لماذا يناصبوك العداء؟ بقلم: فادي الحسيني
تاريخ النشر : 2014-02-01
لست ممن تستهويهم الكتابة عن أشخاص، بالمديح أو بالذم، إلاّ أنني وجدت نفسي أمام حالة تستدعي الكتابة عنها. فكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن تركيا ورئيس وزرائها ورئيس حزبها الحاكم منذ 2002. إردوغان الذي كان يتغنى باسمه القاصي والداني، وكانت تعتبره عواصم غرب هذا الكوكب حليفها، وتوجته شعوب المنطقة نموذجاً يحتذى، وخليفة للقادة العظام أمثال صلاح الدين الأيوبي وغيره. فجأة، تغير كل هذا، وبدأت تلك العواصم ذاتها التي اعتبرته حليفاً ذات يوم تتصيد هفواته، أما شعوب المنطقة فعزف من عزف منهم عنه، ولكن كيف ولماذا حدث هذا التغير الكبير في المواقف بهذه السرعة؟
بادئ ذي بدء، وجب الإشارة الى أننا لن نشير في مقالنا من قريب أو من بعيد لخيارات الشعب التركي، ورأيه في رئيس وزرائه، فالجمهورية التركية لها من التجربة الديمقراطية ما يجعلها وشعبها ناضجين بما يكفي لاختيار من يرغبون، وإسقاط من لا يريدون. نتوجه في حديثنا اليوم عن شعوب المنطقة العربية بعد أن أضحت لاعباً يؤخذ رأيها بالحسبان، كذلك نناقش الانقلاب في مواقف العواصم الكبرى في العالم، التي بدأت تكيل العداء لرئيس الوزراء إردوغان، وإن لم يكن صراحة، من خلال كافة المنابر المتاحة لهذا الغرض.
الحديث يدور عن إردوغان، الذي لقن الرئيس الإسرائيلي شيمعون بيرس درساً في حقوق الإنسان، حين وبخه أمام العالم كله في دافوس، قائلاً له: ‘عندما يأتي الأمر للقتل، فأنتم (الإسرائيليون) تعلمون جيداً كيف تقتلون’.
نعم هو ذات الرجل الذي تغنت به شعوب العرب كثيراً، فوقف حين جلس الآخرون، وقاطع حين طبع الباقون، ودافع عن فلسطين وهاجم إسرائيل حين تخاذل أو تراجع الكثيرون. وهو نفس الرجل الذي بدأنا نسمع تفسيرات مختلفة لمواقفه باسثتناء الحقيقة، فالبعض رأى فيها دغدغة لمشاعر الشعوب التي تتوق لمن يرجع لها الحق (تماماً كما كان الحال حين انتصر حسن نصرالله على إسرائيل، فامتدحه الناس كثيراً، وحين هدأت النفوس، عملت ماكنة الإعلام المعادية لتنجح ما فشلت به مدافع العدوان آنذاك).
دعم إردوغان تطلعات شعوب العرب في خلع رداء الرجعية والدكتاتورية، وساند بكل وضوح رغبات أمة العرب في نفض غبار حقبة كئيبة من القهر والاستسلام والتبعية، فوقف صلباً في مطالبته لمبارك وزين العابدين بن علي للإصغاء إلى مطالب شعوبهما بالتنحي، وذهب أبعد من ذلك بكثير حين وقف نداً لنظام بشار الأسد وقمعه لنضال شعبه في سوريا، أما في ليبيا، فحين وصف النقاد موقفه بالمتردد، خاصة حين قرر رفض تدخل الناتو المباشر في مسار المعارك هناك، أغفل الكثير حقيقة راسخة في السياسة الخارجية التركية، وهي رفض أي تدخل أجنبي (خاصة العسكري) في دول المنطقة، لما لهذا التدخل من مخاطر على مستقبل هذه البلاد، ولعل موقف البرلمان التركي عام 2003 (ذي الأغلبية من حزب إردوغان- العدالة والتنمية) الرافض لإستخدام الولايات المتحدة الأمريكية الأراضي التركية للعدوان على العراق أكبر مثال على سياسة تركيا هذه.
هذه المواقف زادت من شعبيته بشكل كبير، إلا أن إرضاء الناس جميعاً غاية لا يمكن إدراكها، فاصطدمت هذه المواقف الجريئة بحائط الواقعية المرير، حين بدأ من تعارضت مصالحهم مع هذه المواقف بتصيد المواقف والأخطاء، ونسجها في سياق غير سياقها. خاف البعض على سلطته مقابل هذا القبول الكبير، والشعبية الجارفة لإردوغان في المنطقة، فبدأت الاتهامات بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد تنهال من كل صوب وحدب، بعد أنأأن كانت مقبولة في وقت سابق. وكالعادة، عملت الماكنة الإعلامية المضادة لتظهر إردوغان سلطانا عثمانيا جديدا ينشد عودة العباءة التركية على أراضي العرب، ودعم أي حركات إسلامية من شأنها تدشين مكانته هذه. على سبيل المثال، حين استقبل إردوغان خالد مشعل لأول مرة بعد فوز حماس بالانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، امتعض الغرب، واستشاطت الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل غضباً، إلاّ أن معظم العرب رأى أن هذا الموقـــــف هــو دعم للمقاومة وحق الشعب الفلسطيني في جميع خياراته. أما اليوم، فحين تستقبل تركيا خالد مشعل، يصـــبح السياق وكأن تركيا تدعم أي توجه إسلامي، ودعم للحركات الإسلامية في الوطن العربي.
ويكاد يكون ما حدث في مصر خير دليل على هذا الرأي، ففي الوقت الذي اعتبر معظم المراقبين أن ما حدث في مصر وفقاً للقانون انقلاباً (عزل رئيس منتخب، حل مجلس الشورى، وتعليق العمل بدستور تم الاستفتاء عليه – بغض النظر عما إن كان هو الخيار الأفضل لمصر وشعبها أم لا)، اعتبر موقف رئيس الوزراء التركي مما حدث في مصر دعماً للإخوان المسلمين، وخوفاً على مستقبل حركات الإسلام السياسي هناك. إن المتتبع للشأن التركي يعلم أن تاريخ تركيا الحديثة يعج بالانقلابات العسكرية التي أطاحت برؤساء جمهورية ورؤساء حكومات، كما أنه حتى يومنا هذا، يحاكم عدد من الضباط الأتراك بتهم تتعلق بالانقلاب، وأشهرها العملية الأخيرة الشهيرة بالمطرقة. لهذا السبب، عاجل إردوغان، وزعماء المعارضة التركية جميعهم، بانتقاد ما حدث في مصر، وما تبعه من تطورات وتغيرات، وإن اتخذ إردوغان موقفاً مغايراً، لأصبح عرضة للانتقاد من معارضيه السياسيين، وحتى من مؤسسة الجيش التي يحاكم كثير من قادتها بتهم تتعلق بالانقلاب.
لم يخفِ إردوغان يوماً توجهاته الإسلامية، إلا أنه كان يقول دوماً بأنه مسلم وليس إسلاميا، فكان الانفتاح الاقتصادي التركي على جميع دول العالم، غرباً وشرقاً خير دليل، وكانت مقدونيا (المسيحية) ثاني أكبر مستقبل لمساعدات وكالة التنمية التركية الحكومية، ولا تزال تركيا عضواً فاعلاً في حلف شمال الأطلسي وأغضبت جيرانها ‘المسلمين’ حين نشرت منظومة دفاع الناتو الصاروخية، والأمثلة كثيرة لا يسعنا في هذا المقال سردها جميعاً.
هذه العلاقة مع الغرب تنقلنا للشق الآخر من المعادلة، فكيف للعواصم الغربية أن تخشى إردوغان، على الرغم من هذه الانجازات المشتركة، والمصالح المتقاربة في العديد من الملفات، وآخرها الملف السوري؟ تكمن الإجابة على هذا التناقض بالإلمام بمعطيات وحقائق عملية وملموسة.
وصف الكثير الإنجازات الاقتصادية التركية إبان حكم حزب العدالة والتنمية بالمعجزة، فلم يتوقف هذا الإنجاز عند رفع نصيب دخل الفرد إلى أضعاف ما كان عليه قبيل حكم إردوغان، بل تعدى ذلك لتشهد تركيا انتعاشاً اقتصادياً غير مسبوق، جعلها من الدول القليلة التي لم تتأثر بالأزمة الاقتصادية التي هزت العالم عام 2009، وقفز ترتيبها ليصل الخامس عشر بين أفضل اقتصاديات في العالم، وأضحت قوة جاذبة لشتى أنواع الاستثمار من كافة بقاع الأرض، وتحولت تركيا من دولة مستقبل لمعونات صندوق النقد الدولي لدولة مانحة في صيف العام الماضي، وهو الأمر الذي أعطى تركيا استقلالية أكبر في قراراتها الاقتصادية.
هذه الاستقلالية الاقتصادية انعكست على الفور في استقلالية سياسية وسيادية، فبدت تركيا غير مرغمة على اتباع سياسات بعينها، وأضحت إسطنبول عاصمة للمؤتمرات الاقتصادية والمالية والسياسية والثقافية الدولية، وأظهرت تركيا قدرة فريدة في منازعة القوى الاقتصادية التقليدية بمبادرة تلو المبادرة. انفتحت تركيا تجارياً، ولم تصبح دول العرب مغلقة أمام البضائع التركية (كما كان الحال سابقاً)، فشكلت منافساً قويا للبضائع الغربية، بأسعارها المميزة وجودتها العالية.
أمعنت تركيا في طموحها الاقتصادي ورؤيتها الاستقلالية أكثر، فأعلن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عن خطط طموحة لشق قناة جديدة عبر مدينة اسطنبول، لتشكل رافداً آخر موازيا لمضيق البسفور، أطلق عليها اسم ‘قناة اسطنبول.’ هذه القناة تعكس تصميماً تركياً جديداً لاستقلالية قراراتها، ومصدراً كبيراً للدخل ومنبعاً جديداً من منابع السيادة على قنواتها ومضائقها التي حُرمت منها عقب الحرب العالمية الأولى، فقد شكلت سيطرة الدولة العثمانية على قناة البسفور مصدر إزعاج لقوى الأحلاف، وكانت سببا رئيسا لإفشال العديد من الحملات العسكرية إبان الحرب العالمية الأولى، فأصر المنتصرون في الحرب على فتح المضايق أمام كافة السفن، وقضت معاهدة سيفر بضرورة نزع سلاح المضايق وبحر مرمرة والجزر الواقعة في مدخلهما من جهة الجنوب، وتم تنظيم وضع المضايق مرة ثانية في معاهدة لوزان سنة 1923، حيث نصت هذه المعاهدة على حرية المرور الكاملة لكل السفن التجارية بغض النظر عن جنسيتها، وعدلت المعاهدة عام 1936 بما يخدم مصالح الغرب، فلا تتقاضى تركيا رسوماً للعبور، على الرغم من عبور 28 ألف سفينة سنوياً للمضائق التركية.
هو ذات السبب الذي دفع صانع القرار التركي للتخطيط لبناء مطار ثالث في إسطنبول، إضافة لمطاري المدينة اللذين يستقبلان أكثر من 30 مليون مسافر سنوياً. قال رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان ‘مثل هذا المطار… سينقل تركيا الى مستوى مختلف على الساحة الدولية’، فستصل طاقته الاستيعابية إلى 150 مليون مسافر سنويا، وسيصبح أكبر مطار في العالم، لتتحول اسطنبول، والخطوط الجوية التركية إلى مركز إقليمي رئيسي للنقل الجوي يربط بين أوروبا وآسيا، كما ستكون الخطوط الجوية التركية – وهي واحدة من أسرع شركات الطيران نموا في العالم- أحد المستفيدين الرئيسيين من المطار الجديد.
يقول توبي دودج الكاتب الانكليزي، في مقال له بعنوان ‘من الصحوة العربية إلى الربيع العربي- دول ما بعد الاستعمار في الشرق الأوسط’، ان القضاء على بعض القادة ما هو إلاّ جزء من مؤامرة تهدف الى التخلص من أية قوة إقليمية أو أي قائد، قد يشكل خطراً وتهديداً حين يسعى لإعادة تنظيم علاقات ومعادلات المنطقة، وتبني سياسات مستقلة. إذن، لا عجب أن استقلالية القرار والمنافسة في كافة المجالات جعل من إردوغان وسياسته مصدر إزعاج لكبرى العواصم العالمية، وليس غريباً أن اختلاف الرؤى والخوف من الشعبية الجارفة والمواقف الجريئة تدفع بالعديد من أصحاب المصالح في عالمنا العربي الى أن يناصبوه العداء، فيصبح الإعلام منبراً لتشويه الحقائق، وتضحي الأقلام سبيلاً للتأثير سلباً على آراء المواطنين.