عنكبوت الفساد فى القرن الأفريقى.. وعصابة (كنج كونج)! بقلم:محمد سعيد محفوظ
تاريخ النشر : 2005-11-06
عنكبوت الفساد فى القرن الأفريقى.. وعصابة (كنج كونج)! بقلم:محمد سعيد محفوظ


فى ربيع عام 1994، كانت القوات الدولية لحفظ السلام فى الصومال تحزم حقائبها، وتتأهل للرحيل، وكان مراسلو الصحف ووكالات الأنباء العالمية يتوافدون بحماس من أنحاء البلد الممزق لتغطية ذلك الانسحاب المذل، ومن بين هؤلاء كانت فتاة إيطالية رقيقة وجريئة تدعى إيلاريا آلبى، تعمل مراسلة صحفية لتليفزيون RAI، جاءت لنقل وقائع انسحاب قوات بلادها من المستعمرة الإيطالية السابقة، لكنها ـ فى وضح النهار، وعلى نحو غامض ـ قتلت ببشاعة مع زميلها المصور ميران هروفاتين...

كان الهجوم مباغتاً ومدروساً، ولم يمكن تصنيفه من الوهلة الأولى كفعل عشوائى على الطريق مبعثه الفوضى، فالصحفية إيلاريا وزميلها لم يلقيا حتفهما فى اشتباك دموى مسلح، كذلك الذى تشهده أرجاء مختلفة من الصومال كل يوم.. لقد قتلت المراسلة الإيطالية فى عملية مدبرة يوم 21 مارس من عام 1994... اغتالتها رصاصة غادرة، اخترقت مؤخرة رأسها، لتفارق الحياة فى الحال...

لم أكن أعلم أننى أقتحم "عش الدبابير"، عندما قررت ـ بعد ستة أعوام ونصف العام ـ أن أفتش عن سر غموض تلك العملية الإرهابية، كل ما فى الأمر أن برنامجى التليفزيونى على قناة أبوظبى كان يعنى بحقوق الإنسان وحرية الرأى والتعبير، ولم تكن إيلاريا سوى واحدة من بين أكثر من خمسين صاحب موقف وكلمة فى أرجاء مختلفة من العالم دارت حول معاناتهم السياسية حلقات البرنامج، غير أن رحلتى الصحفية للتحقيق فى جريمة اغتيال إيلاريا وميران لم تحملنى فقط إلى أدلة قد تثبت براءة حاشى عمر حسن المتهم الصومالى المحكوم عليه الآن فى روما بالسجن المؤبد، بل حملتنى إلى البرلمان الإيطالى قبل ثلاثة أسابيع، لأتحول ـ وعلى نحو غير مسبوق بالنسبة لإعلامى عربى ـ إلى أهم شاهد فى القضية!

الفصل الأخير ـ والأكثر إثارة ـ من هذه القصة بدأ قبل شهرين بدعوتى للإدلاء بالشهادة أمام لجنة تحقيق تشكلت على نحو عاجل بقرار من البرلمان الإيطالى، للبحث فى محتوى الوثائق والأدلة التى كشفت عنها فى سلسلة من ثلاثة تحقيقات تليفزيونية، حول مصرع الصحفية الإيطالية، والانتهاكات الدولية الخطيرة التى دفعت حياتها ثمناً للإبلاغ عنها، فهناك من يعتقد بأنها قتلت بسبب ما توفر لديها من معلومات عن صفقات بيع أسلحة إيطالية لبارونات الحرب فى الصومال، وعمليات التعذيب واغتصاب النساء الصوماليات وبيع أطفالهن كعبيد، والتى كان يقوم بها أفراد من الجيش الإيطالى شاركوا باسم الأمم المتحدة فى عملية حفظ السلام، وهو ما قد يفسر تلكؤ القوات الإيطالية ـ التى حضرت إلى مسرح الجريمة على الفور ـ فى طلب الإسعاف الطبى للضحيتين عقب وقوع الحادث.. أو قد يكون الغرض الحقيقى من عملية القتل هو إخفاء أية معلومات أخرى توصلت إليها إيلاريا بحكم ذكائها المهنى، يمكن أن تهدد أحد أباطرة الحرب أو تجار السلاح الدوليين، الذين يمارسون القتل كما لو كان نزوة مراهق، أصابه الملل..!!

كان اهتمام الرأى العام الإيطالى بالقضية قد تراجع، إلى أن أذيعت الحلقات التليفزيونية الثلاث، فانتفضت وسائل الإعلام، وطالبت البرلمان بإعادة فتح ملف التحقيق، ومحاسبة الجناة الحقيقيين الذين تدينهم ثلاثة آلاف وثيقة رسمية عرضت على شاشة تليفزيون عربية لأول مرة.. من هنا كان اجتماعى فى صباح 22 يوليو الماضى بعشرين من أعضاء البرلمان الإيطالى ـ على رأسهم كارلو تاورمينا محامى رئيس الحكومة الإيطالية شخصياً ـ ليستمعوا إلى شهادتى المفصلة حول ملفات الفساد الإيطالى فى الصومال، بعد أن ظن الجميع أنها دفنت مع إيلاريا آلبى إلى الأبد..

عرضت على النواب الإيطاليين 112 حالة ـ قمت بحصرها بنفسى فى الصومال ـ لمواطنين صوماليين تعرضوا للتعذيب الوحشىعلى أيدى القوات الإيطالية، ومعلومات موثقة لم يسمع بها أحد من قبل حول صفقة (أورانو) لدفن أطنان من النفايات الكيماوية فى مدينتى جروى وبوساسو بالصومال فى أواخر الثمانينات، وهى الصفقة التى كان مسئول فى الحزب الاشتراكى الإيطالى أحد أطرافها..

صفقة الموت!

كان قد جرى إبرام تلك الصفقة ـ كما تكشف الوثائق ـ فى مدينتى روما وميلانو عام 1987، بمشاركة مسئولين بالمخابرات والقوات المسلحة الإيطالية وجماعتين من المافيا، يطلق عليهما لامونتى وفيدانزاتى.. وفى منتصف أغسطس اعتمدت الصفقة من قبل ثلاثة أقطاب للفساد فى إيطاليا هم: إليو ساشيتو عن شركة مينيرا ريو دى أورو، ومقرها مدينة لوجانو السويسرية، لوشيانو سبادا عن شركة إنستراماج ـ وكان فى ذلك الحين مسئولاً عن التنمية الاقتصادية فى الحزب الاشتراكى الإيطالى الحاكم ـ وجويدو جاريللى الذى تولى الجانب التسويقى للمشروع فى نطاقه الدولى، وهو من قيادات شركة أودينو فالبيرجا الإيطالية المختصة بصناعة السفن، وقد سجن أكثر من مرة فى قضايا تصدير نفايات سامة إلى أفريقيا مقابل أسلحة، وكشفت التحقيقات عن أنه يحمل ثلاث هويات مختلفة: صومالية، إيطالية، صحراوية (من جبهة بوليساريو).. وفى يوم 24 يونيو 1992 اتفق فى نيروبى كل من جويدو جاريللى، وأزيو اسكاليونى القنصل الفخرى الإيطالى فى الصومال، وجيانكارلو ماروكينو عميل المافيا الإيطالية فى القرن الأفريقى على التباحث مع الصوماليين لاختيار مواقع مناسبة لدفن تلك النفايات..

شرح لى الدكتور مصطفى كمال طلبة المدير التنفيذى الأسبق لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة كيف أن شركات إيطالية وألمانية وسويسرية استغلت ثغرات فى قوانين البيئة، وشكلت مافيا مرعبة لطمس المخلفات الأوروبية السامة فى أفريقيا، وأنها حصدت المليارات من مثل تلك الصفقات، وكشف لأول مرة أنه تلقى عدة تحذيرات بعدم الاقتراب منها فى أغسطس وسبتمبر من العام 1992، كما أكد ستيفن ويبر من حركة السلام الأخضر فى سويسرا أن ثلاث سفن محملة بالنفايات قد وصلت فعلاً من أوروبا إلى خليج عدن مقابل سواحل محافظة الشمال الشرقى فى الصومال عام 1992، وقال لى عبدى قاسم صلاد حسن رئيس الجمهورية الصومالى السابق أنه تمت "فبركة" وثائق تصدير هذه السموم لتبدو مطابقة للقوانين المحلية (لم يكن قد صدر حتى العام 1987 أى قانون دولى ينظم حركة تصدير واستيراد النفايات السامة)، وكانت ترفق بها مستندات تفيد بأنها مبيدات حشرية منتهية الصلاحية، وبقايا أدوية، ومخلفات تصنيع.. وبعضها لم تعرف ماهيته، والآخر كان خليطاً من كل ذلك! وأضاف أن تلك الجرائم لا تضارع ـ فى قسوتها واستخفافها بحياة ومصير الشعب الصومالى ـ سوى ما قامت به القوات الأمريكية فى الصومال عام 1993، عندما استخدمت ذخائر اليورانيوم المنضب فى قتل أبناء القبائل المسلحة.. تماماً كما استخدمتها بعد سنوات فى البلقان، وأصيب من جرائها بأمراض خبيثة عدد لا يحصى من الجنود والمواطنين الأبرياء...

وبينما كانت يجرى فى الصومال التخلص من قمامة الغرب السامة، كان الجنود الإيطاليون ـ التابعون لقوات الأمم المتحدة ـ منهمكين فى التلذذ بتعذيب ضحاياهم من المواطنين الصوماليين الأبرياء، ومنهم الشاب حاشى عمر حسن، الذى روى لى فى زنزانته بسجن روما كيف أنه كان يحاول إنقاذ شقيقته أثناء اغتصابها من قبل جنود إيطاليين، فاعتقل فى معسكر إيطالى مع ثمانية عشر مواطن صومالى آخر، وتم تكبيلهم، وربطهم بأحجارهم ثقيلة، وألقى بهم فى البحر، غير أن حاشى نجا بنفسه، وتقدم بشكوى إلى جوزيبى كاسينى سفير إيطاليا بالصومال فى ذلك الوقت، الذى أغواه بالمال ليصمت، لكن الشاب العنيد أصر على الذهاب إلى روما وفضح الأمر، وهناك ألقى القبض عليه، ولفقت له تهمة قتل إيلاريا آلبى، وأصاب المستقيدون من مقتلها وإخفاء انتهاكات الإيطاليين فى الصومال "عصفورين بحجر واحد"!!

"كنج كونج" الصومالى!

كانت آخر مقابلة صحفية أجرتها إيلاريا قبل اغتيالها مع سلطان مدينة بوساسو شمال الصومال، ويعرف بلقب كنج كونج.. دارت المقابلة حول ضلوع الإيطاليين فى توريد الأسلحة سراً إلى الصومال على متن بواخر الصيد، وقد ندم كنج كونج فيما يبدو على تصريحاته، وطلب من إيلاريا وقف التسجيل، وعدم إذاعته، لكنها تمسكت برغبتها فى عرض المقابلة، وغادرت إلى مقديشيو على طائرة تابعة للأمم المتحدة، وبعد ساعات قتلت على الطريق...

بمعونة أصدقاء لى فى الحكومة الصومالية الانتقالية، تمكنت من مقابلة كنج كونج، وصارحته باستنتاجى الذى يجعله أول المشتبه بهم فى التخلص من الصحفية الجريئة، لكن الزعيم القبلى المعروف بوحشيته نفى ذلك بشدة، وتوعدنى بالقتل أو السجن، وفى اليوم التالى حاصر رجاله فندق صحافى الذى كنت أقيم به مطالبين بشرائط التصوير، ولم ينصرفوا إلا عندما هطلت الأمطار بغزارة..

وجد أعضاء البرلمان الإيطالى أنفسهم أمام زخم من الأسرار التى خرجت أخيراً من مخبئها، ولم يعد البرنامج التليفزيونى العربى الذى فضح عنكبوت الفساد الإيطالى فى الصومال مجرد مادة للتسلية أو قتل الوقت، وإنما صار وثيقة دولية لإدانة كبار المنتفعين من خيرات بلد أفريقى بلا صاحب!!

محمد سعيد محفوظ

[email protected]

إعلامي مصري