فلسطين بين عبرات شعب وعثرات قضية بقلم: فادي الحسيني
تاريخ النشر : 2013-10-16
حاسة "العد" هي حاسة بشرية جديدة إلتصقت بالشعب الفلسطيني دون غيره من المخلوقات، فقد عاهد هذا الشعب تراب أرضه قبل أن يعاهد نفسه على الثبات، والإستمرار والرباط على الأرض مهما واجه من ويلات. حفظ هذا الشعب العهد، وصبر وصابر، وصمد وقاوم، منذ نهاية عهد العثمانيين، ثم البريطانيين والسماح بقدوم اليهود المهاجرين، وما تخلل هذا من مذابحٍ ومآسٍ تندي الجبين، مروراً بالنكبة ثم النكسة، وإنطلاق الثورة وبزوغ فجر المقاومة، فالاغتيالات والإجتياحات والإعتقالات، ثم المفاوضات، وبضع إتفاقات، وبعدها المزيد من المفاوضات، ولن ننسى ذكر بلاء الإقتتال، حين إستخدم سلاحاً فرّق بعد أن أعزّ الرجال، فأضحى الإنقسام نبعاً جديداً لسمٍ يتجرعه أهل البلاد. قليل هي هذه الكلمات، ولكنها تشخص حالة شعب لطالما تحمل الأزمات، شعب صابر راسخ في أرضه، وأمله في الحرية والعودة- أبداً ما مات.
وبالحديث عن حاسة العد، فبعد مرور بضعة أشهر على سلسلة المفاوضات الجديدة، بدا وكأن جميع التصريحات المتشائمة تصدر فقط عن المسؤولين الفلسطينيين، أما أبرز التصريحات الإسرائيلية جاء على لسان تسيفي ليفني التي رأت أن المفاوضات قد تستمر لأكثر من تسعة أشهر.
يعود هذا التمايز بين الموقفين الفلسطيني والإسرائيلي هو أن الأخير في موضع قوة يتحكم بمفاصل الحياة، أكانت في قطاع غزة المحاصر المحتل، أو الضفة الغربية المحتلة. يفاوض الإسرائيلي في وضعية مريحة بعد أن إستقر له الحال الأمني، وما تبعه من إستقرار إقتصادي أدى لزيادة الإستثمارات وإرتفاع أرقام السيّاح مع إستمرار إنتاج مصانعهم للسلع الإستهلاكية، فالسوق الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية كفيل بأن يبقى حياة هذه المصانع لعشرات من السنين قادمة. المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية لم تعد تعدو أكثر من تهديد في مقطع على الإنترنت أو منشور أو مسيرة لبضع فتية يحملون بنادق آلية. أما في غزة، وبعد كل ضربة مؤلمة وجهها المحتل لفصائل المقاومة لم يتبقى من المقاومة إلا تهديد هنا أو وعيد هناك، مع الاحتفاظ طبعاً بحق الرد- في الوقت والمكان المناسب.
وبعيداً عما تبقى من المقاومة، فالأمور على الأرض تسري وفقاً لمصلحة الجانب الإسرائيلي، فتغيير الحقائق على الأرض (خاصة في مدينة القدس) يسري على قدم وساق، والبناء الإستيطاني والتوسع يسريان بلا توقف، ولا يكاد يمر يوم إلاً وتقضم المزيد من البقعة المتبقية من أراضي الضفة الغربية، والهجرة اليهودية من كافة بقاع الأرض مستمرة بلا توقف، والموارد الطبيعية تستغل بأكبر قدر ممكن.
إذاً، ولم العجلة، فتسعة أشهر قد تكون غير كافية، وخاصة أن كل يوم تستمر فيه المفاوضات، يقل حجم الضغط الدولي، ويرفع أي عتب عن الجانب الإسرائيلي. إن نجاح إسرائيل نبع بالدرجة الأولى من القدرة الفذة في إخضاع وسائل الإعلام الغربية على تبني روايتها ورؤيتها. من هذا المنطلق يبدو جلياً الأسباب التي تجعل إسرائيل متمسكة بالمفاوضات، أو أحاديث المفاوضات، أملاً في إحداث تفوق بعد أن حقق الجانب الفلسطيني أفضلية نوعية خلال العامين الماضيين، إنعكس إيجاباً في تصويت الأمم المتحدة. إذاً، تسعى إسرائيل إلى المزيد من الأحاديث، مع إستمرار تغيير ما تبقى من واقع فلسطيني، ويقين بمحدودية قدرة الجانب الفلسطيني على إتخاذ قرار الفعل لقلة خياراته خاصة في ظل التناحر المقيت في المحيط العربي، ومراهنة في الوقت ذاته على إستمرار الإنقسام الفلسطيني،
ويبقى التساؤل هنا، أما جاء الوقت لنعد العدة ونخطط لما هو أبعد من التسعة أشهر؟ أعتقد جازماً أن أول هذه الخطوات يجب أن يكون بإنهاء إنقسام ظلم شعباً وقهر قضية.