيرة و أهدافها

تميزت التجمعات البشرية قديما و حديثا بتنظيمات تقليدية حفظت لها كيانها و ضمنت لها بقاءها رغم الظروف المعيشية الصعبة و التقلبات التي تعرضت لها مثل ما عرفت الجزائر و بخاصة أيام الاستعمار الأجنبي البغيض فكانت عونا لها في التصدي له كما كانت كذلك سدا منيعا وقاها شر الذوبان في مجتمع الغزاة و حصنا متينا حماها من محاولات المسخ و الانسلاخ من الدين و أعانها على الحفاظ على أخلاقها الإسلامية السامية و تقاليدها الحميدة و عاداتها العريقة التي توارثتها أبا عن جد.و لقد أخذت هذه التنظيمات أسماء مختلفة مثل العشيرة أو الجماعة أوالعروش أو القبيلة حسب المناطق و تاريخها.و هي من الأشكال التي اعتمدتها أوائلنا في عدة جهات من وطننا الجزائر.
و من هذه التنظيمات برزت قيادات و مجالس أطرتها و سيرتها و مثلتها أحسن تمثيل، فكانت المعبر الوفي و المخلص لها لدي السلطات المسيرة للدولة، و قد أصبحت هي من الفعاليات الحقة لما يسمى في أيامنا هذه بالمجتمع المدني و منهاما يدعى الأعيان أو تاجماعت. و لقد أبلت البلاء الحسن و قامت بمهام جليلة كما شاركت إلى جانب السلطات المحلية و ساهمت بجدية و اقتدار في حل الكثير من المشاكل و لا تزال، رغم الصعوبات و تغير الذهنيات و تعدد العراقيل و ظهور بعض الزعامات الجديدة الظرفية و الانتهازية.
و هكذا فإن العشيرة عندنا في ميزاب مثلا تنظيم اجتماعي اهتدى إليه أجدادنا رحمهم الله و أرسوا دعائمه على مر السنين بهدي من الدين الإسلامي الحنيف و السيرة العطرة لرسوله الكريم محمد صلى الله عليه و سلم تلك التي رسخت التكافل الاجتماعي و الرأفة و الرحمة بين سائر أفراد المجتمع .
إن العشيرة التي كانت في بادئ نشأتها تحتوي على كل الأفراد المنحدرة من جد واحد إلا أنها سرعان ما تطورت لتشمل الأقارب وكل من يرغب في الانضمام إلى هذه الرابطة التي أصبحت في الكثير من حقب التاريخ حلفا أو وسيلة للدفاع عن فكرة أو نصرتها و كذا الذود عن كيانها و أراضيها.
و اليوم وقد تطورت الأوضاع الاجتماعية و ازدهرت البلاد اقتصاديا و ثقافيا بفضل استرجاع السيادة و انقضاء الليل الاستعماري و تفتحت الذهنيات و كادت تنمحي دعاوي الجاهلية ،لابد لنا أن نمعن النظر في هذا النظام الاجتماعي ألا هو العشيرة، لنسهم نحن بدورنا في تدعيم أبعادها الإيجابية التي صانت لنا تقاليد أصلية راسخة و حفظتنا من النسيان و أتاحت لكثير من الأبناء فرصا ذهبية لإبراز شخصيتهم و كفاءاتهم التي ما كانوا يحلمون بالظفر بتحقيقها بوسائلهم الخاصة لولا تظافر جهود من حولهم من أهليهم و ذويهم أو ما نسميه عشيرتهم .
إن الجوانب الإيجابية التي يجب علينا أن نعمل جاهدين للحفاظ عليها بل و تدعيمها،وهي تلك التي سعت العشيرة دوما إلى تحقيقها تتمثل في :
توطيد صلة الرحم و تعريف الأجيال بعضها ببعض في كل مناسبة و بخاصة الأعياد حيث تنظم لهم لقاءات تشملهم كبيرا و صغيرا قدر الإمكان و بخاصة في هذه الأزمنة التي عرف الكثير من الأبناء الغربة بالسكن و الدراسة بعيدا عن موطن الآباء و الأجداد و الأقارب.فقد رق بل كاد حبل القرابة أن ينقطع إن لم تتداركه مثل تلك اللقاءات العائلية لتمتنه و تزيد الأبناء المتكاثر عددهم تعارفا و تقاربا لما فيه خير البلاد و صلاح المجتمع.
رعاية الجميع و توجيهه توجيها دينيا صحيحا و خلقيا متينا و وطنيا خالصا حتى يكون أفراد العشيرة في أحسن سلوك ما أمكن و دماثة أخلاق و إخلاص للوطن و العباد، معبرين بحق عن أصالة تربية آباءهم و أجدادهم.
و بهذا الصدد تسعى العشيرة إلى مراقبة أفرادها حتى لا يقعوا ضحية سوء الرفاق و الانحرافات التي أصبحت تنتشر أكثر فأكثر في وقتنا هذا و يحافظوا على السيرة الحسنة التي ربوهم عليها أسلافهم.
هذا ويغتنم كبار العشيرة و علماءها كل مناسبة سانحة لإلقاء دروس قيمة و إسداء التوجيهات
و النصائح تعهدا منهم لأفراد عشيرتهم.
تشجيع الطلبة و تحريضهم على العلم و تكريم كل فائز و توجيه كل نجيب و إعانته على مواصلة تعلمه ضمن البعثات العلمية أو في المعاهد المتخصصة .فكم من تلميذ أو نجيب لقي مثل هذه الرعاية
و الدعم فأبان عن قدرات كانت كامنة فيه،و حقق نجاحات باهرةفاستفاد المجتمع بأسره من نبوغه
و تألقه،فلم تقف وضعيته المادية الضعيفة و لا ظروفه العائلية الصعبة دون طموحاته ما دامت الرعاية العائلية قد حفته و لقي كامل التأييد منها.
و في نفس السياق تحث العشيرة أفرادها على دعم كل الجمعيات الخيرية و بخاصة جمعيات البلدة و الوطن للنهوض بالتعليم و شد أزره و البذل بسخاء لازدهار حركته و مواصلة تحقيق الرسالة المظفرة في تكوين أجيال الغد على أسس تربوية دينية عصرية،اعتقادا منهم بعظمة رسالة العلم الذي هو أساس كل نهضة حقيقية.
و إنه بفضل هذه المجهودات التي كان أجدادنا من الأوائل و السباقين فيها برز مشائخ أجلاء تفتخر بهم العشيرة،رفعوا رأس البلدة عاليا، و عظماء و رواد في كافة ميادين الجهاد الديني و الوطني
و الاجتماعي و الحمد لله
كفالة اليتامى و الأرامل و الاعتناء بهم ماديا و رعايتهم معنويا حتى لا يشعروا بالحرمان ولا يضطروا لمد أيديهم لغيرهم. و هذا التكافل و التضامن من أروع ما حققته العشيرة . فلا يجب إغفاله بل إننا في ظرف بدأت تطغى فيه المادة وتبرز فيه الأنانية .لذا وجب الحرص و المحافظة على مثل هذه الأخلاق و السلوكات، و اعتبارها من أوكد الواجبات حتى تبقى الرأفة و الرحمة و يسود الاحترام و التقدير بين كافة أبناءالمجموعة.
ومن تمام رعايتهم أن تسهر العشيرة على حفظ ثروتهم و أموالهم و الوقوف إلى جنب من يتولى الإشراف عليها حتى تستمر على أحسن الوجوه و لا تكون عرضة لعبث العابثين أو للاندثار .
و بالنسبة للأرامل تسعى العشيرة إلى توجيههن نحو العمل بما يضمن لهن العيش الشريف و تربية من يعلن من الأولاد أو إعانتهن على التزوج حين تتاح لهن فرصة لائقة بكرامتهن
النفقة على الفقراء و المحتاجين و حفظ ماء وجوههم و ذلك بتوزيع بعض المواد الأولية عليهم
و خاصة في المناسبات و تجهيزهم بالألبسة و غيرها من ضرورات الحياة.
و العشيرة هكذا تعمل على عدم إهمال أي عنصر منها و تركه عرضة للاحتياج أو الضياع خاصة عند الكبر أو فقدان السند من الأولاد.و بفضل هذه الروح لم تعرف دور العجزة بروزا إلا بعد تفكك الأسر وفي الحواضر الكبرى فقط مع الأسف.هذا وتغتنم العشيرة فرصا كثيرة لتحقيق ذلك الدعم مثلشهر رمضان و الأعياد الدينية و المواسم الأخرى.
إصلاح ذات البين و حل المشاكل بين الأفراد. ولعل هذا الجانب هو الذي يظهر فيه جليا دور العشيرة نظرا لتدهور العلاقات الاجتماعية وبروز عدم التفاهم أكثر فأكثر بين الأولاد و الأقارب. إن هذه الحالات تظهر سواء بمناسبة التركات أو علاقات المصاهرة أو الطلاق أو المشاكل التجارية الجارية و غير ذلك .
إن العشيرة ترمي بكل ثقلها بواسطة أفرادها و ما يتمتعون به لدى بعضهم البعض من احترام و تقدير و معرفة الأمور و حسن تدبير حتى تحل المشاكل و تقترح الحلول التي غالبا ما تذعن لها الأطراف المتنازعة.
وتجدر الإشارة هنا إلى البوادر السيئة التي بدأت تظهر من حين لآخر من عدم احترام رأى الكبار أو ممثلي العشيرة وعدم الانصياع لهم بل و التنطع. لذا أضحى أكثر من الضروري التأكيد على هذا الجانب و حكمة الأوائل في اعتماد العشيرة و الأخذ برأي الحصيف من كبارها لحل المشاكل و تفادي النزاعات و المحاكمات التي لا طائلة من ورائها بل و كثيرا ما تترك أكثر من أثر سلبي .
و هناك ملحظ آخر بدأ يظهر وهو كتمان المشاكل و سترها و عدم عرضها على عقلاء العشيرة بل و الامتعاض لدى بعض المعنيين إن هم تطرقوا لها، و ما يعتبره البعض منهم كذلك تدخلا في الشؤون الداخلية و الخاصة .
إن هذا الدور الهام الذي تؤديه العشيرة يجب التأكيد عليه وعلى احترام كل ما يترتب عليه من قرارات لا شك و أن من ورائها صلاح و إصلاح لا غير، و حفاظ على وحدة العائلة و كرامتها و مصالحها من عبث العابثين و فساد المستهزئين .
فلا يجب أن تحدث التغييرات الاجتماعية السلبية ثغرات في صرح أحكم بناءه مجتمع ساده التضامن الاجتماعي .
التضامن الفعال في حالات الكوارث و الحوادث المؤلمة مثل الحرائق و السرقة و القتل الخطأ. فالعشيرة تتضامن ماديا لتجميع ما يتطلبه الموقف من الماديات خاصة،إذ لا يمكن للمعني أن يواجه ذلك بنفسه أبدا، و في هذا تعبير صادق على الدور التضامني للعشيرة الذي يقوي كذلك أواصر أفرادها وفق التعاليم الدينية و السلوكات الحضارية التي بدأت تعتمد حتى في القوانين والإجراءات الإدارية حاليا.
التحجير على السفهاء، ذلك أن من تمام التضامن و حفظ أموال أفراد العشيرة أن تعمد هذه إلى تحجير كل سفيه تميز بتصرفاته الضارة لنفسه، إذ الضرر لا يلبث أن يمس المجموعة التي لا بد عليها أن تنقذه، لذا نجد العشيرة تلجأ إلى الوقاية كما تتصدى إلى العلاج .
تشجيع التعاون الاقتصادي و إنشاء الحركات، وهذا ما أكد عليه الأوائل فتوصلوا إلى إنشاء تجارات متعددة ناجحة و رابحة، ازدهرت بفضلها الحياة الاجتماعية و الثقافية و ضمنت للأفراد العيش الشريف كما وفرت لهم فرصا عديدة للعمل النظيف.ولقد غدت المحلات التجارية بحق أفضل المراكز لتكوينهم مهنيا.ثم إن إشراك العمال بنصيب من الأرباح مكن العديد منهم من التصدي لفتح حركة لوحده بعد فترة من العمل ضمن مجموعة العمال.
و اعتمادا على التضامن و عنصر الثقة و القرابة تسعى العشيرة إلى تشجيع التعاون الذي بفضله يمكن لمجموعة أن تنهض موحدة الجهود في حين لا يفلح الشخص لوحده أن يحقق ما يصبو إليه ،
و بخاصة في وقت تتطلب فيه الحركات الاقتصادية تجمع خبرات مختلفة و قدرات علمية و مالية و بدنية.
إن هذه الظاهرة مكنت الكثير من النجاح في الحركات التجارية و الصناعية القائمة
10.دعم روح التعاون و التآخي بين أبناء البلدة إذ تسعى كل عشيرة في طريق الخير لأبنائها دون أن تهمل أو تجهل أن السعادة في الختام لا يمكن ضمانها للجميع إلا بفضل روح الإخاء و التعاون بين كافة أفراد البلدة بمختلف مكوناتها.إن للعشيرة هكذا دور إيجابي فعال ساعد على تدعيم الطمأنينة
و الراحة و الانسجام و عدم انتشار الأنانية والحسد و البغضاء.
وفي الختام إن العشيرة كتنظيم اجتماعي كان و سيبقى ذا أثر إيجابي و فعال بفضل ما يسعى إليه من تربية الأفراد على الخلق الإسلامي الصحيح المبني على التكافل و التضامن و الاحترام بعيدا عن كل مفهوم للعصبية الضيفة .
هذا وكل ما ترمى إليه العشيرة من وراء كل نشاطاتها إنما هو زرع ورعاية الروح الجماعية و التضامنية في النفوس تهوّن هكذا البذل من أجل الصالح العام و تبعد عنها الشح و البخل و ترسخ فيها التضحية بالنفس و النفيس في سبيل المثل العليا. فإذا ما تطبع الفرد على ذلك انطلق في كل الميادين الخيرية و الوطنية و في مختلف المجالات يعمل و بنشاط و يبذل بكل سخاء و طيب خاطر .
و إننا نعتبر أنه لو تكفل كل جزء من المجتمع العام بعشيرته الأقربين بهذا النحو لكفى الدولة مؤونة كبيرة و أعفاها من أعباء ثقيلة بل وساعد على ازدهار المواطنينوفق الأخلاق الإسلامية العملية الصحيحة، و بالتالي على ازدهار المجتمع و سعادته في أخوة و تضامن هي في كل الحالات أسس قوته
و نجاحه و تقدمه.
 عبد الوهاب بكلي
العطف يوم : 14جانفي2014.وزير سابق