السلام على من اتبع الشمال! بقلم: محمد سعيد محفوظ
تاريخ النشر : 2005-11-18
السلام على من اتبع الشمال!  بقلم: محمد سعيد محفوظ


لم يكن مقدراً ـ لولا صعود الإسلاميين إلى الحكم في الخرطوم ـ أن يتعاطى الغرب مع تمرد الإثنيات السودانية الجنوبية باعتباره (وسيلة) لتحقيق (أهداف) تتجاوز سياسته التقليدية المقننة.. لعبة الغرب في جنوب السودان ـ قبل ذلك التاريخ ـ كانت تجرى (بحذر) خلف ستار التحديث والعلمنة، لأغراض تتفاوت بين الحد من انتشار الإسلام في أوساط الوثنيين، وترويض ذلك الجنوب المؤهل ـ تاريخياً واجتماعياً ـ لاحتضان الفكر الثوري..

تلك اللعبة بات يعززها الآن ما يسمى (الحرب على الإرهاب).. نفد صبر القوى الكبرى، ولم يعد يروقها بقاء أنظمة العمائم والسيوف، بعد أن داهمتها ـ وفق التصورات الرائجة ـ في عقر دارها.. وهكذا تحول اهتمام الغرب بشئون الأقليات في العالم العربي من الملف العقائدي، إلى الملف الأمني، لتصبح ورقة مساومات في لعبة أكبر، هي لعبة المصالح الاستراتيجية على حساب أمن الشعوب التعيسة.. وقد كان لمتمردي الجنوب السوداني نصيب الأسد من برامج تلك السياسة الجديدة...

هل أدرك النظام العربي أن قواعد اللعبة تغيرت؟؟ ربما (نعم)، وربما (لا)!! المهم هو أنه خرج من تلك اللعبة ولم يعد.. انطوى على محنه الداخلية في صمت، وغاب ـ طوعاً أو قسراً ـ عن مسرح الأحداث.. وهذه ـ على الإطلاق ـ ليست مبالغة، لقد ذهبت إلى أقصى العمق السوداني الآمن (في ظل الهدنة).. فتشت عن العرب، الذين يسمعون ـ بوضوح ـ نخير (السوس) في الأسوار الجنوبية للوطن، والذين إذا قالت حكومة الخرطوم: إنها مؤامرة! رددوا فى صوت واحد: آمين!! بحثت عنهم في كل مكان... لكنني لم أعثر لهم ـ في ذلك الجنوب البعيد ـ على أيّ أثر....

الآن لم يعد لشئ ـ في محيطنا العربي ـ أن يدهشني، وما الذي بمقدوره أن يفعل، بعد إذ رأيت جراحنا تدمي، وأصابع العدو تداويها بالسم... ونحن عاجزون حتى عن (البكاء)!!

ـ أول القصيدة.. كفر !!

أصابت جلساتي الأولى والممتدة مع أقطاب المعارضة الجنوبية في السودان تلك القناعات الراسخة لدىّ منذ أمد فى مقتل، ورثت ـ لا إرادياً ـ بعض قناعاتي تلك عن مطامع الجنوبيين المسيحيين والوثنيين في السلطة، من نشرة أخبار التاسعة مساءاً في التليفزيون المصري، قبل أن يدخل (الطبق اللاقط) إلى بيتنا، والبعض الآخر ورثته من خطب الجمعة وأحاديث السياسة المبكرة في الجامعة..

وهكذا ـ بعد لقائي بزعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان قبل عامين، ولقاءاتي اللاحقة بأنصاره من أجيال وأطياف مختلفة، وجدت نفسي (أكفر) شيئاً فشيئاً بكل ذلك، ولم تعد لي ذات النظرة إلى تلك الدعاوى النمطية التي تحتل منذ عقود (مانشتات) الصحف العربية، والتي تعبر فقط عن أيديولوجيات الأنظمة وليس عما ترتجيه الشعوب.. ولأنه يجدر بالصحفي أن يتملى في الواقع ولا ينزلق إلى المبالغات، ولأن مثل مهمتنا تستوجب التثبت من الحقائق لا السعي وراء الادعاءات.. فقد نفضت عن ذاكرتي ـ طيلة أيام رحلتي إلى جنوب السودان ـ إرثاً عريضاً من الأفكار المسبقة، وقررت أن أزن من جديد مواقف طرفيّ النزاع في الأزمة المزمنة، التي اختصرها البعض في (تمرد الجنوب)، غافلاً عن تنوع التضاريس الاجتماعية والثقافية في السودان، على نحو أكثر تعقيداً مما نظن...

ـ مواطنون .. من الدرجة الثانية !!

الواقع أنه من بين 54 فئة طائفية متنازعة فى أفريقيا، تبقى لمتمردي الجنوب السوداني ـ كما لأقرانهم في البلدان الواقعة شرقي السودان وشمال نيجيريا ـ خصوصيتهم السياسية.. فثوراتهم تأججت في الأساس بالتمايزات الثقافية ـ خاصة بين المسلمين العرب من جهة والمسيحيين والوثنيين من جهة أخرى ـ وبسبب التدخل من قبل الدول الأفريقية والقوى الكبرى.. في حين اندلعت الحروب الأهلية بين الخصوم الطائفيين في الدول الأفريقية الأخرى نتيجة الفشل في عقد تحالفات أو ائتلافات حاكمة في المركز..

لكن المثير أن الأقليات المضطهدة في القارة السمراء بمجملها ـ بما فيها الجماعات التي نالت أغلب حقوقها خلال الثمانينات والبالغ عددها 20 ـ لم تعتقد أبداً أن التفاوتات بينها وبين المجموعات المهيمنة هي بالضرورة ظالمة، أو أن حركاتهم الاحتجاجية سوف تؤدي حتماً إلى تصحيح الأوضاع.. والمثير أيضاً أنه ـ ووفقاً للتصريحات الحكومية ـ كان البون بعيداً بين ذلك الاضطهاد الموضوعي ـ نظراً لظروف اقتصادية معترف بها استدعت أطماعاً لدى البعض فى الاستفراد بمزايا السلطة ـ وبين مطالبهم السياسية التي عطلت فصولاً من مفاوضات السلام، لأنها ـ فى نظر الكثيرين ـ بعيدة كل البعد عن المنطق (على سبيل المثال: يطالب المتمردون في دارفور بانسحاب قوات الجيش النظامي من أراضيهم، لتحل بدلاً منها قوات دولية تضطلع بحمايتهم!)...

عندما انخرطت في النقاش حول أزمة جنوب السودان مع فاروق جاتكوث ـ أحد المناضلين الجنوبيين ـ لم أكن أعلم أن وجهة نظري تلك سوف توقد حماسه إلى حد أن معالم وجهه سوف تحيله من قائد سياسي مفصول من حزبه، وعالم جيولوجي تنكره الأوساط الرسمية، إلى مواطن جنوبي ـ كما هو فى الأساس ـ يرزح تحت نير التشوش والضياع، وهو يختلف معي ـ على نحو جذري ـ قائلاً بأن اتفاقيات السلام التي أبرمتها حكومة الخرطوم مع أحزاب وحركات التمرد المستأنسة، كانت تبطن غير ما تظهر، فالحكومة تسعى لإعادة تدوير الحرب من شمالية ـ جنوبية إلى جنوبية ـ جنوبية، كما أنها تسوق عن الجنوب صورة غير تلك التي خلفتها الحرب، قاتمة وبائسة.. وعن الجنوبيين أفكاراً غير تلك التي ينادون بها، عادلة ومتوازنة..

محنة فاروق جاتكوث ـ على حد وصفه ـ عامة وليست خاصة.. فهى لم تكن في عزله من جبهة الإنقاذ الديمقراطية أكبر الأحزاب الجنوبية المتحالفة مع الحكومة السودانية، ولم تكن في (تهميشه) من قبل المؤسسات الصناعية بالدولة، رغم تخصصه النادر في صناعة الأسمدة، ورغم شهاداته الكثيرة من الجامعة الأمريكية في لبنان، وجامعة هول في بريطانيا، كما أن محنته ليست في تجميد نشاطه العام ـ لتحفظاته على اتفاقات السلام ـ بعد أن كان محافظاً بولاية الوحدة (1994 ـ 1996)، ونائباً عن دائرة رابكوني في البرلمان (1999 ـ 2000)... محنة فاروق ـ كما يقول ـ في ثقافة الاسترقاق، التي تفترض الدونية في ذوى الأصول غير العربية، بما يجعل عدداً لا بأس به من الجنوبيين... مواطنين من الدرجة الثانية!!

.....................

بعض هذا الادعاء سيكون صحيحاً لو أن (تهميش) فاروق كان عائداً بالفعل إلى تأثيره السياسي.. واقع الأمر أن بعض حكومات وأنظمة العالم الثالث دأبت على سد أبواب الرزق ـ ما أمكنها ـ في أوجه معارضيها، لحملهم على الإذعان لسياساتها والكف عن التشهير بها.. وفي باريس التقيت قبل ثلاثة أعوام بصحفي عربي معارض اضطر ذات وقت ـ من قبيل الاحتجاج ـ أن يعرض أبناءه للبيع على أحد الأرصفة، عندما ضيقت عليه حكومته الخناق، ولاحقته بالفصل من كل صحيفة أو مجلة يعمل بها... فهل حكاية فاروق جاتكوث وأمثاله في السودان هي ذات الحكاية؟ هل هي الرواسب المتبقية من عصور الرق القديمة؟ أم هي الرغبة العامة في خلق تراتبية اجتماعية قمعية يحددها الأصل العرقي، وتحد من الترقي المهني للمقدوح في أصلهم؟ ومَن مِن الطرفين على صواب إذا كانت الحكومة السودانية ـ على الجانب الآخر ـ تنفي ـ على نحو مطلق ـ أنها تميز بين أبيض وأسود؟ بدا لي أن الرأي الأرجح في هذا السياق هو ما ذكره لي إدريس حسن رئيس تحرير صحيفة الرأي العام السودانية ـ وهي صحيفة (يفترض) أنها مستقلة ـ عندما قال ما نصه: أنا ما فتكرش فيه حد في السودان ما مهمش وما مظلوم!! البعض يعتبر إدريس صحفياً مستأنساً من قبل الحكومة، فهو يعبر ـ وفقط ـ عن مواقفها، لكن رأيه ـ بالنظر إلى أوضاع السودان عامة ـ يبدو مقبولاً، في قضية، نصيبها من الحقيقة جد ضئيل...

ـ ( الجنوب نال حقه ) !!

معركة إعلامية إذن.. وخطاب تواطأت جهات عدة على فرضه وتبريره، وتحامل مريب من كل طرف ضد الآخر.. وضعتني تلك الانطباعات ـ محاوراً ـ أمام الزهاوي مالك وزير الإعلام السوداني، وهو ـ كزملائه في دائرة الحكم ـ ينطلق من يقين راسخ بأن أكثر مما هو مطلوب من الحكومة قامت به لاسترضاء المتمردين.. برغم (ما لديهم من ارتباطات مشبوهة بالغرب)، وبرغم (مساعيهم المتواصلة لتفتيت الوحدة السودانية) وبرغم (دعمهم حركات التمرد الأخرى سواء في دارفور أو كسلا أو في أقصى شمال السودان)... الحكومة السودانية ـ طبقاً لتصريحات الوزير ـ فعلت ما عليها وأكثر.. أما عن (التهميش) الذي تدعيه زوراً ـ على حد وصفه ـ فصائل التمرد في النواحي الأربع، فمآله إلى تخلي قياداتها عن الحراك السياسي داخل حدود الوطن.. قال: إن الذين يشعرون بغبن، كان واجبهم أن يكونوا هنا ليؤدوا هذا الدور الذي يريدونه لوطنهم، حتى ولو كان فى أضيق نطاق!!

وبرغم أن كلام وزير الإعلام لم يخل من تلك الإيماءات الاستعلائية التي اعتدنا التقاطها من مفردات الخطاب الرسمي السوداني ضد الجنوبيين (الأقل مكانة اجتماعية) ـ كما فى الوعي العام لدى أغلب السودانيين ـ فإنني لم أعلق عليها فى حينها، لأنني أرجح دائماً أنها لا تعبر عن زراية أو انتفاخ في الذات، قدر ما هي موروث يصعب على الشمالي أن يتحاشاه في لغته اليومية، فمثلاً ردد الوزير في حديثه لفظ (أعطى) بتصريفاته المختلفة للدلالة على مواقف الحكومة في إطار المصالحة.. قال في سياق ما: ...(نحن) ليس لدينا خوف من أن (نعطي) من السلطة ما (نعطي)...!! ثم أضاف في سياق آخر: ...لأننا (نحن) (أعطينا) هذا الحق للإخوة في الجنوب!! وعندما استعرض أوجه التطور في المدن الجنوبية (المحررة)، ذيّل حديثه بعبارة: ...كل هذه المسائل إذا ما قورنت بما كان عليه الأمر قبل الحرب، فسوف تتأكد من أن الجنوب قد (نال حقه وأزيد)!!

ـ جوبا جي ناكي !!

قديماً كانوا يطلقون على أقصى جنوب السودان (أرض المنفى)، إذ كان ـ لعزلته ووحشته ـ قبراً كبيراً لمعارضي الخليفة، وقد بدا لي ـ فيما كنت أطوف وسط (حلاته) ـ أي مجمعاته السكنية ـ المؤلفة من أكواخ القش والغاب الغليظ ـ أن تلك الصفحة من التاريخ لم تقلب بعد.. سواء في جوبا أكبر مدن الجنوب، التى يقطنها 350 ألف نسمة على مساحة 400 كيلو متر مربع من القبائل الاستوائية، أو في بلدة كابو المطلة على جبل الرجاف، ذي الدلالة العميقة على الخوف الذي أحاط بمن استقر تحت سفوحه، أو في جزيرة جوندوكورد المأهولة بالأشد فقراً ممن بقى في الجنوب على قيد الحياة... لم أجد فى كل تلك المناطق سوى الموت ينتظر.. هكذا إذن يستقبل الجنوبيون ـ بترقب ـ عهداً جديداً يعدهم بالأمن والرخاء.. في الطائرة همس رجل طاعن فى السن ـ كان يجلس إلى جواري ـ كما لو كان يخاطب نفسه قائلاً: (جوبا جي ناكي)!! وعندما سألته عن معنى تلك الكلمات، أطرق ببصره نحو قدميه الحافيتين، وقال بلغة عربية متعثرة: جوبا ازدانت واستقرت..!!

ـ ظلام ( أكواتوريا ) !!

لم يتوفر لنا محل ملائم للإقامة فى الفندق الوحيد بالمدينة، وهو فندق جوبا ـ الذي كانت الحكومة المصرية قد أقامته عام 1925كمقر يتبع وزارة الأشغال العمومية والري إبان الحكم المصري للسودان ـ ويبقى ذلك الفندق هو الأوفر حظاً من الخدمات، برغم أن المياه (المنقاة بالجهود الأهلية) والكهرباء (الضعيفة) لا تصلاه إلا لفترة خمس ساعات يومياً.. وقد شغل ـ فى أسبوع زيارتي للمدينة ـ ثمانية وثلاثون متدرباً في دورة إعلامية تأهيلية نظمتها هيئة الإذاعة البريطانية كل غرفه المتواضعة..


اضطررنا للنزول بفندق أكثر تواضعاً لم يكتمل بعد إنشاؤه، يحمل اسم (أكواتوريا)، وفي إحدى غرفه المعتمة أمضيت ساعات الليل على ضوء خافت ينبعث من هاتفي النقال، أتناول ما تبقى لدىّ من الأطعمة المعبأة، أو أدون الملاحظات والأفكار، أو أطارد الذباب والبعوض.. وأحاول ـ جاهداً ـ نسيان أمر ذلك الضفدع الذي يشاطرني الغرفة...

.........................

وفي (أكواتوريا) نذر مارتن لاقو والطاهر فيليب نفسيهما لخدمتي، وهما نادلان شابان، ما زالا يعملان مجاناً بالفندق على أمل أن يحظيا منه يوماً بوظيفة ثابتة.. قبل أن أرحل عائداً إلى الخرطوم، التمس مني مارتن أن أساعده على السفر إلى أي مكان في العالم، وقدم لي وثيقة تسنينه، وشهادتين دراسيتين.. واحدة فى الإسعافات الأولية، والأخرى من مدرسة تجارية تفيد نجاحه بالكاد.. وقد لفتت الشهادة إلى أنه أعفي من دراسة اللغة العربية، فيما كانت أعلى درجاته في اللغة الإنجليزية... وتذكرت ما قرأته عن مذكرة المندوب السامي البريطاني في القاهرة اللورد لويد في منتصف عام 1929 بشأن السياسة التعليمية التى يتوجب على الاحتلال أن يفرضها في جنوب السودان، زعمت تلك المذكرة بوجود مشكلة لغة في المنطقة الواقعة بين خطي عرض 4 و12 شمالاً، والتي يعيش فيها السودانيون الوثنيون، (إذ أن القبول باستمرار العربية في الجنوب سيؤدي إلى انتشار الإسلام)، واقترحت إدارة المعارف البريطانية ـ بناءاً على تلك المذكرة ـ تشجيع الموظفين على دراسة اللهجات المحلية، وحيث لا يمكن استخدام هذه اللهجات، تحل الإنجليزية محل العربية..

وعندما نظرت ملياً إلى مارتن ـ الذي لم يكن بمستطاعه أن ينطق كلمة واحدة باللغة العربية ـ أدركت كم بذل المحتل البريطاني من جهد، في سبيل طمس هوية الجنوب الثقافية، وماهيته الوجودية، وها هو ـ فيما بدا لي ـ قد نجح...!!

ـ الإسلام في كنيسة !

واحدة من المدارس التبشيرية في جوبا ـ ويبلغ عددها 78 مدرسة ـ كانت تلك التي زرتها بدعوة من مجلس الولايات الجنوبية، وهى عبارة عن مجموعة (هناجر) تحتل قلب المدينة، وتختص بتلقين الدين الإسلامي على أيدي راهبات تطوعن لتلك المهمة بتشجيع من مجلس الكنائس.. وقد استمعت ـ بمزيج من الدهشة والأسف ـ إلى درس عن الفتح الإسلامي لمصر ألقته الراهبة الجنوبية فيليتيكا على فصل من الشباب، علمت لاحقاً أن غالبيتهم من المسلمين..

وفكرت فيما قد يتسرب إلى عقول هؤلاء الشباب عبر برامج تلك المنظمات التبشيرية في الجنوب والتى تزيد على 39 منظمة.. إن التوغل الكنسي في جنوب السودان ما هو إلا امتداد للتدافع الاستعماري نحو أفريقيا، وما هو إلا نتيجة طبيعية ترتبت على غياب المؤسسات الإسلامية العربية عن تلك المنطقة، وعلى رأسها الأزهر الشريف!

ـ ممنوع التصوير !!

جرت عادة السلطات في العالم العربي على تقييد عمل الصحفيين الوافدين، بحيث لا يتوفر لديهم من المصادر والمعلومات إلا ما تم فحصه واختباره أمنياً وسياسياً.. على ذلك النحو أجبرت ـ ضمناً ـ على قبول فريق من المراقبين الحكوميين خلال رحلتي إلى الجنوب، يقتفون أثري أينما ذهبت: مرافق إعلامي من الخرطوم، ومرافقين أحدهما أمني والآخر إعلامي من جوبا.. قد يكون الأمر عند هذا الحد مفهوماً، فالمناطق التي التمست زيارتها ملغومة، وليس من قبيل الرفاهية أن يسترشد الصحفي ولو بأكثر من دليل.. لكن ما أثار حفيظتي هو أن المرافق الأمني الجنوبي ـ ويدعى (الفاتح) ـ دأب على (إغلاق) السبل أمامنا كي ننتخب الأهم في رحلتنا القصيرة، والأهم هنا هو الأشد (بؤساً)، وليس الأشد (بأساً) كما كان يتصور.. وقد توعد أكثر من مرة بإفساد المهمة إذا لم نمتثل لتعليماته.. كان غليظاً إلى حد أنه صارحني باستعداده للنيل من عملنا ـ الذي يلبي في الأساس حاجة بلاده ـ من أجل تنفيذ أوامر رؤسائه....

ـ رسالة العرب !

غداة وصولي إلى جوبا، استقبلني في مكتبه العميد فرتوناتو لونتار آيول وزير شئون الرئاسة بمجلس التنسيق بين الولايات الجنوبية، وفريق من مساعديه، بصفتي أول موفد إليهم من قناة تليفزيونية عربية.. وقد لفتت نظري تلك الديباجات الاحتفالية التي كان على كل منهم أن يستهل بها كلمته، ترحيباً بي، وتفنيداً للأوضاع البائسة في الجنوب، على كل الأصعدة..

وقد دار الحديث من جديد حول الرسالة العربية المفقودة في الجنوب، وهي التي كانت قبيل منتصف السبعينات حاضرة وبقوة، حين وقفت القارة الأفريقية بأسرها كرجل واحد إلى جانب العرب في أعقاب حرب أكتوبر 1973، آنذاك أنشأت الدول العربية المقتدرة مصرفاً لتنمية أفريقيا، ووجهت صناديقها الوطنية للاهتمام بالقارة.. فما الذي حدث الآن؟ تساءل محمد الحاج باب الله وزير الدولة بالمجلس، وأضاف: إن الحكومات السودانية السابقة لم تشجع العالم العربي على التعاون لإنماء الجنوب الفقير، لكن ها هو نظام الإنقاذ يسترد للجنوب عروبته، ويفي بالتزاماته نحو تحقيق الأمن والاستقرار.. فأين هي الاستثمارات التي تعهدت بها الدول العربية إلى السودان في ظل السلام؟

قال فرتوناتو ـ الذي يضع الكتاب المقدس في مكان ظاهر على مكتبه ـ إن فكرة الانفصال ـ التي قد تثير حفيظة بل وانزعاج دول الجوار ـ غير واردة فى الجنوب.. الحركة الشعبية لتحرير السودان ذاتها لا تنادي بالانفصال، ووطنية زعماء الحركة ـ وعلى رأسهم جون قرنق وياسر عرمان ومنصور خالد ـ لا يمكن أن تكون محل شك! بل إن الجنوبيين وحدويون أكثر من الشماليين.. والمصير ـ في كل الأحوال ـ سوف تقرره الثقة بين الجانبين...

وانبرى فرتوناتو وزملاؤه في الشكاية: الألغام وخرائطها الغائبة.. مياه الشرب الملوثة.. المولدات العاجزة عن إضاءة غرفة لمدة نصف ساعة متواصلة.. نقص الأدوية.. الطرق غير المعبدة....

وتساءل مصطفى بيونج مجاك وكيل وزارة الثقافة والإعلام بالمجلس: أليس حرياً بالعرب أن يساندوا خيار الوحدة السودانية بدعم مساعي التنمية في إقليم الجنوب؟ وأليس جديراً بالقنوات العربية أن تقلع عن نهجها الوصائي، وتبنيها ـ بوعي أو بغير وعي ـ نظرية المؤامرة، ومغالاتها في نقل مجريات الصراع، وافتعالها أزمات في الحرب والسلام.. وأن تولي جل اهتمامها إلى الكشف عن ثغرات التكامل المنشود بين الشمال والجنوب، والتنبيه إلى كيفية رأب الصدع في بنيان الوحدة..؟!

ـ الشيطان يعظ !

عندما يردد الغرب أن عداءاً طائفياً يحمل الحكومة السودانية على التعاطي بقسوة مع أبنائها من الجنوب، وأن صحوة المجتمع الدولي إنما تأتي غيرة على الحريات وحقوق الإنسان، علينا أن نتوقف... فمنذ متى والغرب يرعى تلك الحقوق ويحمي تلك الحريات؟ ..لابد أن يستغرب المرء هذه اليقظة الدولية المفاجئة، مع أن المأساة قديمة.. دينق جوج آي ويل منسق الحركة الشعبية في الخرطوم يجسد هول الأزمة عندما يقول لي أن الشعور بالقهر أشد فتكاً من الفقر، وأن الحكومة لم ترغب للمنظمات الدولية أن تكشف عن الأفعال والانتهاكات الخطيرة التي كانت تمارسها هي وميليشياتها في الجنوب.. ومن ثم فقد جرى تقييد نشاط العديد منها فى السودان! ألا يجعل ذلك الوضع بيانات وإحصاءات الغرب عن الانتهاكات المعنية محل اشتباه في كونها مبالغة على أقل تقدير؟

لم يرق رأيي مجدداً للسيدة آن ليز فوسلاند ممثلة منظمة العون النرويجي فى الخرطوم، تلك العجوز التي أدهشتني رقتها، كما أدهشتها الاتهامات التي حملتها إليها من وسائل الإعلام السودانية، بأن منظمتها ـ والعديد من المنظمات الأجنبية الأخرى ـ سهلت لحركات التمرد فى مختلف مناطق النزاع بالسودان أعمالها العسكرية، سواء على هيئة معونات مادية، أو خدمات لوجستية.. علاوة على اتهام تلك المنظمات بإغواء المسلمين لاعتناق الدين المسيحي..

وفي مقر المنظمة أطلعتني آن فوسلاند على منشورات المنظمة التي تحض على العدالة والمساواة، والإقلاع عن العادات الاجتماعية البدائية.. وأهدتني شريطاً يحتوي على فيلم وثائقي عن ختان الإناث، بما هو إجراء وحشي، على المجتمع أن ينبذه ويكافحه...

ـ الرقرقة والشماسة !!

كانت زيارتي الأولى إلى الخرطوم قبل أكثر من أربعة أعوام، وقتها كنت أجري تحقيقاً لبرنامج (مقص الرقيب) حول ما يدعي بيوت الأشباح، التي زعم بأن أجهزة الأمن السودانية تعذب فيها رجال المعارضة! كانت فترة المهمة قصيرة بحيث لم أتمكن من استنباط بعض اللمحات عن المدينة الغامضة، لكنني خلال زيارتي الأخيرة تلك كنت أشد حرصاً على اكتشاف أسرارها..

وقد حظي الرقرقة والشماسة باهتمامي في الخرطوم، إلى حد أنني كنت أبحث عنهم، وأراقبهم في أوكارهم ليلاً حيث ينامون ويأكلون ويقضون حاجاتهم في الخرائب والمقابر وحظائر الماشية.. والرقرقة هم المنسوبون إلى الرقيق باعتبار أنهم جنوبيون وفدوا إلى العاصمة للارتزاق.. وهم (شماسة) بطبيعة الحال، طالما يعملون فى أوقات النهار القائظ، تحت الشمس الحارقة.. وهم يتسولون، ويدخنون الحشيش، ويملؤون الشوارع بالفوضى.. ويستصرخون المسئولين لإنقاذهم من التشرد والشقاء!

ـ وعلى الجنوب السلام...

أين هي الحقيقة؟ إن غاية المسعى في قضية الجنوب المفترى عليه أن نفرق بين الخطأ والصواب، وأن نميز بين الحق والباطل، فى بيئة ملؤها الأكاذيب والمبالغات.. فى السودان ـ بل وفي العالم العربي بأسره ـ يبدو لي أن الأمر أضحى أكثر صعوبة.. ونأسى كثيراً لذلك، إذ غدا الإعلام بألوان طيفه المختلفة ـ وبأيدي بعض من رجاله ـ راعياً لتلك الأكاذيب، ومفرطاً في تلك المبالغات..

محمد سعيد محفوظ

[email protected]