آليات الخطاب النقدي في شعر أحمد مطر بقلم:د رضا محمد جبران
تاريخ النشر : 2013-08-06
هذا البحث جزئية مهمة وطريفة تتميز بالجدة والبراعة تفرد بها الشاعر العراقي المبدع والمتميز أحمد مطر في شعره وهو يستوعب تجارب حياته المناقضة للأنظمة الدكتاتورية القائمة على الظلم والقهر والاستبداد وقد تولى أمر مهاجمتها بخطاباته النقدية اللاذعة المملؤة سخرية وازدراء وفق آليات جعلها تخدم أغراضه وموضوعاته التي فضح بها أبعاد التفكير واستراتيجيات السياسة لدى الحكام الذين زرعوا الرعب في قلوب شعوبهم بالملاحقة والتربص والظلم والقهر والقتل وتبديل الأمن بالخوف دون وجه حق, وقد اتخذ الشاعر أسلوبا متميزا في السخرية من أولئك الساسة وجلاوزتهم الذين كانوا يد البطش التي يبطشون بها وتعددت آلياته في تجسيد طبيعة تلك الوحشية بأبجديات الكتابة والقراءة التي سار عليها في ضبط قصائده المتمثلة في علامات الفصل والوصل المرصعة بعلامات الترقيم, وهذه ميزة أخرى تضاف لهذه النصوص المتميزة خلاف ما قامت عليه نصوص الأدب الحديث الذي فكك أطراف التواصل بين الباث والمتلقي؛ لتسهم تلك العلامات في توضيح القصائد وفهمها وحسن قراءتها, وتوصيلها للمتلقي, بالإضافة إلى أهم جزئية في البحث تتمثل في براعة الختام في قصائده التي تختزل في بيت أو كلمة تستوعب كل معاني قصائده التي يستملحها القارئ والمتلقي , المملؤة مفاجأة وصخبا بعد فوضى حواسه في ترتيب عناصر تلك القصائد حيث يرتبط موضوع القصيدة مع خاتمتها بصور محسوسة من واقع الحياة , قد لا تتفق مع عنوانها الذي خصصه الشاعر لتزيد الدهشة والتشوق لقراءة المزيد ,فتلك هي المفارقات الجميلة الرائعة التي لاحت في أفق الباحث أثناء قراءته لقصائد هذا الشاعر الفذ في اشتماله لحياة الشعوب المقهورة بأيدي حكامها فجعلته يكتب هذه الأسطر المفجوعة بمرارة تلك الرؤى السحرية الشعرية التي هدمت جدار الصمت والباطل بأسلوب موح طريف بسيط يخترق شغاف قلوب شذاة الأدب والحياة ومنها نسعى لتوصيف تلك العبقرية الشاعرة الساخطة.
لقد برزت وتنامت ريادة بعض الهامات الشعرية الكبيرة في وطننا العربي وطبقت الآفاق واستحوذت على مشاعر كثير من الناس بتطرفها وشذوذها عن الساسة وواقع الحياة السياسية والأنظمة الدكتاتورية التي هيمنت على الأمة العربية فضيقت على الأحرار الخناق وكتمت أنفاسهم وأزكمت أنوفهم بمشموم روائحهم النتنة, التي خلقت بتظلمها أجيالا من شذاة الأدب والحياة الذين مارسوا التمرد على أولئك الساسة ووقفوا في وجه تعنتهم واستبدادهم وحولوا أدبهم رسائل موجعات للتنغيص على أولئك الظلمة من طلاب الكراسي مصداقا لقول المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم : (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) , فما كان من هؤلاء النخبة من الأدباء والشعراء إلا أن يلتحموا مع صفوف الدعاة المعارضين الذين رفضوا الخنوع والاستكانة وتلبية مزاجات المستبدين الذين يسعون إلى تعمية بصائر الأحرار وذر الرماد في عيون المبصرين الذين أبصروا الحق واستقامت لهم دروب الحياة بكفاف وعفة وطهارة بعيدا عن عهر الساسة وزبانيتهم.
ومن أبرز هذه الشخصيات الأدبية التي تذمرت وتنكبت عناء مشاكسة واقع حياة الأنظمة الظالمة الشاعر الفذ صاحب التجربة الرائدة في مجال السخرية والنقد السياسي والنكثة الهادفة الشاعر المبدع أحمد مطر, الذي ولد في مطلع الخمسينات، بقرية التنومة بالبصرة,والتي كان لها تأثير واضح في نفسه، فهي تنضح بساطة ورقّة وطيبة، مطرّزة بالأنهار والجداول والبساتين، وبيوت الطين والقصب، وأشجار النخيل التي لا تكتفي بالإحاطة بالقرية، بل تقتحم بيوتها، وتدلي سعفها الأخضر واليابس ظلالا, كتب أحمد مطر الشعر مبكرا، في نطاق الغزل والرومانسية، لكن سرعان ما تكشّفت له خفايا الصراع بين السُلطة والشعب، فألقى بنفسه، في فترة مبكرة من عمره، في دائرة النار، فدخل المعترك السياسي من خلال مشاركته في الاحتفالات العامة بإلقاء قصائده من على المنصة، مشحونة بقوة عالية من التحريض، الأمر الذي اضطر الشاعر، في النهاية، إلى توديع وطنه ومرابع صباه و استقر في الكويت وبعدها انتقل إلى لندن، ليُمضي الأعوام الطويلة، بعيداً عن الوطن في صراع مع الحنين والمرض، مُرسّخاً حروف وصيته في كل لافتـة يرفعه , موجزا أسباب رحيله عن الوطن بقوله :
سبعون طعنة هنا موصولة النزفِ
تبدي ولا تخفي
تغتال خوف الموت بالخوفِ
سمّيتها قصائدي وسّمها يا قارئي : حتفي !
وسّمني منتحراً بخنجر الحرفِ
لأنني في زمن الزيفِ
والعيش بالمزمار والدفِ
كشفت صدري دفتراً
وفوقه كتبت هذا الشعر بالسيفِ
فهو أحد أدباء المهجر الذين تركوا الوطن دفاعا عن الوطن, ورضوا بالغربة خارجه خشية الاغتراب داخله, مثل حياة شريكه في النضال الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري الذي عرف بمواقفه من السياسة والأنظمة الظالمةوقد كان الشعر هو الوطن في حياتهم والوطن هو الحياة فصبروا وكابدوا من أجله وتعللوا بمقولة الحكيم الصيني " ولدوا فتعذبوا فماتوا"( ). حيث يقول الجواهري :
ألاَ لَا تَسْألانيِ ما دَهَانـيِ
فعن أيَّ الحوادثِ تســـألانِ

بَكَيْتُ وما على نفسي ولكـنْ
على وَطَنٍ مُضامٍ مُسْتَهـــانِ

على وَطَنٍ عَجَيْفٍ ليس يقوُى
على نُوَبٍ مُسلْسَلَةٍ سمِـــان

حياتي للعراق فدِىً ووقــفٌ
على وطني ومُصلِحهُ كياني ( )

أو كقوله في معرض آخر:
فما أدرى غُدَّوى من رَواحـي إلى ألمٍ وعن ألمٍ مَسيـــري
رماني الدهرُ من كلَِّ النواحـي وما أختارُ ناحيةً لأَنـــــي
ظروفٌ مُغرماتُ باجتياحــي وملُْ القلب إذِ حَبَستْ لسانــي
وبعضُ الشَّر لو فاضت جارحي جراحٌ لم تَفِضْ فمُلِئْنَ قَيْحـــاً
تعدُّ الخمرَ مَجْلبةَ ارتيــــاح رأيتُ معاشر الشعراءِ قبلــى
سئمتُ مُنادمى وذَممتُ راحـي وقد أُ غرقت في الأحزانِ حتى
كمقتحم البلية وهو صاحــي( ) وما سكرانُ يقتحم البلايـــا
أمثال هؤلاء من الشعراء الأحرار هم الذين أعطوا للكلمة الشعرية معنى وحضورا وجلاء في تتبع هشاشة الأنظمة العربية الظالمة, فقد التبست معالم الحياة مع عالمهم الشعري فرسموها للناس في أبهى صورة مع اختلاف القالب الشعري الذي وضعوا فيه تجاربهم فكل له نكهته وجماله , وتلك هي غاية الأدب في الحياة وإلاها لا لون فيه ولا طعم له ولا صوت فيه كما قال الشاعر محمود درويش وهو يوضح غاية الشعر فيقول:
قصائِدُنا بلا لون ...
ولا طَعْمٍ ... ولا صَوْتِ ...
إذا لم تَحْملِ المصباحَ من بيتٍ إلى بيتٍ.
وإنْ لَمْ يَفهَّم البُسطاء معانيها فأولى أن نُذَّريها
ونَخْـلُد نحنُ للصمتِ( ) .
نعم هكذا كانت رسالة الشاعر أحمد مطر الشعرية فهو إنسان حر أنف عيش الذلة والمهانة التي شرعتها سياسة الحكام في البلدان العربية من القهر وتكميم أفواه الأحرار بالقوة والترصد فأصبح لا مكان إلا للأخنع ولا حرية إلا للأجبن ولا صدق إلا للأكذب, ولا حياة إلا للأقوى فضاق الخناق على المبدعين والمتطلعين للحرية والملهمين الذين أنفوا دناءة تلك الحياة , ولعل قصيدة أحمد مطر في بساطة تعبيرها استطاعت أن تخترق نفوس عشاقه من المحبين ببراعته التي لخص بها سخطه عن تلك الرتابة المملة والمقيتة في حياة الناس وتخوفهم من نشوة المغامرة في ظل تلك الأنظمة الظالمة بقوله:
قال أبي:
في كل قطر عربي
إن أعلن الذكر عن ذكائه.
فهو: غبي
فمن واقع تجليات هذه الشخصية العبقرية الساخطة ارتسمت سمات البحث الذي اختاره الباحث للحديث عن آليات التجديد والإبداع في تجارب هذا العلم الرائد الشاعر المبدع أحمد مطر في مجال الشعر الحر, فالشعر مرتبط بحياة الإنسانية في كل مكان وزمان وهو غذاء الروح تتسلى به النفوس وتتمثله في محافل الأيام, فإن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا, وهو مصدر هيبة تتهيبه أسنمة الظلم والضلال, وديوان العرب الذي يحكي أفراحهم وأتراحهم, ويؤرخ أيامهم.
وهنا سأقف عند المعنى المقصود بالخطاب النقدي في عنوان البحث والذي أقصد به موضوع السخرية وبعدها أعرج على بعض آليات وأدوات تلك السخرية, فالسخرية ، كما أثـبتتها قواميس اللغة تعني :" الاستهزاء أو ما يثير الضحك، يقال: سخر منه وبه – سَخْرا، وسُخرا ، وسُخَّرية، وسُخرية، هزيء به، وفي التنزيل العزيز :  وقال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم ...... "( ).
و تعددت اصطلاحاتها، في الكثير من كتب الأدب والنقد، فمنها الهجاء المستور، أو التوبيخ أو الازدراء، أو التهكم، أو الدعابة الماكرة أو المرارة الدعابية، أو التأسي ، أو الفكاهة السوداء، فقد انطلق المصطلح في التاريخ الأدبي من التظاهر بالجهل، وإخفاء الحكمة والتلاعب بالكلام، باعثا على الضحك أو البكاء، بوصفه طريقة في الكلام يعبر بها الشخص عن عكس ما يقصده ، بالفعل ، أو عن تحسر الشخص على نفسه( ).
وللناس في مواجهة مواقف الحياة، أساليب شتى، ومواقف عدة، فالبعض يواجهها بشجاعة، وغيرهم يهرب منها بلباقة، وقد يواجهها البعض بشيء من الجد، يكثر أو يقل، تبعاً لأهمية المشكلة، أو الموقف الذي يواجهه.
والباحث عندما يتناول السخرية في شعر أحمد مطر، لا يعلن عن ابتكار أو تجديد ، ولكن هذه الظاهرة الطاغية على أدبه، ينبغي أن يكون لها مكان في هذه الدراسة، فموضوع السخرية، ليس جديداً أو طارئـاً ، وإنما هو قديم في التـراث الإنساني وموغـل في العراقة ، إلا أن له قيمته في كل عصر " وبهذا لا ينبغي أن ننظر إلى هذا الموضوع نظرة تدنٍ أو احتقار، وإنما ننظر إلى هذا الموضوع نوعاً أدبياً، له أثره ، ووظيفته وغايته..." ( ). فالسخرية طرائق تصدر في سلوكها عن موقف رافض متمرد على الهيئة الاجتماعية والسياسية في عصرها ولكل جانب من جوانب الحياة لأي مجتمع ، ولكل طبقة من طبقاته قسط وموضع من أدب السخرية..." ( ).
" فالهجاء صدى للحنق والموجدة وإن السخرية صدى للنقد، لأن هدف الهجاء الهدم والتجريح ..." ( ).
فإذا كان الشاعر قد انتهج نهجاً خطابياً مباشراً، فذلك سمة التهكم وطريقته المثلى كي يصل به إلى خصومه، دون غيرهم بأيسر الطرق، ولهذا يسخر الشاعر من هؤلاء جميعاً، الذين لا همّ لهم سوى الإثراء، وشراء الألقاب التي يتفاخرون بها، ولم يقف هطول المطر من مطر، ولم يكف سخريته في خطاباته الدائمة، بما تحمله من أصناف السباب والإهانات، في سخرية بالغة الإساءة تثور كالبركان، زكاها شعوره الغاضب ونفسه ودعابـاته المريـرة.
إن السياسة، وأنظمة الحكم ، تشكل دائماً وفي كثير من العصور طابعاً خاصاً، يتفرد به أصحابه، ويتفاوتون في مسؤولياتهم ما بين الحاكم وزبانيته, و يظل دائماً وأبداً، في نظر الناس (عامتهم وخاصتهم)، وإن لبّى حاجاتهم ، قاصراً ، ويشوبه الخلل، ولكل عصر من العصور سماته وخصائصه ، سلبية كانت أو إيجابية، يؤرخها أناس متمرسون في الخوض في مثل تلك الموضوعات (السلطة، نظام الحكم والحاكم) وإن خفتت أصواتهم غير معلنين ما يدونونه من أدب وثقافة، وكان الأدباء على رأس تلكم الجماعات، ونخص منهم الشعراء، لأن مهمة الشعر الأساسية التأثير على السلطة أو الجماهير، ولا يمكن أن يحمل الشاعر مسؤوليات تغيير المجتمع أو عدم تغييره ولعـل أبلغ مؤثر على ذلك للشاعر السخرية..." ( ).
وقد عُرف هذا اللون من الأدب في كل العصور، وبخاصة تلك التي شهدت فترات عصيبة، قاسية، من الظلم، والاضطهاد، بين الحاكم والمحكوم، والتراث الإنساني القديم سجل حافل بالأحداث التي تصف الحكام وشعوبهم من خلال نِكاث عصرهم وسخريات شعوبهم, وقد احتفل بها ديوان الشاعر أحمد مطر في مجموع اللافتات التي رفعها شعارا لروحه الثائرة ," فموضوع السخرية من الحاكم ليس موضوعاً جديداً أو مبتكراً بالقياس إلى الآداب الإنسانية الأخرى..."( ) , ولها أدواتها التي يتحراها الشاعر رغبة منه لاستمالة قلوب الناس , وغرس سنابل النور في صدور الأحرار , ولعل أهم ما يطالع المتأمل في ديوان أحمد مطر الوقوف على ملمحين بديعين هما:
أولا: أبجديات الكتابة والقراءة.
ثانيا: براعة الختام.
أولا : أبجديات الكتابة والقراءة: ونقصد بها الأسلوب الذي اتبعه وسار عليه الشاعر أحمد مطر في رصف قصائده وترتيبها وفق علامات الترقيم المنصوص عليها وذلك لضبط النصوص ضبطا يستطيع القارئ قراءتها ويستطيع المتلقي التواصل معها وهو يستمع إلى تلك النصوص ,وهذه طريقة مستحبة وينبغي مراعاتها مع النصوص الشعرية الحديثة التي قد يصعب على المتخصص وغير المتخصص , قراءتها, وفهم كنهها بأساليب الوصل والفصل, وهذه الميزة التي عالج بها الشاعر أحمد مطر قصائده تدفع المتلقي لاستنطاق تلك النصوص بالعلامات المضبوطة التي وضعها الشاعر, هذه العلامات قد يستغرب القارئ مدى كثافتها وكثرتها في الديوان, ولكن وجودها مهم جدا ويساعد على القراءة الصحيحة التي قد لا نحتاجها مع النصوص الشعرية التقليدية التي تلتزم بإيقاع واضح معروف ووزن معروف, وبالمثال يتضح الحال:فقصيدته حوار في المنفى تكشف لنا تلك الأهمية لهذه العلامات والوقفات حيث يقول:
لماذا الشِّعْرُ يا مَطَـرُ ؟
أتسألُني
لِماذا يبزغُ القَمَـرُ ؟
لماذا يهطِلُ المَطَـرُ ؟
لِماذا العِطْـرُ ينتشِرُ ؟
أَتسأَلُني : لماذا ينزِلُ القَـدَرُ ؟!
أنَـا نَبْتُ الطّبيعـةِ
طائـرٌ حُـرٌّ،
نسيمٌ بارِدٌ ،حَـرَرُ
محَـارٌ .. دَمعُـهُ دُرَرُ !
* لقد جاوزتَ حَـدَّ القـولِ يا مَطَـرُ
ألا تدري بأنّكَ شاعِـرٌ بَطِـرُ
تصوغُ الحرفَ سكّيناً
وبالسّكينِ تنتَحِــرُ ؟!
أجَـلْ أدري
بأنّي في حِسـابِ الخانعينَ، اليـومَ،
مُنتَحِـرُ
ولكِـنْ .. أيُّهُم حيٌّ
وهُـمْ في دوُرِهِـمْ قُبِـروا ؟
فلا كفُّ لهم تبدو
ولا قَـدَمٌ لهـمْ تعـدو
ولا صَـوتٌ، ولا سَمـعٌ، ولا بَصَـرُ .
خِـرافٌ ربّهـمْ عَلَـفٌ !
يُقـالُ بأنّهـمْ بَشَـرُ
شبابُكَ ضائـعٌ هَـدَراً
وجُهـدُكَ كُلّـهُ هَـدَرُ .
بِرمـلِ الشّعْـرِ تبني قلْعَـةً
والمـدُّ مُنحسِـرُ
فإنْ وافَـتْ خيولُ الموجِ
لا تُبقـي ولا تَـذَرُ !
هُـراءٌ ..
ذاكَ أنَّ الحـرفَ قبلَ الموتِ ينتَصِـرُ
وعِنـدَ الموتِ ينتَصِـرُ
وبعـدَ الموتِ ينتَصِـرُ
وانَّ السّيفَ مهمـا طالَ ينكَسِـرُ
وَيصْـدأُ .. ثمّ يندَثِـرُ
ولولا الحرفُ لا يبقى لهُ ذِكْـرٌ
لـدى الدُّنيـا ولا خَـبَرُ !
وماذا مِن وراءِ الصّـدقِ تنتَظِـرُ ؟
سيأكُلُ عُمْـرَكَ المنفـى
وتَلقى القَهْـرَ والعَسْـفا
وترقُـبُ ساعـةَ الميلادِ يوميّاً
وفي الميلادِ تُحتضَـرُ !
وما الضّـرَرُ ؟
فكُلُّ النّاسِ محكومـونَ بالإعـدامِ
إنْ سكَتـوا، وإنْ جَهَـروا
وإنْ صَبَـروا، وإن ثأَروا
وإن شَكـروا، وإن كَفَـروا
وماذا بعْـدُ يا مَطَـرُ ؟
فمن يطلع على الديوان سيلاحظ فائدة تلك العلامات والأدوات والتقنيات التي ضبط بها الشاعر أحمد مطر قصائده, وهذا مثال آخر يوضح جمالية تلك العلامات والأدوات حيث يقول في قصيدته التي عنوانها مؤهلات:
تنطلقُ الكلابُ في مُختلفِ الجهات
بلا مُضايقات .
تَلهثُ باختيارها.
تنبحُ باختيارها.
تبولُ باختيارها . . واقفة ً
أمامَ ( عبدِ ا لـلا ت)
بلا مُضايقات!
وتُعربُ الحميرُ عن أفكارها
بأ نكر ِ الأصوات
بلا مُضايقات
وتمرقُ الجمالُ من مراكزِ الحدودِ
في أسفارها
وتمرقُ البغالُ في آثارها
من غيرِ إثباتات
بلا مُضايقات
ونحنُ نسلَ أدمٍ
لسنا من الأحياءِ في أوطاننا
و لا من الأموات
نهربُ من ظِلالنا
مخافةَ انتهاكنا
حَظرَ التجمعات !
نهربُ للمرآةِ من وجوهِنا
ونكسرُ المرآة
خوفَ المداهمات !
نهربُ من هروبنا
مخافةَ اعتقالنا
بتهمةِ الحياة !
صِحنا بصوتٍ يائسٍ :
يا أيها الولاة
نُريدُ أن نكونَ حيوانات!
نُريدُ أن نكونَ حيوانات
قالوا لنا : هيهات
لا تأملوا أن تعملوا
لدى المخابرات!
وهذه قصيدة أخرى تفصح عن مقصودنا وعنوانها (تفاهم) حيث يقول:
علاقتي بحاكمي
ليس لها نظير
تبدأ ثم تنتهي … براحة الضمير
متفقان دائماً
لكننا
لو وقع الخلاف فيما بيننا
نحسمه في جدل قصير
أنا أقول كلمة
وهو يقول كلمة
وإنه من بعد أن يقولها ..يسير
وإنني من بعد أن أقولها ..أسير !
وقوله:
. إنّهُ في ليلةِ السابعِ
من شهرِ مُحرَّمْ
شعَرَ الوالي المُعظَّمْ
بانحرافٍ في المزاجْ
كرْشُهُ السَّامي تَضخَّمْ
واعْتَرى عينيهِ بعضُ الاختِلاجْ
فأتى لندنَ من أجلِ العِلاجْ !
* * *
قبلَ أن يَخضعَ للتشخيصِ
بالإيمان هاج
فتيمَّمْ.
بتُرابٍ إنكليزيٍّ لَهُ صدرٌ مُطهَّمْ
ثُمّ صلّى . . . وتحمّمْ
ثُمّ صلّى . . . وتحمّمْ
ثُمّ صلّى . . . وتحمّمْ
ولدى إحساسهِ بالانزعاجْ
أفْرَغُوا في حَلْقهِ
قِنّينةَ ( الشايِ المُعَقَّمْ )
* * *
قُلتُ للمُفتي :
كأنّ الشايَ في قنينةِ الوالي نبيذ؟
قالَ : هذا ماءُ زمزمْ !
قُلتُ : والأنثى التي . . . ؟
قالَ : مَسَاجْ !
قلتُ : ماذا عن جهنّمْ ؟
قالَ : هذا ليسَ فِسْقاً
إنّما . . . واللَّهُ أعلمْ
هُوَ للوالي علاجْ،
فلَهُ عينٌ مِنَ اللّحمِ
. . وعينٌ من زجاج
براعة الختام:
لقد شكل أحمد مطر فنا شعرياً متميزاً، له حضوره على الساحة الأدبية العربية، فقد تصدرت أشعاره، ومازالت، المشهد الشعري العربي، وانتشرت بين الجماهير - بمجرد بزوغها - انتشار النار في الهشيم، حيث بدا واضحاً أن الشاعر يمتلك مميزات خاصة، جعلت منه شاعرا بارزاً، فهو يكتب القصيدة القصيرة القائمة على المفارقة الساخرة، وعلى الوضوح الذي لا غموض فيه ولا التواء، وكأنه يسلك من خلال ذلك مسلكاً شعرياً له دلالاته في عالم الشعر الحر المعاصر، الذي يطغى عليه النكوص إلى الغموض والإبحار في محيطات الرمز , واستطاع بفضل موهبته الشعرية والفنية أن يلفت نظر شذاة الأدب والشعر باتخاذه أسلوب تشويق مارسه في أغلب قصائده يعتمد على اختزال القصيدة في شطر واحد أو جملة وقد يكون في كلمة, فالشاعر أحمد مطر يبدأ قصائده من النهاية, وهذه الطريقة الطريفة جعلت لشعره التميز والتكثيف والتركيز, فقديما جرت على ألسنة البلغاء والشعراء والنقاد, هذا أشعر الناس, وفلان أشعر الإنس والجن, ويقولون عن القصائد والأبيات: هذه سمط الدهر واليتيمة, وأشعر بيت, وأبلغ بيت, وقصيدة البيت الواحد وغيرها من المسميات التي نالت حظوة النقاد الذين اعتنوا بجماليات الأسلوب الشعري وبلاغته , وهذه الطريقة التي سار عليها أحمد مطر الخاتمة الشعرية تكلم فيها أرباب البلاغة والنقد وسموها براعة الختام أو حسن الختام وغيرها من التسميات, وسَمَّوا حُسْنَ اختيار الختام الحَسَنِ الجميل الملائم: "براعةَ المقطع" أو "براعةَ الختام". وهي أن يختم المتكلّم كلامه بختامٍ حَسَن، إذْ هو آخِرُ ما يطْرُقُ الأسماع، أو يقع عليه نظر القارئ، فيَحْسُنُ فيه أن يكون بمثابة أطيب لُقْمةٍ في آخر الطعام، أو بمثابةِ آخر اللّمساتِ الناعمات المؤثرات الّتِي تعْلَقُ في النفوس، وتَسْكُنُ عندها سُكُونَ ارتياح، وتظلُّ لهَا ذكرياتٌ تُحرِّكُ النفوس بالشوق إلى المزيد من أمثال ذلك الحديث
ولله در القائل:
أحق بحسن ابتدائي ما أنال به ... حسن التخلص يتلو حسن مختتمي
وللبلغاء فنونٌ مختلفة كثيرة يختمون بها شعرهم أو نثرهم، ويكون آخِرُ كلامهم دالاًّ على أنَّهُمْ قد وصلوا فعلاً إلى آخر ما يقصدون من قول، وتتفاضل الخواتيم بمقدار ما فيها من إبداع دالّ على أنّها آخر القول.
والواقف على أدب وشعر أحمد مطر يلاحظ هذه الخاصية وقد يصاب بالدهشة كثيرا عندما يقرأ عناوين القصائد فيصل لخاتمتها فيطلع على حقائق مأساوية تتعلق بأوصاف وأفعال من يتناولهم في شعره فعندما نقرأ قصيدته وصايا البغل المستنير:
قال بغلٌ مستنير واعظاً بغلاً فتيا:

يا فتى إصغِ إليّا..

إنما كان أبوك امرأ سوءٍ

و كذا أمك قد كانت بغيّا.

أنت بغلٌ
يا فتى.. والبغل نغلٌ

فاحذر الظن بأن الله قد سواك نبيّا .

يا فتى.. أنت غبي.

حكمة الله، لأمرٍ ما، أرادتك غبيّا

فاقبل النصح

تكن بالنصح مرضياً رضيّا

أنت إن لم تستفد منه
فلن تخسر شيّا .

يا فتى .. من أجل أن تحمل أثقال الورى
صيرك الله قويّا.


يا فتى ..فاحمل لهم أثقالهم مادمت حيّا

و استعذ من عقدة النقص

فلا تركل ضعيفاً حين تلقاه ذكيّا .

يا فتى.. احفظ وصاياي تعش بغلاً,

و إلاّ..
رُبما يمسخُك الله

! رئيساً عربيّا

أو قصيدته التي أراد أن يتهكم فيها بما يسمى باتحاد الأدباء وعنوانها منافسة حيث يقول:
أُعلن الإضرابُ في دور البغاءْ.
البغايا قُلن:
لم يبق لنا من شرف المهنة
إلا الإدعاء!
إننا مهما اتسعنا
ضاق باب الرزق
من زحمة فسق الشركاء.
أبغايا نحن؟!
كلا.. أصبحت مهنتُنا أكلَ هواء.
وكان العهر مقصورا
على جنس النساء.
ما الذي نصنعه؟
ما عاد في الدنيا حياء!
كلما جئنا لمبغى
فتح الأوغاد في جانبه مبغى
وسموه: اتحادَ الأدباء!
وكذلك عندما يتهكم ويسخر من جامعة الدول العربية فيصفها بأنها كحديقة الحيوانات حيث يقول:
في جهةٍ ما
من هذي الكرة الأرضية

قفصٌ عصريٌ لوحوش الغاب

يحرسُهُ جُندٌ وحراب

فيه فهودٌ تؤمنُ بالحرية

وسباعٌ تأكلُ بالشوكة والسكينِ

بقايا الأدمغة البشريةِ

فوقَ المائدةِ الثورية

وكلابٌ بجوارِ كلاب

أذنابٌ تخبطُ في الماءِ

على أذناب

وتُحني اللحيةَ بالزيت

وتعتمرُ الكوفية

فيه قرودٌ أفريقية

رُبطت في أطواق صهيونية

ترقصُ طولَ اليومِ

على الألحان الأمريكية

فيه ذئاب

يعبدُ ربّ العرشِ

وتدعو الأغنام إلـى اللهِ

لكي تأكُـلها في المحراب

فيه غرابٌ

لا يُشبههُ في الأوصافِ غـُراب

أيـلـولـي الريشِ

يطيرُ بأجنحة ملكية

ولهُ حجمُ العقرب

لكن له صوتَ الحية

يلعنُ فرخَ النسر

بـكـلّ السُبـل الإعلامية

ويُقاسمُهُ ــ سِـراً ــ بالأسلاب

ما بين خراب وخراب

فيه نمورٌ جمهوريّة

وضباعٌ ديمقـراطية

وخفافيش دستورية

وذبابٌ

ثوريٌ بالمايوهات الخاكية

يتساقطُ فوق الأعتاب

ويُناضـلُ وسط الأكواب

ويدُقُ على الأبواب

وسيفـتحُها الأبواب

قفصٌ عصريٌ لوحوش الغاب

لا يُسمحُ للإنسانية أن تدخُـلـهُ

فلقد كتبوا فوق الباب :

جامعةُ الدول العربيّة
هذه اللافتات الشعرية خير تعبير عن تجربة إنسان يحس الحياة ويعانقها ويتفاعل معها فيبكي لمأساة الإنسان والإنسانية بصمت فيرفع يديه احتجاجا على واقع اجتماعي متدني بوعي يتجلى في معظم قصائده, كان تحديد الزاوية التي يلتقط منها صوره هي منطلق قصائده فكل نهاية هي بداية قصيدة عند الشاعر أحمد مطر مع اعتماد لغة سهلة وهدوء معمق.
وخير ما نختم به قصيدته الإرهابي حيث يقول:

دخلتُ بيتي خلسةً من أعين الكلاب ْ
أغلقتُ خلفي الباب .
نزلتُ للسرداب .
أغلقت خلفي الباب.
دخلت في الدولاب .
أغلقت خلفي الباب .
همست همسا خافتا: (فليسقُطِ الأذنابْ)
وشتْ بي الأبوابْ!
دام اعتقالي سنةً.. بتهمة الإرهابْ !
إن فاعلية الصورة الشعرية عنده تقوم على مدركات عقلية تكشف عن وعي شعري يقوم على وحدة موضوعية امتازت بسلامة إيقاعها وصياغة لغتها للواقع باختراقها الآفاق التي لا تحدها حدود والتي يتحرك في فضائها الشاعر ليملأ جميع الفراغات ويخترق كل الاتجاهات فيعانق وطنه المفقود في الغربة ويتهامس معه وهو يبني أحلامه محاولا إضاءة الجوانب الداخلية من خلال تصوير اللحظات التي تتأزم فيها نفسيته حتى يصل إلى ذروة الإحساس فيضعنا أمام رؤية مليئة بالواقعية والدهشة.
كتبها د رضا محمد جبران
17/7/2013
طرابلس ليبيا
والله ولي التوفيق