باسم العدل! بقلم:محمد سعيد محفوظ
تاريخ النشر : 2005-11-14
باسم العدل! بقلم:محمد سعيد محفوظ


يتطلع إلى أوروبا كثير من أبناء العالم الثالث كأنما هي فردوس العدل والحرية والمساواة.. حتى عندما طرأت تحولات على خارطة السياسة الأوروبية جعلتها أكثر التحاماً بالصهيونية، ومن ثم أشد استخفافاً بحقوق العرب والمسلمين، آثر المهاجرون والوافدون أن يسددوا الكلفة الباهظة لبقائهم في حاضرة الاستعمار الحديث، من بعض كرامتهم ـ التي كانوا يفقدونها إجمالاً في بلدانهم الفقيرة ـ

عن عودتهم إلى حيث يعتقدون أنه الأسوأ على الإطلاق...

من بين هؤلاء كان المواطن المغربي كريم كمال، الذي ولع بفرنسا ونزح إليها مبكراً، فكانت حياته سلسلة من النكبات، أصابت عواطفه، وشرف ابنته، وأسرته، وحتى أقرب أصدقائه...

كريم ـ الذي استحال رمزاً بائساً للطامعين في فردوس مفقود ـ تزوج من سيدة فرنسية يشغل والدها موقعاً بارزاً في قصر العدل.. وقبل أن تتم ابنتهما لوريان عامها الأول، كان جدها قد انتحر على نحو غامض، وافترق الزوجان بالطلاق..

ثم تورطت الزوجة في شبكة لدعارة الأطفال تتألف من رجال القانون، بل ودفعت بطفلتها إلى احتفالات الرذيلة، التي كان القضاة يخلعون فيها ثياب الحكمة والعدالة، ويسبحون في بحيرات الخمر والشهوة المحرمة...

هكذا وجد كريم نفسه في محيط غير ذاك الذي كان يتطلع إليه ببراءة من نافذة بيته على تل في مدينة طنجة المغربية.. محيط ملؤه التناقضات والغرائب، حيث تقترف الآثام باسم العدل، وينحسر الشعور بالأمان، ليحل محله نظام فاسد غير قابل للإصلاح...

بين مدينة نيس ـ حيث تجرى وقائع الفساد القضائي ـ وجزيرة كورسيكا ـ التي شهدت مقتل الصحفي نيكولا جوديسي قبل أن يفضح سر عصابة القضاة ـ كانت رحلتي للبحث عن أسرار القصة، ليس فقط لأن واحداً من أبطالها ينتسب إلى بلد عربي ـ وقد كلفه الدفاع عن شرف ابنته ثمناً باهظاً، فدفع قسراً إلى الهرب، وعوقب محاميه، وقتل صديقه، وحكم على شقيقته بالسجن ـ ولكن أيضاً لأن العديد من أوجه الشبه ربما تصادف القارئ، بين ما يجرى في محيطنا العربي، وما قد يجرى في دول طالما تغنت ـ على لحن سذاجتنا ـ بأناشيد الحرية وحقوق الإنسان...!

...........................

غادرت فجراً حيّ مونبارناس ـ الذي ينتسب لثاني أعلى ناطحات باريس ـ متجهاً إلى محطة قطار ليون في شارع ديديروت.. كان مرافقي سعد الخير ـ المصري الفرنسي ذو البشرة السمراء ـ ينتظرني في طابقها الأرضي عند برج الساعات الأربع..

لم يكن لدينا من وقت لتبادل التحية، ساعدني ـ وهو يحث الخطى ـ في دفع عربة الأمتعة إلى أحد الأرصفة، حيث كان القطار السريع TGV يتأهل للانطلاق.. وبحماس يتجاوز به عقده الرابع، ألقى بحقائبي الثقيلة إلى مدخل المقصورة الثامنة، ثم لحق بها، فيما شرع القطار الفاخر في رحلته المثيرة إلى مدينة نيس...

لا عدل في فرنسا !

لم يمض على وصولنا إلى نيس سوى ساعات حتى كان يستقبلنا في منزله حكيم كمال ـ شقيق المواطن المغربي كريم كمال ـ والذي صارت بحوزته أكوام من الأدلة والوثائق حول شبكات دعارة الأطفال في فرنسا...

شرح لي حكيم كيف اقترن شقيقه بسيدة فرنسية تدعى ماري بيير جويو بعد عطلة قضتها بالمغرب في صيف العام 1990، وقد أغدقت عليه ـ وعلى ابنتهما لوريان ـ جرعات وافرة من الحنان والاهتمام، إلى أن (وقع أول حادث مأساوي لدى وفاة والدها ـ المدعي العام السابق في محكمة التمييز ـ عندما وجد منتحراً برصاصة في رأسه داخل منزله الريفي!!)، ليضعنا ـ والحديث على لسان حكيم ـ أمام أعقد الالتباسات في تلك القصة.. خاصة إذا علمنا أن أم السيدة جويو شهدت 15 عاماً من المحاكمات ضد الزوج قبل انتحاره، وأن ماري بيير نشأت على كره والدها، وأن هناك اعتقاد بأن الأم كانت وراء مقتله بعد أن اكتشفت خيانته لها.. وبعد ذلك الحادث بشهور قليلة، اقتلعت مارى من حزنها بدوام جزئي في أحد المصارف، (واستعادت حيويتها حين التقت عشيقها فيليب دولان، وطلقها كريم، ليسوء الوضع تدريجياً!)...

بين عامي 1993 و1994 حاول كريم حث الشرطة الفرنسية والنائب العام والمحكمة للتحقيق في اتهاماته ضد طليقته وآخرين، بخصوص الاعتداء الجنسي الذي تعرضت له ابنته لوريان، طبقاً لما تم إثباته في تقارير طبية ونفسية لخبراء المحكمة المعتمدين.. لكن لم يرفض النظر في تلك البلاغات قضائياً فقط، بل شرعت الشرطة والقضاء ومكتب النائب العام في ملاحقة كريم ولم تتورع عن القيام بممارسات باتت تشكل خطراً على حياته، منها: الاعتقالات الجائرة المستندة إلى خلفيات ملفقة، والتهديد بالمضايقات والإدانة، وربما الأسوأ من ذلك كله هو حرمانه من حقوقه الأبوية..

صمت حكيم، وهو يصب لي مزيداً من الشاي المغربي في كأس كريستالي مزدان بنقوش تقليدية، ثم أخذ نفساً عميقاً قبل أن يضيف: هذا الملف محقون بالفظاعات القضائية.. ثمة إبطال للعدل في كل صفحة من صفحاته بحق كريم، وكل من درسه استهجن التعاطي معه على هذا النحو من قبل النظام القضائي في فرنسا.. وأنا لا أقول العدل، بل النظام القضائي، لأنه (لا عدل في فرنسا)...!

العــار !

أقلني سعد مساءاً بسيارة مستأجرة إلى مطار كوت دا زور على أطراف نيس لمقابلة لورانس بينوه ـ مؤلفة كتاب (العار) مع سيرج جارد حول دعارة الأطفال في فرنسا ـ حيث كان يفترض بها أن تنتظر في المطار ساعتين لتبديل الطائرة أثناء رحلتها من روما إلى باريس.. دعوتها لتناول العشاء في مطعم لوميركانتور بإحدى صالات الانتظار، منصتاً بإمعان إلى معلوماتها وتحليلاتها بشأن قضية لوريان كريم كمال...

قالت لورانس بدهشة مفرطة وهي تشعل سيجارة: إنني أفهم أن يرغب كريم في حماية ابنته، لكن ما لا يصدق في القضية هو الطريقة التي جن بها النظام القضائي.. ولا أقصد فقط الاستغلال الجنسي للأطفال على أيدي قضاة، بل الشذوذ القضائي، الذي تثبته تسجيلات هاتفية لديّ بصوت والدة لوريان تخاطب بحميمية رجال القضاء الذين كان يفترض أن يحكموا في قضيتها.. والأشد غرابة أن الحكومة الفرنسية لم تقم بالإجابة عن كل الأسئلة المتعلقة بها، وأهمها: إن كانت أغلب أسرار القضية قد تكشفت، فلماذا بقى المتورطون حتى الآن في مواقعهم؟

سألتها عن المضايقات التي تعرضت لها في فرنسا جراء تأليف ونشر كتابها، فقالت أنها تلقت تهديدات بالقتل والخطف، وإطلاق الشائعات.. وكأن العار ـ الذي هو عنوان الكتاب ـ لم يكن فقط ذلك الذي يلحق بتاريخ قصر العدل، إذ يخيب فيه أمل المستضعفين، قدر ما هو عالق بجبين الحكومة الفرنسية، وهي لا تخجل من ممارسة الإرهاب الفكري على أصحاب الرأي، في بلد ظهر أخيراً أنه أقل ديمقراطية مما كنا جميعاً نظن....

عصابة القضاة !

على شاطئ ريفييرا الساحر، لم يكن الغضب جامحاً إلى هذا الحد من قبل، ولم تكن المحكمة العليا موضع شبهة كما هي الآن.. أكثر من عشرين قضية تطال سمعة هذه المحكمة، واشتباه فى هيمنة النفوذ الماسوني على قراراتها، وقضاة يعبثون في الظلام باسم القانون: يثأرون من خصومهم، ويتحرشون بقصّر فى أمسيات فسق وشذوذ...

في نوفمبر من العام 1999 تم تعيين إريك دى مونجولفييه بمنصب رئيس الادعاء العام في نيس، ولم تمض شهور على تعيينه حتى لاحظ دى مونجولفييه مدى فساد الشرطة المحلية والجهات القضائية، وفي 22 مارس 2000 أعرب أمام المجلس القضائي الوطني الفرنسي عن يقينه بأن قضية كريم كمال تم الفصل فيها بإهمال مقصود، وأن لديه العديد من الشكوك حول هذه القضية.. وقبل شهور فقط تلقى تهديداً بالقتل ما لم يكف عن محاولات كشف المستور في أحشاء قصر العدل..

لدى وصول فريق المحققين المكلف بالتقصي في دعواه، كان دى مونجولفييه ـ بمفرده ـ يذرع بهو المحكمة جيئة وذهاباً، فقد رفع شكوى علنية إلى أعلى المستويات في الحكومة الفرنسية، التي لم يسبق لها أن ساندت أياً من مساعيه لتطهير مؤسساتها.. فهل سيفلح المحققون السبعة هذه المرة في تشخيص علل القضاء، وإدانة العصابة السرية، المؤلفة من رجال العدل والإنصاف؟!!

خصوم دى مونجولفييه يستنكرون اتهاماته، ويبررونها بادعاء أنها تصفية حسابات، وتعبير سافر عن عداء شخصي.. من هؤلاء جان بول رونارد رئيس هيئة القضاة بالمحكمة العليا في نيس، الذي يحمّله دى مونجولفييه نصيباً من المسؤولية عن الفساد يفوق نصيب حلفائه في قصر العدل.. وفي يونيو من عام 2001، لم يتردد دي مونجولفييه في احتجاز رونارد لاتهامه بتسريب معلومات سرية إلى محفله الماسوني الكبير...

كانت المرة الأولى التي ورد فيها اسم رونارد على لسان الطفلة لوريان كريم كمال، في تسجيل صوتي يعود إلى يونيو من عام 1994 ـ عندما فر بها والدها إلى لوس أنجلوس ـ اعترفت فيه على استحياء للأخصائية النفسانية الدكتورة نيكول جيلبرت بأنها كانت تخضع كل مساء للتحرش الجنسي من قبل أصدقاء والدتها، ثم ذكرت مجموعة من حضور هذه الأمسيات الماجنة، فكان منهم رجل القضاء البارز جان بول رونارد...

قصر الصمت !

كان أكبر تجسيد لسلطة القضاء المتداعية في نيس ـ إزاء تصاعد نفوذ قوى أخرى على نحو مبالغ به ـ هو ما جرى لي في ذلك الصباح، عندما توجهت إلى قصر العدل راغباً في مقابلة دي مونجولفييه للاستماع إلى شهادته.. وكنت قد اتصلت به عبر الهاتف مراراً، ولمست من نبرته حذراً لا يتناسب مع ما نقل إليّ عن شجاعته وعناده.. لذا فقد قررت أن أباغته بزيارة في مكتبه بالطابق الثالث من ذلك القصر العريق..

غير أن مديرة مكتبه ـ التي استغرقت نحو نصف الساعة في بحث الأمر معه ـ أبلغتني برفضه القاطع إجراء المقابلة من دون توضيح الأسباب، وأن الأمر لا يتعلق بالفجائية التي جاءت عليها زيارتي، إذ اعتذرت عن ترتيب أي موعد آخر ولو بعد حين.. فهل قامت الحكومة الفرنسية بالضغط عليه؟ وهل سيغلق الملف كاملاً بالصمت؟ وهل من إشارة تفوق ذلك إلى تواطؤ بين أعلى المستويات في الحكومة الفرنسية وعصابات دعارة الأطفال؟ وهل... وهل....!! هكذا ظلت علامات الاستفهام تفترش طريقي، فيما أغادر ذلك المكان المهيب، الذي صار ـ فيما بدا لي ـ قصراً للصمت، أكثر بكثير مما هو للعدل....

......................

ذات صباح من ذلك الأسبوع الحافل، اصطحبني حكيم في جولة بمدينة نيس الصاخبة، حيث تقع أغلب الأمكنة التي شهدت أحداث قصة اضطهاد شقيقه، وفي مقدمتها منزله في 16 شارع دى مانيو، الذي أمضى به شهوره الأولى بعد الطلاق، والذي استقبل فيه ابنته لوريان عندما كان عمرها لا يتجاوز الرابعة، وأخضعها لفحص الأطباء حين اكتشف 12 كدمة في مختلف أنحاء جسمها من جراء التحرش الجنسي بها.. وقد لاحظت الشرفة التي جرت محاولة من قبل بعض المأجورين لإلقاء كريم منها، انتقاماً للفضيحة التي ساعد الإعلام على إثارتها بحق القضاء الفرنسي...

.........................

أرشدني حكيم للمصرف الذي تعمل به ماري بيير جويو طليقة كريم كمال، والتي يشتبه في ضلوعها هي الأخرى بشبكة دعارة الأطفال، بل واستغلال ابنتها في ذات النشاط اللعين..

التمست ـ بلغة إنجليزية لم تخف هويتي العربية ـ مقابلتها من موظف الأمن، فبادر بإجراء اتصال عبر جهازه اللاسلكي لاستدعاء زميل له، خمنت أنه المكلف بحماية ماري، وتسلمني الرجل بشغف كغنيمة كان في انتظارها، ظاناً بأنني مبعوث من طرف كريم كمال لإلحاق الأذى بطليقته، أو ـ بتقدير أكثر تعاطفاً ـ مضايقتها..!

بعد التحري عن شخصيتي، وافق على نقل رغبتي إليها، وقد علمت لاحقاً أنها ـ بدورها ـ استشارت محاميها، ومن ثم سُمِح لي بالدخول إلى غرفة مكتبها، المؤثثة على نحو أكثر بساطة مما أوحت لي به إجراءات الأمن..

استقبلتني بود متصنع، واستمعت بحذر إلى دعوتي إليها عبر برنامج (تحقيق) لاستعراض تبريراتها أمام الرأي العام العربي المنحاز لطليقها ذي الأصل المغربي، وتوفير الفرصة لابنتها ـ التي بلغت عامها الثالث عشر ـ كي تشرح بحياد تام موقفها من والدها، وتؤكد أو تنفي ادعاءاته بشأن الاعتداء عليها جنسياً.. وهكذا، بعد اتصالها هاتفياً بجهة مجهولة، أبدت ماري موافقتها على إجراء وتصوير المقابلة ـ بحضور حارسها الخاص ـ في مساء نفس اليوم...

............................

وعندما كان ضوء الشمس ينحسر عن سماء نيس، وقفت سيارة سوداء أمام فندق نوفال في 19 مكرر شارع فيكتور هوجو.. ونزلت منها ماري بيير وابنتها لوريان بصحبة حارس خاص، وقصد الثلاثة باحة الاستقبال في الفندق، حيث كنت بانتظارهما.. كانت ماري ـ بملامحها الحادة، وودها المريب ـ قد أمست أكثر حيوية وحماساً، فيما كانت لوريان منطوية على ذاتها، مضطربة، وشاردة، وقد بدت وكأنها أكرهت على الحضور، أما الحارس الخاص فقد واظب على ترديد عبارات مبهمة في جهاز إرسال لاسلكي، ولاحقاً أخبرتني ماري أن محاميها تلقى مجريات اللقاء أولاً بأول على نحو تفصيلي عبر هذا الجهاز الدقيق...

الموت لأبي !

في قاعة رطبة وكئيبة تحتل الطابق السادس بالفندق، قالت لي لوريان بنبرة حزن متكلف: ... لم يسبق لأحد أن دنسني، لم يسبق لأحد أن اغتصبني، إنني أعيش بسعادة مع أمي، وهذه ليست سوى أكاذيب!! سألتها: لكن كانت هناك 12 كدمة قيل أنها بفعل المتحرشين! قالت : لا آبه لما قيل، فقد كانت طفولتي عفوية، وكنت أقع أرضاً بكثرة مثل بقية الأطفال، لا سيما عندما كنا نلعب (اللقيطة) ـ حيث يركض أحدنا خلف الآخر ـ وهي لعبة تشتهر في فرنسا.. وكانت إصابتي بآثار زرقاء حجة للادعاء بأن أمي هي السبب، لكن هذا هراء..!!

سألتها مقاطعاً: إذن كيف تفسرين اعترافك أمام الدكتورة نيكول جيلبرت بخضوعك للاعتداء الجنسي عندما كنت في الخامسة من العمر؟ ردت لوريان بلهجة مستهترة: سأقول فقط أن نيكول جيلبرت شريرة للغاية، لئلا أكون وقحة.. ولابد أنها تحب المال، لأن أبي دفع لها أجراً لتسجيل مثل هذه الادعاءات.. كنت في عامي الخامس، وضعيفة، وفي تلك الأثناء كانت نيكول تقدم لي الشوكولاتة، وصوراً للتلوين، لإغرائي بترديد مثل هذه الأكاذيب، ومن ثم تسجيلها... لقد كان أبي قاسياً معي، كان شريراً لعلمه أنه ليس باستطاعتي الدفاع عن نفسي، فقد كنت صغيرة، ورغم ذلك أجبرني على التحدث مع أشخاص مثل نيكول وغيرها من أصدقائه الذين قصدوا المنزل الذي (احتجزني) به في ولاية كاليفورنيا... قاطعتها مندهشاً: ...احتجزك؟؟ أجابت: نعم بكل تأكيد.. لقد احتجزني ذات مرة في الحمام لعدة ساعات، ولم أكن بعد قد بلغت الخامسة من العمر...!!

ظلت لوريان تتحدث على نحو لم يبد تلقائياً على الإطلاق.. وكانت الأم ـ التي انزوت في ركن من الغرفة ـ ترسل إليها بين حين وآخر إشارات غير مفهومة، وكأنما تم تلقين الطفلة تلك الأفكار السلبية عن والدها، وقد رددتها بجدارة.. حتى شارف الحديث مع لوريان على نهايته، فإذا بها تقول فيما يشبه خلاصة مشاعرها إزاء والدها: إنني أحب أباً، لكنني لا أحب هذا الأب.. فقد جعلني أتألم، وهو غير جدير، وفظيع، وشرير، ولا يحتمل.. إنني أنكره، وإن أمكنني.. سأقول له إنه ليس حتى غريباً عني، فهو لا شيء، إنني أرغب في موته...!!

شهود يهوه !

غادرت لوريان مقعدها، لتحل محلها والدتها ماري بيير، بما هي ثاقبة النظرة، شديدة الاقتضاب في عباراتها، لا ينطوي سلوكها عن أدنى تردد أو مجازفة.. وحالما اتخذت ماري موقعها قبالة الكاميرا، استعدت بابتسامة باردة، ونبرة خفيضة.. ثم راحت تدلي بعبارات بليغة لا يمكن بحال أن تتأتى في الحال، تزينها عاطفة مشروطة بمدى التجاوب مع مواقفها وآرائها..

قالت: إنها قصة رجل لم يحتمل الطلاق ـ إذ كنت أنا من طالب به ـ فلفق ملفاً كاملاً يرتكز على قضية التمييز العرقي، ثم تحول الأمر إلى اتهامات دنيئة باشتهاء الصغار.. بعدها اتهمني بممارسة الجنس مع صديقي أمام ابنتي، وعندما اكتشف المحققون أنهم يتعاطون مع كاذب، ولاحظ هو أنهم سيفضحون أمره، هاجر إلى الولايات المتحدة..

وأضافت: الحق أن والدته ساهمت كثيراً في خلافاتنا الزوجية، فعند ولادة لوريان أهدتني اشتراكاً مجانياً لعام في تور دو جارد ورفيي فو وهما مجلتان تابعتان لطائفة شهود يهوه التي تنتمي إليها، وقد أفهمتها أنني لن أعتنق طائفتها تلك، وعندئذ تدهورت علاقتنا..

سألتها: هل صحيح أن والدك قتل على يد والدتك بعد اكتشافها خيانته؟ وأن الأمر يتعلق بتورطه في دعارة الأطفال؟ أجابت على الفور: قطعاً لا.. لم يقتل أبي، لقد قرر وضع حد لحياته، حيث كان شخصاً مكتئباً يضطلع بالكثير من المهام في عمله، وهو يعاني الاكتئاب منذ نعومة أظفاره، وقد مات لأنه رغب في ذلك، وليس من لغز في الأمر..!! أعتقد أن الأخبار البذيئة رائجة جداً في فرنسا، خاصة حين يتعلق الأمر باشتهاء الأطفال والمداعبة الجنسية، وشبكة نفوذ... ولابد أن الكثير من الصحفيين تعرضوا لخداع كريم كمال، وبعضهم عرف الحقيقة، لكنه فضل تحقيق المبيعات..

ثم استبعدت ماري أن تكون هناك أية علاقة بين مقتل نيكولا جوديسي وقضيتها مع كريم كمال، وقالت: إن توجب أن يقتل أحدهم نظراً إلى الفظائع المدونة في كتابهما (انتهاك قضائي) ـ والتي كانت مجرد أكاذيب ـ فلن يكون بالتأكيد نيكولا جوديسي، سيكون ربما كريم كمال..

........................

عند ذلك الحد ـ وبعد نحو ساعة ـ كانت ظلال داكنة قد ارتسمت على اللقاء، قبل أن ينفض، وتغادر الأم وابنتها بصحبة الحارس المنهمك في بث رسائله اللاسلكية.. فيما شعور ضامر يخالجني بأن ضيفتيّ أخفتا معظم الحقيقة، فلا أقنعتني عباراتهما الاختزالية النافية على الدوام كل الادعاءات، ولا أرضتني مواظبتهما الدؤوبة على ترديد مفردات عربية بل وإسلامية، بطريقة لا تخلو من التزلف والنفاق..

ذات مساء في كورسيكا !

أبحرت مساء اليوم التالي من مرفأ تولون الصاخب على متن السفينة كورسيكا فيري قاصداً باستيا المرفأ الشرقي لجزيرة كورسيكا.. شقت السفينة المهيبة طريقها في بحر ليجوريان، وسط أمواجه المصطخبة وتحت الأمطار الجليدية الكثيفة.. وبدت لي خطوب ذلك الطقس الثائر من كوة صغيرة في القمرة 7004، كحلم ملتبس في قلب الظلام، تماماً كتلك الجريمة التي ها أنا ذا أقترب من مسرحها الغامض في جزيرة كورسيكا المنعزلة.. وأخيراً وضعت الباخرة مرساها على شاطئ الجزيرة بعد الفجر...

..............................

وفي منزل ريفي يتوسط حقلاً حافلاً ببرك المياه والكلاب الضالة، استقبلتني كلاير جوديسي شقيقة نيكولا جوديسي، وهي امرأة رقيقة في العقد الخامس من العمر، لكنها صلبة العود.. ذات بشرة شقراء، وعينين واسعتين تؤطرهما بعض التجاعيد.. وقسمات حادة، تخلو من أثر لزينة نسائية.. وتعيش في هذا المنزل البسيط ذي الطابقين ـ في غياب ابنها الشاب بيير ـ مع صديقها ميشيل البالغ من العمر نحو ثلاثين عاماً..

غالبت دموعها، وهي تقول: صباح الأحد 17 يونيو من عام 2000، علمنا أن سيارة شقيقي وجدت محترقة في واد.. وعلمنا أنه قتل، وأن جثته على طريق بايي ريش المطل على السهل الشرقي بين سان نيكولا مولي أوريان وسانتا ماريا بوشلا، قرب مصدر ماء يدعى نبع مايل، ومع ميشيل ذهبت للتعرف على الجثة... كان نيكولا مرمياً على جنبه، وساقاه مطويتين، وكان الدم على وجهه وصدره وعلى ذراعه، وكان قميصه ممزقاً.. وبدا للوهلة الأولى أن عدة طلقات نارية في الرأس والقدمين من عيار صغير قد أودت بحياته، قبل أن يستولى القاتل على السيارة، ويهرب بها لمسافة 80 كيلو متراً من موقع الجريمة، ثم يتركها على طرف الطريق، ويختفي، من دون أن يخلف وراءه أي أثر...

كان نيكولا قد غادر لتوه مقر جامعة كورت، مزهواً بخطابه الذي أدلى به في اجتماع مع ممثلي النقابات العمالية بالجزيرة لمناقشة البطالة وتشغيل الشباب.. لم يكن شقيقي محرراً بارزاً في صحيفة نيس ماتان وحسب، بل كان مناهضاً عنيداً للفساد الحكومي في الجزيرة، وكان صدى كتابه (غسق كورسيكا) ـ حول أسباب تأخر الجزيرة اجتماعياً ـ ما زال يتردد بإلحاح في آذان المسئولين الفرنسيين، الذين كانوا قد ضاقوا باندفاعه وجرأته...

كان يفترض به أن يتناول العشاء مع أحد أصدقائه المقربين في منطقة كورت، ثم يسافر إلى مدينة باستيا في الجانب الشرقي من الجزيرة، قاصداً أحد الشاليهات المطلة على شاطئ البحر.. لكنه ـ وعلى نحو مفاجئ وغير مبرر ـ ألغى موعده مع صديقه.. ثم استقل سيارته، وتوجه بها مسرعاً في طريقه إلى باستيا، فيما كان الظلام الدامس ينشر أجنحته فوق أرجاء الجزيرة...

وتتنهد كلاير وهي تضيف: لا نعلم ولا نفهم السبب وراء تلك الجريمة، لا شك في أن من قتله أراد شيئاً ما، أظنها كانت تهديداً لشخص أو جهة ما، أكثر منها رغبة في القتل..

وحول صلة كتاب (انتهاك قضائي) ـ الذي كان نيكولا يعتزم إصداره بالتعاون مع كريم كمال ـ قالت كلاير: أعلم أن كريم أرسل ـ قبل الحادث ـ أسطوانة ليزر إلى نيكولا تتضمن معلومات خطيرة، وكان يفترض بهما عرض مسودات الكتاب على بعض الناشرين، ومنهم جراسي، لكن المسودات واسطوانة الليزر اختفت بعد الجريمة مباشرة...!

دقيقة حداد عند نبع مايل !

اصطحبتني كلاير بعد ذلك إلى نبع مايل، حيث عثر على جثة شقيقها نيكولا جوديسي.. كانت الأمطار تهطل بغزارة، فيما كنا نتقدم في الأدغال بخليط من الألم والحماس.. وعندما وصلنا، كانت شجرة زيتون ترتوي من ماء المطر قد احتلت مكان جثة نيكولا، وبعد أن وقفنا دقيقة حداداً على روحه، علقت كلاير بقولها: لقد زرعنا هذه الشجرة رمزاً للسلام الذي نادى به شقيقي.. بالنسبة إليّ لم يمت نيكولا، والحقيقة أنه في 17 يونيو عند العاشرة صباحاً، وعند وصولي إلى نبع مايل، مت أنا أيضاً، منذ ذلك الوقت ما عدت موجودة، أتظاهر فقط بالعيش، وأعيش لكي أعلم من قتل شقيقي ولماذا.. لقد صار هذا هو هدفي الوحيد في الحياة..

............................

عندما عدت إلى باريس بعد بضعة أيام، قصدت مقر منظمة صحفيون بلا حدود في 5 شارع جيوفري ماري.. طبقاً لموعد مع روبرت مينار رئيس المنظمة، الذي أكد على أنه (في جنوب فرنسا بالفعل تتدخل المافيا في عدد من الإدارات، ومنها النظام القضائي، وبخاصة في نيس وتولون، كما أنه في كورسيكا ثمة علاقات لأشخاص متورطين بين الطبقة السياسية والحركة الاستقلالية والمافيا.. ولكل ذلك عواقبه على النظام القضائي).. وهو ما يوافق عليه هيثم مناع الناطق باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان فى باريس، إذ قال لي: ليس تورطاً فحسب، بل تغلغلاً للفساد والماسونية في الجهاز القضائي الفرنسي، وقد كان ذلك الضلوع السري فيما قبل على صعيد السلطات الثلاث، ويكفي أن الماسونية أوصلت عدة رؤساء للجمهوريات وعدداً من النواب لمواقعهم.. الآن إحدى صور ذلك الفساد هو استغلال الأطفال جنسياً بتغطية وحماية من الماسونية..

...........................

إن مثل هذه القضية ـ التي لم يسمع بها على الأرجح أي مواطن عربي من قبل ـ تضعنا في بؤرة دائرة واسعة من التساؤلات: ما الذي ينطوي عليه من دلالات غض الطرف من قبل السلطات الفرنسية عما يجري في أوساط القضاء من انتهاكات ليس لها حد؟ وما هي علاقة ما يدور سراً في قصر العدل الفرنسي بمحافل الماسونية التي يبرهن البعض على ضلوعها في تلك المخالفات؟ وهل صحيح أن أعلى المستويات في الحكومة الفرنسية قد انزلقت في تجارة الأطفال غير المشروعة، باسم العدل؟

محمد سعيد محفوظ

[email protected]