هل آمن فرعون قبل أن يموت؟.. بقلم محمد برهام المشاعلي
تاريخ النشر : 2013-05-20
هل آمن فرعون قبل أن يموت؟.. بقلم . محمد برهام المشاعلي
قال الله تعالى في محكم التنزيل: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(يونس:90).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" وَأَمَّا مَنْ تَابَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَوْتِ فَهَذَا كَفِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ : أَنَا اللَّهُ ( حَتَّى إذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) قَالَ اللَّهُ : ( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ بَيَّنَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ لَيْسَتْ هِيَ التَّوْبَةُ الْمَقْبُولَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا؛ فَإِنَّ اسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِ: إمَّا بِمَعْنَى النَّفْيِ إذَا قَابَلَ الْإِخْبَارَ وَإِمَّا بِمَعْنَى الذَّمِّ وَالنَّهْيِ إذَا قَابَلَ الْإِنْشَاءَ".
قال ابن كثير رحمه الله: يذكر تعالى كيفية إغراقه فرعون وجنوده، فإن بين إسرائيل لما خرجوا من مصر وهم فيما قيل ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية، اشتد حنق فرعون عليهم، فأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه، فركب وراءهم في أبهة عظيمة وجيوش هائلة لما يريده اللّه تعالى بهم، فلحقوهم وقت شروق الشمس، (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون)، أي كيف المخلص مما نحن فيه؟ فقال: ( كلا إن معي ربي سيهدين)، فأمره اللّه تعالى أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فانفلق البحر، فكان كل فرق كالطود العظيم أي: كالجبل الكبير، وجاوزت بنو إسرائيل البحر، فلما خرج آخرهم منه، انتهى فرعون وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى، وهو في مائة ألف، فلما رأى ذلك هاله، وأحجم وهاب وهمَّ بالرجوع، وهيهات ولات حين مناص، فاقتحموا كلهم عن آخرهم، وميكائيل في ساقتهم، لا يترك منهم أحداً إلا ألحقه بهم، فلما استوسقوا فيه وتكاملوا، وهمَّ أولهم بالخروج منه أمر اللّه القدير البحر أن يرتطم عليهم، فارتطم عليهم، فلم ينج منهم أحد، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وغشيته سكرات الموت، فقال وهو كذلك: ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين)، فآمن حيث لا ينفعه الإيمان ( فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا)، ولهذا قال اللّه تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال: (آلآن وقد عصيت قبل) أي أهذا الوقت تقول، وقد عصيت اللّه قبل هذا فيما بينك وبينه؟ (وكنت من المفسدين) أي في الأرض.
روى الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ( لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ قَالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ . فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ فَلَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخُذُ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ – يعني طينه - فَأَدُسُّهُ فِي فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ).
فهذا فعل جبريل مع فرعون، خشي أن تدركه رحمة الله عز وجل، فكان يضع من طين البحر في فمه حتى يسكت ولا يستطيع النطق بالإيمان.
والجواب كان: قال الله تعالى عن فرعون وقومه: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )(غافر:45- 46.
وقال: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)(النساء:18).
إن الله - سبحانه - لا يطارد عباده الضعاف, ولا يطردهم متى تابوا إليه وأنابوا. وهو - سبحانه - غني عنهم, وما تنفعه توبتهم, ولكن تنفعهم هم أنفسهم, وتصلح حياتهم وحياة المجتمع الذي يعيشون فيه. ومن ثم يفسح لهم في العودة إلى الصف تائبين متطهرين.
فهذه التوبة هي توبة المضطر, لجت به الغواية, وأحاطت به الخطيئة. توبة الذي يتوب لأنه لم يعد لديه متسع لارتكاب الذنوب, ولا فسحة لمقارفة الخطيئة. وهذه لا يقبلها الله, لأنها لا تنشىء صلاحا في القلب ولا صلاحا في الحياة, ولا تدل على تبدل في الطبع ولا تغير في الاتجاه.
والتوبة إنما تقبل لأنها الباب المفتوح الذي يلجه الشاردون إلى الحمى الأمن, فيستردون أنفسهم من تيه الضلال, وتستردهم البشرية من القطيع الضال تحت راية الشيطان, ليعملوا عملا صالحا - إن قدر الله لهم امتداد العمر بعد المتاب - أو ليعلنوا - على الأقل - انتصار الهداية على الغواية . إن كان الأجل المحدود ينتظرهم, من حيث لا يشعرون أنه لهم بالوصيد.
ثم إن الله تعالى أخبر عن فرعون بأعظم أنواع الكفر: من جحود الخالق، ودعواه الإلهية، وتكذيب من يقر بالخالق سبحانه، ومن تكذيب الرسول ووصفه بالجنون والسحر وغير ذلك وفرعون هو أكثر الكفار ذكرا في القرآن، وهو لا يذكره سبحانه إلا بالذم والتقبيح واللعن، ولم يذكره بخير قط .
وهكذا يشتد المنهج الرباني في العقوبة, ولكنه في الوقت ذاته يفتح الباب على مصراعيه للتوبة . فيتم التوازن في هذا المنهج الرباني الفريد, وينشئ آثاره في الحياة كما لا يملك منهج آخر أن يفعل في القديم والجديد.
ويذكر البعض ومنهم ابن عربي في مؤلفاته "فصوص الحكم" و"الفتوحات المكية" ونحوهم وهم الذين يعظمون فرعون، ويدعون أنه مات مؤمنا، وأن تغريقه كان بمنزلة غسل الكافر إذا أسلم، ويقولون: ليس في القرآن ما يدل على كفره، ويحتجون على إيمانه بقوله: (حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين)الآية.
وتمام القصة تبين ضلالهم، فإنه قال سبحانه وتعالى: (آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) وهذا استفهام إنكار وذم، ولو كان إيمانه صحيحا مقبولا لما قيل له ذلك.
وهؤلاء الملاحدة المنافقون يزعمون أنه مات طاهرا مطهرا ليس فيه شيء من الخبث".
والخلاصة أن فرعون مات كافرا، وقوله لما عاين ملائكة العذاب "آمنت" لا ينفعه؛ لأنه قاله في حال الضرورة الملجئة، وحال الغرغرة التي يفوت بها وقت التوبة.
فاللهم إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ, والشوقُ إلى لقائِكَ..آمين.


(( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ )) (القصص:38) .

يا أيها الملأُ ما علمتُ لكم من إلهٍ غيري, كلمةٌ فاجرةٌ كافرةٌ, يتلقاها الملأُ بالإقرارِ والتسليمِ. ويعتمد فيها فرعون أولاً : على الأساطيرِ التي كانت سائدةً في مصر، من نسبة الملوك للآلهة، ثم هو يعتمد فيها ثانياً : على القهرِ والبطشِ الذي لا يدعُ للعقلِ أن يفكرَ، ولا للسانِ أن يعبرَ: (( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ )) (العنكبوت:39) فلما وصل كبرهم غايته، وغرورهم نهايته، آن الآوانُ لوضعِ حدٍ لذلك الطيش والعدوان، والبطشُ والطغيانُ : (( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ )) (القصص: من الآية40) .

هكذا ببساطة، يُقذف ذلك المتأله الدجال في اليم كما تقذف الحصاة الصغيرة فيه، فتخلفُ فقاعاتٍ هشة لا تلبثُ أن تزول، ويا للعجب! إنه اليمُّ الذي أُلقى فيه موسى طفلا رضعياً، فكان آمناً وملجأً ومناماً, وهو ذاته يُنبذ فيه فرعونَ وجنوده، فإذا هو مخافةً ومهلكةً, فالأمنُ إنما يكون في جنابِ الله ، والمخافةُ إنما تكون في البعدِ عن ذلك الجناب : (( فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ )) (القصص: من الآية40) فهي عاقبةٌ مشهودةٌ ، معروضةً للعالمين، فيها عبرة للمعتبرين، ونذير للمكذبين، وتتجلى فيها قدرةُ الله، تعصفِ بالطغاةِ والمتجبرين في مثل لمح البصر : (( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ )) (قّ:37) .

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وأيا كم بالذكر الحكيم .واستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية

الحمد لله يعطي ويمنع, ويخفض ويرفع, ويضر وينفع, ألا إلى الله تصيرُ الأمور. وأصلي وأسلم على الرحمةِ المهداة, والنعمة المسداة, وعلى آله وأصحابه والتابعين,

أما بعدُ:

أيها المسلمون : فهكذا طويتُ صفحة ذلك الطاغيةِ العنيد، ونسى ذكره وأصبح أثراً بعد عين، وعبرةً تتناقلها الأجيالُ، فكم كان واهماً، حين ظن أن بضعةً ألوفٍ من جنوده الجبناء، قادرون على حمايته ونصرته، إذا ما حلت نقمة السماء, وهذه العاقبةُ الوخيمة، رسالةٌ واضحةٌ المعالم، بينة الألفاظ, لكل الفراعنةِ على مر الأجيالِ والأزمانِ، بأنهم ضعفاء محاويج، مهما بدا للعامةِ عظيم قدرتهم، وقوي بطشهم، ومهما طبعوا في أذهانِ الدهماء أنهم أولو قوةٍ, وأولو بأسٍ شديد .

وكان على الفراعنة أن يأخذوا الدروسَ والعبَر من أسلافهم، وألا يقعوا في الخطأ نفسه معتمدين على قدراتٍ ماديةٍ هزيلة، لا تساوي شيئاً أمام قدرة الواحدِ القهار، الملكِ العزيزِ الجبار.

وكان على الفراعنةَ أن يدركوا أنهم يخوضون حربا خاسرة, لا محالةَ عندما يجابهون أولياء الله، ففي الحديث :" من عاد لي وليا فقد آذنته بالحرب " وهاهو التاريخ يشهد بكل هذا, فكم هم الفراعنةَ الذين لم يستوعبوا الدروس؟ وكم هم الذين لم يأخذوا العبرَ. فأذاقا هم الله الخز ي في الحياة الدنيا, ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون.

أيها الأخوةُ في الله : هذه الملحمةُ الكبرى، وهذا النصرُ المبيُن لحزبِ اللهِ المؤمنين، والغرقُ والهلاكُ للطغاةِ والمفسدين، وقع كله في العاشرِ من هذا الشهر- شهرُ الِله المحرم - وعليه فيومُ عاشوراء يومٌ من أيام الإيمان، ومناسبةً تستحقُ الشكر والعرفان، بما شرع اللهُ لا بما يهوى البشر .

وقد قدّر المؤمنون على مدار التاريخ هذا اليوم, وعظموهُ, وكانت اليهودُ تصومُ هذا اليوم ويقولون : إن موسى عليه السلام صامهُ شكراً لله، فصامهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم وقال : « نحن أحق بموسى منكم " بل كانت العربُ في جاهليتها تصومُ ذلك اليوم, وتعظمهُ وتكسو فيه الكعبة » (1) ،وأمرَ النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفةِ اليهودِ, وصيامِ التاسعِ مع العاشر فقال : « إن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع » (2) يعني مع العاشر .

أيها الأحبة في الله : قدروا هذا اليوم, وصوموه قربةً لله وشكراً، واحتساباً للمغفرةِ والمثوبةٍ, فقد قال عليه الصلاة والسلام : « صوم عاشوراء يكفر سنة ماضية » (3)

واسألوا الله النصر للإسلامِ والمسلمين، فالذي قدر النصرَ للسابقين قادر على إنزال النصر على اللاحقين .

في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة،

اللهم زينا بزينةِ الإيمانِ واجعلنا هداةً مهتدين,لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروف آمرين, وعن المنكر ناهين يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه إمام المتقين وقائد الغر المحجلين وعلى أله وصحابته أجمعين .

وأرضي اللهم عن الخلفاء الراشدين أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعلي

اللهم آمنا في الأوطانِ والدور وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سبحان ربك رب العزة عما يصفون .
القول في تأويل قوله : ( وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وليست التوبة للذين يعملون السيئات من أهل الإصرار على معاصي الله حتى إذا حضر أحدهم الموت ، يقول : إذا حشرج أحدهم بنفسه ، وعاين ملائكة ربه قد أقبلوا إليه لقبض روحه ، قال وقد غلب على نفسه ، وحيل بينه وبين فهمه ، بشغله بكرب حشرجته وغرغرته [ ص: 99 ] إني تبت الآن ، يقول : فليس لهذا عند الله تبارك وتعالى توبة ، لأنه قال ما قال في غير حال توبة ، كما :

8860 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن يعلى بن نعمان قال : أخبرني من سمع ابن عمر يقول : التوبة مبسوطة ما لم يسق ، ثم قرأ ابن عمر : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ، ثم قال : وهل الحضور إلا السوق .

8861 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن قال : إذا تبين الموت فيه لم يقبل الله له توبة .

8863 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبي النضر ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ، فليس لهذا عند الله توبة .

8863 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة قال : سمعت إبراهيم بن ميمون يحدث ، عن رجل من بني الحارث قال : حدثنا رجل منا ، عن عبد الله بن عمرو أنه قال : من تاب قبل موته بعام تيب عليه ، حتى ذكر شهرا ، حتى ذكر ساعة ، حتى ذكر فواقا . قال : فقال رجل : كيف يكون هذا والله تعالى يقول : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ؟ [ ص: 100 ] فقال عبد الله : أنا أحدثك ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

8864 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن إبراهيم قال : كان يقال : التوبة مبسوطة ما لم يؤخذ بكظمه .

واختلف أهل التأويل فيمن عني بقوله : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن

فقال بعضهم : عني به أهل النفاق .

ذكر من قال ذلك :

8865 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ، قال : نزلت الأولى في المؤمنين ، ونزلت الوسطى في المنافقين يعني : وليست التوبة للذين يعملون السيئات ، والأخرى في الكفار يعني : ولا الذين يموتون وهم كفار .

وقال آخرون : بل عني بذلك أهل الإسلام .

[ ص: 101 ] ذكر من قال ذلك :

8866 - حدثنا المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، قال : بلغنا في هذه الآية : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن قال : هم المسلمون ، ألا ترى أنه قال : ولا الذين يموتون وهم كفار ؟

وقال آخرون : بل هذه الآية كانت نزلت في أهل الإيمان ، غير أنها نسخت .

ذكر من قال ذلك :

8867 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار فأنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ سورة النساء : 48 ، 116 ] ، فحرم الله تعالى المغفرة على من مات وهو كافر ، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته ، فلم يؤيسهم من المغفرة .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، ما ذكره الثوري أنه بلغه أنه في الإسلام . وذلك أن المنافقين كفار ، فلو كان معنيا به أهل النفاق لم يكن لقوله : ولا الذين يموتون وهم كفار معنى مفهوم ، إذ كانوا والذين قبلهم في معنى واحد : من أن جميعهم كفار . ولا وجه لتفريق أحكامهم ، والمعنى [ ص: 102 ] الذي من أجله بطل أن تكون لهم توبة - واحد . وفي تفرقة الله - جل ثناؤه - بين أسمائهم وصفاتهم ، بأن سمى أحد الصنفين كافرا ، ووصف الصنف الآخر بأنهم أهل سيئات ، ولم يسمهم كفارا - ما دل على افتراق معانيهم . وفي صحة كون ذلك كذلك صحة ما قلنا وفساد ما خالفه .
مسألة: الجزء الثامن التحليل الموضوعي

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ )

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : يَعْنِي بِذَلِكَ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - : وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ مِنْ أَهْلِ الْإِصْرَارِ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ، يَقُولُ : إِذَا حَشْرَجَ أَحَدُهُمْ بِنَفْسِهِ ، وَعَايَنَ مَلَائِكَةَ رَبِّهِ قَدْ أَقْبَلُوا إِلَيْهِ لِقَبْضِ رُوحِهِ ، قَالَ وَقَدْ غُلِبَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَهْمِهِ ، بِشُغْلِهِ بِكَرْبِ حَشْرَجَتِهِ وَغَرْغَرَتِهِ [ ص: 99 ] إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ، يَقُولُ : فَلَيْسَ لِهَذَا عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَوْبَةٌ ، لِأَنَّهُ قَالَ مَا قَالَ فِي غَيْرِ حَالِ تَوْبَةٍ ، كَمَا :

8860 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ ، عَنْ يَعْلَى بْنِ نُعْمَانَ قَالَ : أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : التَّوْبَةُ مَبْسُوطَةٌ مَا لَمْ يَسُقْ ، ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ : وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ، ثُمَّ قَالَ : وَهَلِ الْحُضُورُ إِلَّا السَّوْقُ .

8861 - حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ : قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ : وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ قَالَ : إِذَا تَبَيَّنَ الْمَوْتُ فِيهِ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ تَوْبَةً .

8863 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ، فَلَيْسَ لِهَذَا عِنْدَ اللَّهِ تَوْبَةٌ .

8863 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ : سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مَيْمُونٍ يُحَدِّثُ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ قَالَ : حَدَّثَنَا رَجُلٌ مِنَّا ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ : مَنْ تَابَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ تِيبَ عَلَيْهِ ، حَتَّى ذَكَرَ شَهْرًا ، حَتَّى ذَكَرَ سَاعَةً ، حَتَّى ذَكَرَ فَوَاقًا . قَالَ : فَقَالَ رَجُلٌ : كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ؟ [ ص: 100 ] فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : أَنَا أُحَدِّثُكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .

8864 - حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : كَانَ يُقَالُ : التَّوْبَةُ مَبْسُوطَةٌ مَا لَمْ يُؤْخَذْ بكَظَمِهِ .

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عُنِيَ بِقَوْلِهِ : وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ

فَقَالَ بَعْضُهُمْ : عُنِيَ بِهِ أَهْلُ النِّفَاقِ .

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :

8865 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الرَّبِيعِ : إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ، قَالَ : نَزَلَتِ الْأُولَى فِي الْمُؤْمِنِينَ ، وَنَزَلَتِ الْوُسْطَى فِي الْمُنَافِقِينَ يَعْنِي : وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ، وَالْأُخْرَى فِي الْكُفَّارِ يَعْنِي : وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ .

وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ .

[ ص: 101 ] ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :

8866 - حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنْ سُفْيَانَ ، قَالَ : بَلَغَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ : وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ قَالَ : هُمُ الْمُسْلِمُونَ ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ؟

وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ هَذِهِ الْآيَةُ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ ، غَيْرَ أَنَّهَا نُسِخَتْ .

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :

8867 - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ : حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ : وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 48 ، 116 ] ، فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَغْفِرَةَ عَلَى مَنْ مَاتَ وَهُوَ كَافِرٌ ، وَأَرْجَأَ أَهْلَ التَّوْحِيدِ إِلَى مَشِيئَتِهِ ، فَلَمْ يُؤَيِّسْهُمْ مِنَ الْمَغْفِرَةِ .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ ، مَا ذَكَرَهُ الثَّوْرِيُّ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ فِي الْإِسْلَامِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كُفَّارٌ ، فَلَوْ كَانَ مَعْنِيًّا بِهِ أَهْلُ النِّفَاقِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ : وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ مَعْنًى مَفْهُومٌ ، إِذْ كَانُوا وَالَّذِينَ قَبْلَهُمْ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ : مِنْ أَنَّ جَمِيعَهُمْ كُفَّارٌ . وَلَا وَجْهَ لِتَفْرِيقِ أَحْكَامِهِمْ ، وَالْمَعْنَى [ ص: 102 ] الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ بَطَلَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ تَوْبَةٌ - وَاحِدٌ . وَفِي تَفْرِقَةِ اللَّهِ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - بَيْنَ أَسْمَائِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ ، بِأَنْ سَمَّى أَحَدَ الصِّنْفَيْنِ كَافِرًا ، وَوَصَفَ الصِّنْفَ الْآخَرَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ سَيِّئَاتٍ ، وَلَمْ يُسَمِّهِمْ كُفَّارًا - مَا دَلَّ عَلَى افْتِرَاقِ مَعَانِيهِمْ . وَفِي صِحَّةِ كَوْنِ ذَلِكَ كَذَلِكَ صِحَّةُ مَا قُلْنَا وَفَسَادُ مَا خَالَفَهُ .
مسألة: الجزء الثامن التحليل الموضوعي

القول في تأويل قوله : ( وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وليست التوبة للذين يعملون السيئات من أهل الإصرار على معاصي الله حتى إذا حضر أحدهم الموت ، يقول : إذا حشرج أحدهم بنفسه ، وعاين ملائكة ربه قد أقبلوا إليه لقبض روحه ، قال وقد غلب على نفسه ، وحيل بينه وبين فهمه ، بشغله بكرب حشرجته وغرغرته [ ص: 99 ] إني تبت الآن ، يقول : فليس لهذا عند الله تبارك وتعالى توبة ، لأنه قال ما قال في غير حال توبة ، كما :

8860 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن يعلى بن نعمان قال : أخبرني من سمع ابن عمر يقول : التوبة مبسوطة ما لم يسق ، ثم قرأ ابن عمر : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ، ثم قال : وهل الحضور إلا السوق .

8861 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن قال : إذا تبين الموت فيه لم يقبل الله له توبة .

8863 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبي النضر ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ، فليس لهذا عند الله توبة .

8863 - حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة قال : سمعت إبراهيم بن ميمون يحدث ، عن رجل من بني الحارث قال : حدثنا رجل منا ، عن عبد الله بن عمرو أنه قال : من تاب قبل موته بعام تيب عليه ، حتى ذكر شهرا ، حتى ذكر ساعة ، حتى ذكر فواقا . قال : فقال رجل : كيف يكون هذا والله تعالى يقول : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ؟ [ ص: 100 ] فقال عبد الله : أنا أحدثك ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

8864 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن إبراهيم قال : كان يقال : التوبة مبسوطة ما لم يؤخذ بكظمه .

واختلف أهل التأويل فيمن عني بقوله : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن

فقال بعضهم : عني به أهل النفاق .

ذكر من قال ذلك :

8865 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ، قال : نزلت الأولى في المؤمنين ، ونزلت الوسطى في المنافقين يعني : وليست التوبة للذين يعملون السيئات ، والأخرى في الكفار يعني : ولا الذين يموتون وهم كفار .

وقال آخرون : بل عني بذلك أهل الإسلام .

[ ص: 101 ] ذكر من قال ذلك :

8866 - حدثنا المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، قال : بلغنا في هذه الآية : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن قال : هم المسلمون ، ألا ترى أنه قال : ولا الذين يموتون وهم كفار ؟

وقال آخرون : بل هذه الآية كانت نزلت في أهل الإيمان ، غير أنها نسخت .

ذكر من قال ذلك :

8867 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار فأنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ سورة النساء : 48 ، 116 ] ، فحرم الله تعالى المغفرة على من مات وهو كافر ، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته ، فلم يؤيسهم من المغفرة .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، ما ذكره الثوري أنه بلغه أنه في الإسلام . وذلك أن المنافقين كفار ، فلو كان معنيا به أهل النفاق لم يكن لقوله : ولا الذين يموتون وهم كفار معنى مفهوم ، إذ كانوا والذين قبلهم في معنى واحد : من أن جميعهم كفار . ولا وجه لتفريق أحكامهم ، والمعنى [ ص: 102 ] الذي من أجله بطل أن تكون لهم توبة - واحد . وفي تفرقة الله - جل ثناؤه - بين أسمائهم وصفاتهم ، بأن سمى أحد الصنفين كافرا ، ووصف الصنف الآخر بأنهم أهل سيئات ، ولم يسمهم كفارا - ما دل على افتراق معانيهم . وفي صحة كون ذلك كذلك صحة ما قلنا وفساد ما خالفه .

السابق
|

أختلف الباحثون في تحديد اسم الفرعون الذي عاصر موسى وذكره القرآن والتوراة ..
وحتى لا نرهق القارئ في تلك القضية فأننا نكتفي باختيار ثلاثة من الباحثين تعرضوا لهذه القضية وبحثوها ,وكل منهم له خلفيته الثقافية والفكرية ..
1 ـ يرى الباحث الأمريكي بول ف بورك في كتابه ( the world of Moses ): أن الكتابات المصرية القديمة ليس فيها أشارة لموسى ، كما أن التوراة لم تذكر أسم الفرعون المعاصر لموسى ولا تذكر التاريخ الزمني لهما ، وليس على الباحث إلا أن يقارن بين الأحداث التاريخية التي ترجح على أن موسى قد ولد حوالي 1525 ق . م ، أي قبل الخروج الإسرائيلي من مصر بثمانين عاما .
ويقارن الكاتب بين ما استقاه من التاريخ الزمني لعصر موسى وبين التاريخ المصري القديم ويرجح أن تلك هي الفترة التي حكمت فيها الملكة حتشبسوت ، ويرى أنها هي التي قالت عنها التوراة أنها بنت الفرعون التي ذهبت لتغتسل في النهر فعثرت على تابوت موسى واتخذته ابنا لها . ويسير الباحث مع هذه النظرية ليفسر أحداث قصة موسى وقصة حتشبسوت وكيف انتهت المرحلة الأولى بهرب موسى من مصر، فهو يقول أن حتشبسوت كانت ابنة لتحتمس الأول حين عثرت على تابوت موسى وتبنته ، ثم تزوجت من أخيها غير الشقيق تحتمس الثاني الذي أصبح فرعونا واستمر يحكم خمس سنوات فقط ، ومات دون أن ينجب منها ، وكان لتحتمس الثاني ابن من زوجة أخرى تولى الحكم اسميا مع حتشبسوت بعد موت والده ، وهو تحتمس الثالث ، إلا أن حتشبسوت اغتصبت منه النفوذ فظل في عهدها خامل الذكر ، وعملت على أن يتولى الحكم من بعدها موسى الذي تربى في البلاط الفرعوني وأصبح قائدا مهابا ، ولكن واجهتها ثورة فلم يكن موسى مصريا ولم يهتم بتأدية الشعائر المصرية ، ونجحت المؤامرة في قتل حتشبسوت وأنصارها ، فاضطر موسى للهرب إلى مدين ، وقد اختفت حتشبسوت من التاريخ المصري سنة 1442 ق . م . وكان عمر موسى وقتها أربعين عاما ، وتذكر التوراة أنه رفض أن يكون ابن الفرعون .
وبعدها تولي تحتمس الثالث كافة سلطاته، و بعد اختفاء حتشبسوت طمس تاريخها واضطهد أنصارها وانتقم لنفسه منها ..
وعلى ذلك فأن فرعون موسى أكثر من شخص ،تحتمس الأول الذي اضطهد بني إسرائيل ، وتحتمس الثاني الذي قام بتربية موسى ، ثم تحتمس الثالث الذي جاء له موسى فيما بعد نبيا مرسلا ..
ولكن الباحث الأمريكي لم يأت بأدلة على ما قالته التوراة عن اضطهاد فرعون لبني إسرائيل وتسخيره لهم، مع أن ذلك الباحث يعتمد علي التوراة في تحديد عصر موسى من وجهة نظره وهو أنه في عصر تحتمس وحتشبسوت ..
2 ـ أما الباحث المسلم محمد عزة دروزه في كتابه " تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم " فهو يربط بين ما جاء في التوراة من اضطهاد الفرعون لبني إسرائيل وبين ما ورد في أوراق البردي المصرية من حديث عن اضطهاد رمسيس الثاني للعبرانيين ، وكان رمسيس الثاني أعظم ملوك الآسرة التاسعة عشرة التي حكمت ما بين ( 1462 : 1288 ) ق. م .
ويعتمد على ما جاء في كتاب " تاريخ مصر من أقدم العصور " لمؤلفه " بريستد " الذي تحدث عن تسخير رمسيس الثاني للعبرانيين في جنوب بلاد الشام نتيجة لما كان بينه وبين الحيثيين من اتفاقيات ، وقد ذكر " بريستد " خروج بني إسرائيل من مصر في عهد منفتاح الثاني في ظروف الارتباك الذي حدث في مصر وقتها ، وأن السحرة والمنجمين نصحوا منفتاح بتعذيب بني إسرائيل ، وظهر فيهم موسى وانتهي الأمر بخروجهم وطاردهم منفتاح وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وقد اعتمد بريستد في معلوماته على المدونات اليونانية القديمة والمؤرخ المصري القديم ماثنيون الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد. ويقول بريستد أنه قرأ نصوصا مكتوبة في طيبة ( الأقصر) يفتخر فيها منفتاح الأول بتنكيله ببني إسرائيل وباقي سكان فلسطين حين ثاروا عليه . ويحاول الأستاذ دروزة أن يجمع بين تلك الروايات فيقول أن بني إسرائيل خرجوا من مصر على دفعتين :دفعة صغري في عهد رمسيس الثاني أو أبنه ودفعة كبري في عهد منفتاح الأول أو الثاني ، والأخيرة هي التي قادها موسى .
ومعني ذلك أن فرعون موسى هو منفتاح الأول أو الثاني ، أو هما معا ..
3 ـ والباحث المصري القبطي فؤاد باسيلي في كتابه " حياة موسى" يذكر تضارب ألآراء في فرعون موسى بين تحتمس الأول وأموسيس الأول وسيتي الأول ورمسيس الثاني ، ويميل إلى أنه رمسيس الثاني على أساس أن ذلك الفرعون بني مدينه " رعمسيس" وسحر في بنائها بني إسرائيل ، كما أنه بني أيضا مدينة نافي وسخر فيها بني إسرائيل أيضا ..
ولنا بعض ملاحظات على آراء أولئك الباحثين ..
1 ـ فقد اختلفوا في تحديد من هو فرعون موسى ، ما بين تحتمس الأول إلى منفتاح الثاني ، وتلك فترة زمنية طويلة حوالي ثلاثة قرون ، ما بين ( 1539 : 1213 ) ق. م .ولم يستطع أحدهم الوصول إلى تحديد دقيق لفرعون موسى يحظى بتأييد أغلبية الباحثين ..
2 ـ وقد اعتمدوا في أدلتهم على المقارنة بين أحداث قصة موسى في التوراة وما يأتي متفقا مع بعض تلك الأحداث في التاريخ المصري القديم، سواء قصة الاضطهاد ، أو إيجاد صلة بين حديث التوراة عن بنت فرعون التي أنقذت موسى وحتشبسوت ..
3 ومبلغ علمنا أن كل من بحث هذه القضية قد أغفل الرجوع للقرآن الكريم .. ونحاول أن نسترشد بالكتاب الحكيم في تحديد أقرب لفرعون موسى ..
ثانيا :
1 ـ لقد كان الفراعنة معروفين بعدم تسجيل النكسات والهزائم وإغفالها ، في نفس الوقت الذي يحرص فيه كل فرعون على تسجيل أمجاده والمغالاة فيها ، ثم نسبة أمجاد السابقين لنفسه ، وذلك في حد ذاته يمثل عامل شك كبير في صدق المصادر التاريخية الفرعونية خصوصا عندما نحاول أن نتعرف منها على حقيقة الكارثة التي حدثت في عصر موسى ونتج عنها غرق الفرعون وجنده في البحر .
والأكثر من ذلك أن القرآن الكريم يثبت حقيقة تاريخية لم ترد في كتابات المؤرخين ، وهي أن بني إسرائيل قد ورثوا فرعون في مصر بعد انهيار النظام الفرعوني وغرق فرعون وقومه أو جنده: يقول تعالى " فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ )( الأعراف 137) ويقول تعالى: ( فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ )(الشعراء 57 : 59 ")
والواضح من الآيات الكريمة أن بني إسرائيل لم يحكموا مصر بالمعني السياسي وإنما ورثوا خيراتها وثروتها بعد غرق النظام الفرعوني . كان فرعون وجنده أو قومه يتحكمون في الأرض الزراعية والفلاحين المصرين ، وذهب فرعون ونظامه ، وبقي الشعب الكادح الذي اعتاد تسليم ثمرة عرقه للحاكم . ولأن فرعون قد غرق بنظامه فأن بني إسرائيل هم الذين ورثوه في ثروته الذهبية والاقتصادية . وبالطبع أستمر ذلك حينا من الزمان ، واستعاد النظام المصري الفرعوني مؤقتا هيبته ولكنه اغفل تلك النكسة وتجاهلها ، ولولا القرآن ما عرفنا عنها شيئا ..
2 ـ ونعود إلى شخصية فرعون موسى من خلال القصص القرآني
أن المنهج القرآني المعتاد في القصص هو عدم تحديد الأشخاص وذلك للتأكيد على جانب العبرة والعظة بأن تتحول الحادثة التاريخية المحددة بالأسماء والزمان والمكان إلى قضية عامة قابلة للاستشهاد بها والاتعاظ بها في كل زمان ومكان ، وبذلك يتحول الشخص من " اسم " إلى " رمز "، بل أن القرآن الكريم حين يذكر اسم شخص فأنه يحوله أيضا إلى رمز لفكرة معينة ، ولذلك تحول " أبو لهب " و" آزر "إلى رمز للسقوط والتردي حتى لو كان ذلك الخاسر من أقرب أقارب النبي ، وبذلك اسقط القرآن دعاوى النسب الشريف التي تعطي حصانة لأصحابها فخاتم النبيين محمد عليه السلام كان عمه " أبو لهب " كافرا ، وخليل الله إبراهيم كان أبوه " آزر " كافرا .. ولم يغنيا عنها من الله شيئا لذلك تحول اسم " أبو لهب "و " آزر " إلى رمزين لقيمة أساسية من قيم الإسلام العظيم
. ونعود إلى فرعون موسى ..
أن " فرعون" في حد ذاته لقب سياسي للملك المصري ، وليس اسما شخصيا ، وفرعون موسى ليس بدعا من أسلافه ، في الطغيان ، ولذلك اكتفي به القرآن رمزا لكل حاكم ظالم مدع للألوهية يسير إلى نهاية الشوط فى حرب الله تعالى فيلقى جزاءه ..
ومع ذلك تبقي الإشارات القرآنية عامل توضيح وترجيح في تحديد شخصية فرعون موسى ..
ففي القرآن ما يرجح أن فرعون موسى شخص واحد ، هو الذي اضطهد بني إسرائيل وهو الذي طاردهم إلى أن غرق بجنوده ، في البحر .
تفهم ذلك من قول تعالى حاكيا عن تلك الفترة (وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ )( الأعراف 127 ) . أى أن الاضطهاد استمر متصلا قبل مجيء موسى وبعده، والعدو الذي يمارس الاضطهاد شخص واحد ، وهو الذي سيلقي الهلاك وسيخلفه بنو إسرائيل في الأرض ..
وفي سورة القصص تفصيلات أكثر يتضح منها أن فرعون موسى شخص واحد وملك واحد . يقول تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ) ( القصص 4: 8 ) .
أى أن الفرعون الذي اضطهد بني إسرائيل هو نفسه الذي كفل موسى وهو نفسه الذي كان موسى سببا في ضياع ملكه ، بل أن الملأ هو نفس الملأ ، وهامان هو نفسه هامان في سنوات الاضطهاد وفي الغرق أيضا .
وفي سورة الشعراء توضيح طريف نتأكد منه أن الفرعون الذي تربي موسى في كنفه هو نفسه فرعون الذي جاءه موسى فيما بعد نبيا مرسلا يطلب الخروج بقومه ، وقد تعرف عليه فرعون بعد تلك المدة الطويلة وقال له: (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ؟ ) (الشعراء 18 : 19 ) .
2 ـ أى إن فرعون موسى شخص واحد .. فمن هو ؟
أنه ليس بالقطع رمسيس الثاني الذي دحر الحيثيين في قادش بالشام وأرغمهم على عقد أول معاهدة في التاريخ ، وأحكم سيطرته على الشام خصوصا في جنوبها .
ليس هو رمسيس الثاني لسبب بسيط ، أن موسى حين قتل المصري وهرب من فرعون أتجه إلى مدين بالشام ، فكيف يهرب موسى من فرعون إلى فرعون ؟ كيف يهرب من يد فرعون اليمنى إلى يد فرعون اليسرى ؟
المفهوم أن يعشين في عصر رمسيس آخر يكون خلفا لرمسيس الثاني وأضعف قبضة منه على الشام حتى يحس موسى بالأمن وهو يستقر هناك مختفيا عن الأعين ..
والمفهوم أن يرث ذلك الفرعون عظمة رمسيس الثاني وأن يكون له من القوة الداخلية ما يمكنه من شغل وقت فراغه بتحديد النسل لطائفة مستضعفة في شعبه ، وأن يستخدم جيشه في التدريب على حرب داخليه مضمونة النصر ضد المستضعفين ، علاوة على ما انشغل به من عقد المؤتمرات وإلقاء الخطابات على نحو ما تردد في القرآن الكريم: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ) (الزخرف 51) (فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ) (النازعات 23 ـ )
ولو كان هذا الفرعون – مثل رمسيس الثاني – منشغلا بحروب خارجية ما التفت إلى الداخل بهذه الطريقة ، علاوة على أنه لم يرد في القرآن أن فرعون موسى قد أنشغل بغير مصر ..
لقد تحدث القرآن الكريم عن بني إسرائيل في عصر موسى وهم يرفضون دعوته لدخول فلسطين لأن فيها " قوما جبارين " وأولئك القوم الجبارون من سكان فلسطين كانت لهم دولة ذات حدود وأبواب، أى دولة مستقلة و لم تكن تابعة لمصر وقتها ، بل كانت دولة مهابة ، ونلمح هذا من الحوار الذى دار بين موسى وقومه ،ثم ما قاله رجلان من الشجعان : ( قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (المائدة 22 ـ )..
والمعنى المستفاد من القرآن أنه بعد سقوط فرعون موسى بنظامه في البحر الأحمر قامت دولة مستقلة في فلسطين أرهبت بني إسرائيل فقالوا لموسى : ( قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) (المائدة 22 ،24 ).
إن تلك الدولة الكنعانية التي أرهبت بني إسرائيل لم تقم فجأة بين يوم وليلة وإنما بدأت تتكون على مهل أثناء انشغال فرعون موسى باضطهاد بني إسرائيل واستغراقه بشئون مصر الداخلية ، وأثناء ذلك اتسعت تلك الكيانات السياسية في الشام وتحررت من السيطرة المصرية فلما سقط فرعون وجنوه في البحر كانوا هم القوة الكبرى في المنطقة ..
.وبنو إسرائيل في عصر موسى عرفوا الكسل التام ، إذ كانت عصا موسى هي التي تجلب لهم المن والسلوى وتفجر لهم عيون الأرض أثنتا عشره عينا للاثنتى عشرة قبيلة ، والشيء الوحيد الذي نشطوا إليه هو أنهم صاغوا العجل الذهبي من الذهب المصري وقاموا على عبادته .. وحين طلب منهم موسى أن يدخلوا فلسطين طلبوا أن يخرج منها الفلسطينيون أولا ، أو أن يذهب موسى وربه ليقاتلا الفلسطينيين بالنيابة عنهم..
وبسبب تقاعس بني إسرائيل في عصر موسى عن الجهاد فإن الله تعالى حكم عليهم بأن يظلوا في الصحراء تائهين حتى ينقرض ذلك الجيل المتهالك ويأتي جيل آخر أشد وأقوى ، ومات موسى في فترة التيه ، وبعده جاء نبيٌّ وتم في عهده تعيين جالوت ملكا .. وهو الذي هزم طالوت الفلسطيني وأسٌّس دولة لبني إسرائيل ..
. والذي نفهمه أن الإمبراطورية المصرية تقلصت إلى حدود مصر الطبيعية بعد عصر فرعون موسى إلى درجة أنه قامت لبني إسرائيل دولة على حدودها الشرقية .
وذلك يرجح أن يكون فرعون موسى من خلفاء رمسيس الثالث ..
لقد تعاقب بعد رمسيس الثالث ثمانية من الملوك كل منهم فرعون يحمل لقب رمسيس ، ولا نسمع عنهم كثيرا كما يقول المؤرخون .
ويعزز ذلك أن مصر دخلت بعدهم في دور الضعف والانقسام والانهيار وتولي السلطة الليبيون والنوبيون وفراعنة ضعاف ثم احتل مصر الآشوريون ثم الفرس ، ومعناه أن فرعون مصر في عصر موسى هو آخر الفراعنة الكبار ، وقد لقي مصيره في اليم وحقت أللعنة على خلفائه الذين يسيرون على منواله..
3 ـ والقرآن يذكر أن موسى دعا الله أن ينتقم من فرعون ويهلكه ويطمس على أمواله ..وأن الله تعالى قال لموسى وهارون ": (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) (يونس 88 ،89 ).
وقد لحقت الدعوة ليس بفرعون موسى وحده بل بالنظام الفرعوني بأكمله فلم تر مصر بعدها فرعونا عظيما مهابا ..كما يؤكد ذلك التاريخ المصري القديم ، ولا تزال تلك الدعوة تلحق كل فرعون يحكم مصر مستبدا مفسدا، حتى فى عصرنا الراهن.ومن أجل هذا كان قصص فرعون موسى من أكثر القصص ترديدا فى القرآن الكريم.
والله تعالى لا يحكى هذا عبثا ـ تعالى الله تعالى عن العبث ـ (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ) ( الطارق 13 ـ ) .
لقد كرر الله تعالى ذلك القصص القرآنى ليكون عبرة وعظة لكل البشر الى قيام الساعة : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (يوسف 111 ).
هو عبرة لأولى الألباب ..
واين هم الان بين حكام العرب الفراعنة الجدد ؟؟
توصلنا في أبحاثنا الأربعة السابقة ان رمسيس الثاني هو فرعون موسى وليس أي فرعون آخر وقدمنا لذلك أربع أدلة فلكية هي الحساب الفلكي ليوم الزينة فتوصلنا انه كان يوم 9 يوليو 1266 ق.م الموافق 10 محرم 1945 ق.هـ فوقع هذا التاريخ في سنوات حكم رمسيس الثاني وذلك في بحثنا الأول (يوم الزينة يكشف رمسيس الثاني فرعون موسى) ورابطه :
http://quran-m.com/container.php?fun=artview&id=1127
وحسبنا فلكياً تاريخ غرق فرعون موسى الذي أسميناه بيوم عاشوراء الخروج فتوصلنا إلى ان هذا اليوم كان 29 ابريل 1227 ق.م الموافق 10 محرم 1905 ق.هـ فجاء هذا التاريخ متوافقاً مع تاريخ وفاة رمسيس الثاني ونهاية حكمه وذلك في بحثنا الثاني (عاشوراء الخروج تكشف رمسيس الثاني فرعون موسى) ورابطه :
http://quran-m.com/container.php?fun=artview&id=1140
وحسبنا الفترة الزمنية بين تاريخي يوم الزينة ويوم عاشوراء الخروج فوجدناها تساوي 40 سنة قمرية تامة هي الفرق بين سنتي (1945 – 1905 ق.هـ ) فتوافقت ال40 سنة مع ما جاء من روايات صحابة رسول الله انه بين يوم قول فرعون "ما علمت لكم من اله غيري" التي قالها في يوم الزينة وقوله "أنا ربكم الأعلى" التي قالها عندما حشر جنده لمواجهة موسى وشعبه في يوم عاشوراء الخروج قبل غرقه فقالوا ان بينهما 40 عاما وتوافقت هذه ال40 سنة مع آخر 40 سنة من فترة حكم رمسيس الثاني التي خلت من أية أعمال عظيمة لانشغاله فيها بعقاب الله له بالآيات التسع أو الضربات ال10 كما بالتوراة .. كما توافقت ال80 سنة قمرية (= 77 سنة ميلادية) التي عاصر موسى فيها فرعون منذ مولده وتربية فرعون له حتى خرج موسى بشعبه من مصر وعمره 80 عاما قمرياً توافقت تلك مع فترتي حكم رمسيس الثاني لمصر المتتاليتين (مشاركا في الحكم مع أبيه سيتي الأول لمدة 14 : 19 سنة وفترة حكمه مصر منفردا لمدة 67 سنة بعد موت أبيه) وذلك في بحثنا الثالث ( 40 سنة و 80 سنة يكشفان رمسيس الثاني فرعون موسى) ورابطه : http://quran-m.com/container.php?fun=artview&id=1134 كما أننا وجدنا ال67 سنة التي حكمها رمسيس منفرداً والتي اتفق عليها كل المؤرخين وعلماء المصريات وجدناها تشكل إعجازا قرآنيا جديداً هي أنها قد توافقت مع عدد الآيات التي ذكر فيها لفظ (فرعون) في القران الكريم (= 67 آية) فأعطت لنا معناً إضافيا اعجازياً لقوله تعالى " فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وان كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون" وذلك في بحثنا الرابع (67 سنة تكشف رمسيس الثاني فرعون موسى) ورابطه :
http://quran-m.com/container.php?fun=artview&id=1147
هذه الأبحاث الأربعة أعطت لنا الحق في أن نتسلل إلى فترة حكم فرعون موسى رمسيس الثاني تاريخيا لنكتشف بإذن الله ما تيسر لنا من اعجازات قرآنية تناولت قصته مع موسى .. والله الموفق
هذه أوصاف فرعون موسى
جاء في التفاسير أنه قد كذب بعض بني إسرائيل بموت فرعون وقالوا أنه لا يموت .. فألقي علي ساحل البحر حتى رآه بنو إسرائيل أحمر قصير كأنه ثور .. ((1)) . وهناك روايات أخري كثيرة وصفت فرعون عندما رأوه بعد غرقه انه كان أصلع وأخينس .. ((2)) .. أخينس تصغير لأخنس .. الخنس (ذو أنف مرتفع ومتأخر عن الوجه قليلا – الخنس = تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة " القاموس المحيط") .. وهناك رواية لأبي بكر أنه قال : أخبرت أن فرعون كان أثرم .. ((3)) .. (الثَّرَمُ، :انْكسارُ السِّنِّ من أصْلِها، أو سِنٍّ من الثَّنايا والرَّباعِياتِ، أو خاصٌّ بالثَّنِيَّةِ. ثَرِمَ، كفَرِحَ، فهو أثْرَمُ ..القاموس المحيط) وأيضا (الثرم : سقوط الثنية من الأسنان والرباعية وقيل هو أن تنقلع السن من أصلها مطلقا .. النهاية في غريب الأثر) . وبهذا نستطيع ان نجمع صفات فرعون موسى كما وصفه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم : انه كان قصير و أصلع و اثرم و اخينس .
وهذه أوصاف رمسيس الثاني
بمقارنة هذه الصفات بمومياء رمسيس الثاني الموجودة بالمتحف المصري نجد أن رأسه صلعاء مع وجود بعض الشعر علي جانبي الرأس وخلفه وأن أنفه بارز قليلا ومرتفع عن الفم قليل مع بروز أرنبه بأعلى أنفه كما أنه كانت هناك فحوص طبية أجريت علي مومياء رمسيس الثاني في فرنسا في أواخر السبعينيات في رحلة علاج مومياءه ذكر فيها د. سميث أن هناك كسورا بأسنانه وخراريج بها خاصة في أسنان مقدمة الفم كما أوضح الكشف بالأشعة السينية لفك وأسنان مومياء رمسيس الثاني الحالة السنية للفرعون عند وفاته وقد تبين وجود بؤر عظمية انتانية عند شيخ عمره حوالي 90 سنة مصاب بفقدان عادي عام ومتقدم لمنطقة الأضراس ولم يبين الكشف وجود أي علاج أسناني تستطيع أن توضحه الأشعة السينية .. ((4)).
ولقد عثرت على صورة جانبية يمنى لجمجمة رمسيس الثاني بالأشعة السينية بأحد مواقع الانترنت.. ((5)) وبعرضها على الدكتور / حامد محمد سيد عبد الله – مدير إدارة طب الأسنان بمنطقة الشرابية الطبية الذي قام بفحصها ووجد فقد للقاطع الأيمن العلوي المجاور للناب الأيمن وبعرض صورة طبيعية أمامية لجمجمة رمسيس الثاني وهو فاتح فمه قليلاُ أفاد الدكتور/ حامد أن هناك فقد واضح للقاطع الأيسر العلوي . وللأسف لم أعثر على صورة جانبية يسرى لجمجمة رمسيس الثاني بالأشعة السينية أو صورة أمامية له بالأشعة السينية لبيان حالة باقي الأسنان خاصة القواطع من حيث وجودها أو فقد بعضها .. ولكن الله قد أكرمني كثيراً حيث عثرت أخيراً على تقرير طبي خاص لحالة أسنان مومياء رمسيس الثاني في رحلة مومياء رمسيس الثاني إلى فرنسا في السبعينيات جاء فيها فقده لغالبية القواطع والأنياب وانه لم يتبق منها سوى القاطع رقم 11 ورقم 13 فقط .. ((6)).
وبهذا نجد أن كل الصفات التي ذكرت في الروايات عن فرعون موسى الغريق تكاد تطابق مومياء رمسيس الثاني عدا صفة واحدة وهي طوله حيث ذكرت الروايات أنه كان قصيرا في حين أن طول مومياء رمسيس الثاني 173 سم أي انه كان وسطاً في الطول . وإن كنت أرى أن صفة الطول نسبية ... فربما كان هذا قصيرا إذا نسبوه للغالبية من رجال عصره أو بالنسبة لبني إسرائيل الذين وصفوه عندما شاهدوا جثمانه فقد كان موسى وهارون طويلين فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : رأيت إبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم ، فأما موسى فرجل طوال (طويل) سبط يشبه رجال الزط ورجال أهل شبوة .. ((7)) .. و قال الثعلبي : قال كعب الأحبار : كان هارون بن عمران نبي الله رجلا فصيح اللسان بين الكلام ، وإذا تكلم تكلم بتؤدة وعلم ، وكان أطول من موسى وكان على أرنبته شامة ، وعلى طرف لسانه أيضا شامة ، وكان موسى بن عمران نبي الله رجلا آدم جعدا طويلا كأنه من رجال أزد شنوءة ، وكان بلسانه عقدة ثقل ، وكانت فيه سرعة وعجلة ، وكان أيضا على طرف لسانه شامة سوداء . بيان : قال الفيروزآبادي : أزد شنوءة وقد تشدد الواو : قبيلة سميت لشنآن بينهم .. ((8)).
ونحن وان كنا نبحث عن الفرعون الذي جمع في بدنه هذه الأوصاف (قصير – أصلع – أثرم – أخينس) من بين ما يقرب من 200 ملك وملكة (تقريباً) حكموا مصر خلال تاريخها القديم في 30 أسرة ملكية فان هذا الأمر يبدو صعباً للغاية لأننا في الواقع لم نتوصل حتى الآن إلا لعدد قليل من مومياواتهم ولكننا إذا ركزنا البحث في مومياوات ملوك الأسرتين ال18 وال19 التي اتفق غالبية الباحثين ان فرعون موسى فيهم وهم :الأسرة ال18: أحمس الأول - امنحتب الأول – تحتمس الأول – تحتمس الثاني – حتشبسوت – تحتمس الثالث – امنحتب الثاني – تحتمس الرابع– امنحتب الثالث – اخناتون - سمنخ كارع – توت عنخ آمون– أي– حور محب. الأسرة ال19: رمسيس الأول – سيتي الأول– رمسيس الثاني– مرنبتاح– آمون مس– سيتي الثاني– رمسيس سابتاح مع العلم بأن اغلبهم قد توصلنا إلى مومياواتهم . فأنه من السهل ان تجد ان هذه الأوصاف (قصير – أصلع – أثرم – أخينس) لا تنطبق إلا على رمسيس الثاني كما بينا .
اسفكسيا الغرق أم تصلب الشرايين
أثناء رحلة علاج مومياء رمسيس الثاني في السبعينات بفرنسا أجروا فحوصا طبية متقدمة لبيان سبب الوفاة توصل عالم البكتيريا الفرنسي روفر إلي أن سبب وفاته كان إصابته بتصلب الشرايين .. ((9)) .. وبهذا لم يكشفوا من قريب أو من بعيد أن سبب الوفاة كان اسفكسيا الغرق وأعترف أن هذا الأمر قد أصابني بالحيرة واليأس والفشل توقف معه بحثي هذا دون أي تقدم يذكر لمدة طويلة ... وكان لا بد أن أجد مخرجا مقنعا لهذا الموقف الصعب .. فكيف توصلت فلكيا ودينيا وتاريخيا وجغرافيا ومنطقيا إلي أن هذا الفرعون قد مات غريقا بما يتطابق مع كلام الله المنزل في القرآن والتوراة في حين أن الفحوص الطبية المتقدمة لموميائه أثبتت عدم صحة ذلك. وأخيرا جاء الفرج في تفسير بن كثير للآية 92 من سورة يونس حيث قال بن كثير في قوله تعالي " فاليوم ننجيك " أي نرفعك علي نشز من الأرض .. بدنك قال مجاهد : بجسدك وقال الحسن : بجسم لا روح فيه وقال عبد الله بن شداد سويا صحيحا أي لم يتمزق ليتحققوه ويعرفوه . لهذا فإن الله قد نجي بدنه من كل ما قد يتلفه من ملح أو كسر إذا غاص في قاع البحر وغيره .. فالله يريد أن يبقي بدنه آية وعبرة لمن لا يعتبر في كل الأزمان التالية وذلك في قوله تعالي : " لتكون لمن خلفك آية " خاصة وإننا نجد أحد القراءات الأخرى الصحيحة تذكر " لمن خلفك " علي صيغة الفعل الماضي.. أي لمن يأتي بعدك من القرون والأزمان التالية ... ومثلما تشكك بنو إسرائيل في موته تشكك المصريون أيضا في موته لأنهم كانوا يعبدونه إلها بعد أن أضلهم فرعون وهامان وجنودهما في ذلك حيث ذكر بن كثير فلما خرج موسى وأصحابه قال من تخلف من قوم فرعون (المصريين) : ما غرق فرعون ولا أصحابه ولكنهم في جزائر البحر يتصيدون فأوصي الله إلى البحر أن ألفظ فرعون عريانا فلفظه عريانا أصلع أخينس قصير .. ((10)) . ولنا أن نتساءل : من أي شئ نجى الله بدن فرعون ؟ هل من الموت أم من الغرق أم من ماذا؟ ... فمن المؤكد أن الله قد نجى بدنه من شئ ما لأنه قال : " فاليوم ننجيك ببدنك " .. والإجابة على هذا التساؤل : أن الله قد أغرق فرعون وأماته ومن معه جميعا لأنه قال تعالى : " فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا " الإسراء 103 . ولكن الله نجى بدن فرعون ليكون لمن بعده عبر كل القرون آية .
اسفكسيا الغرق أم اسفكسيا الاختناق
وصفت لنا بعض كتب التفاسير مشهد غرق فرعون موسى مستعينة بروايات لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته فذكرت انه عندما أدرك فرعون الغرق وقال "آمنت بأن لا اله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين" كان سيدنا جبريل حاضراً في هذا المشهد حيث أخذ يأتي بطين قاع البحر فيسد فم فرعون خوفاً من أن تدركه الرحمة من الله ذلك الذي ادعى الألوهية وبارز الله بكافة المعاصي ولقد جاءت هذه الأحاديث كثيرة في كتب التفسير نذكر احدها فعن حماد بن سلمة عن علي ابن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما أغرق الله فرعون قال : *( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) فقال جبرائيل : يا محمد ! لو رأيتني و أنا آخذ من حال البحر و أدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة " ... ((11)).
القران عطاء لمعاني كثيرة إلى ان يرث الله الأرض ومن عليها ولقد سبق ان حللنا هذه الآية في بحثنا السابق (67 سنة تكشف رمسيس الثاني فرعون موسى) وذكرنا لها الكثير من التفاسير القديمة والحديثة والشخصية عندما جمعت عدد الآيات القرآنية التي ذكر فيها لفظ (فرعون) في المصحف الشريف فوجدتها 67 آية وهي تساوي عدد سنوات حكم رمسيس الثاني لمصر منفردا والتي اتفق عليها كل الآثاريين والتاريخيين وقلت ان هذا يعد إعجازا قرآنيا رقمياً والله اعلم . لكن هذه الأحاديث تضعنا أمام سبب آخر من نجاة بدن فرعون وهو ليكون نجاة بدنه آية .. فنحن نعرف أنه عندما يصارع المرء مياه البحر في الرمق الأخير مخافة الغرق فأنه يجاهد بكل ما يتبقى من قوة فيحتاج للمزيد والمزيد من الهواء ليتنفس ولا يسعفه دخول الهواء عبر انفه فنجده يفتح فمه على آخره ليأخذ هواء الشهيق ولكنه يأخذ الماء بدلا من الهواء فتمتلأ رئتاه بالماء وينتفخ بدنه ويمتنع الأوكسجين عن الوصول إلى الأعضاء والأنسجة وخاصة الخلايا العصبية الحيوية بالدماغ التي تؤدي إلى الوفاة بعد3 دقائق وتكون علامات موته ما نسميه باسفكسيا الغرق والتي من أهمها انتفاخ الجسد وزرقته , ولكننا في حالتنا هذه فان فرعون أثناء محاولته للحصول على الهواء من فمه حتى لا يموت غرقاً نجد ان سيدنا جبريل بقدرته الجبارة قد سد فمه بطين قاع البحر المبتل فمنع الأوكسجين عنه تماماً فمات فرعون مختنقاً وهو ما نسميه باسفكسيا الخنق أو الاختناق والتي من أهم أعراضها زرقة في البدن فيه دون انتفاخ أو تلف في بدنه وهو الذي حفظ بدنه سليماً وعندما شك بنو إسرائيل في موته أمر الله البحر ان يلفظ بدن فرعون كاملاً إلى الشاطئ قبل ان يتلف أو تأكله الأسماك المتوحشة فوجدوه أمامهم ميتاً وجسده سليماً لدرجة أنهم تعرفوا عليه بسهولة ووصفوه وصفاً دقيقاً بأنه كان قصيراً اخينساً أصلعا أثرماً ولم يصفوه بمنتفخاً أو متعفناً أو تالفاً .. لهذا نحن نحتاج إلى فريق متمكن من الأطباء الشرعيين ليتحققوا من سبب الوفاة الأصلي فالمشاهد المبدئية لجثمانه تبدو الزرقة هي الغالبة على بدنه كما ترى في الصورتين الآتيتين :
وربما كانت هناك تحاليل أو وسائل طبية حديثة يمكنها إثبات صحة هذا في مومياؤه أو نفيه . ونحن إذا ما أثبتنا صحة وفاته باسفكسيا الخنق أو الاختناق فيكون دليلاً دامغاً على شخصية رمسيس الثاني فرعون موسى , فهل سيكون هذا هو المقصود من الآية في قوله تعالى : " فاليوم ننجيك ببدنك لتكون من خلفك آية " ؟ ...... الله اعلم .
قراءات أخرى تنطبق على رمسيس الثاني
هناك قراءات أخرى للآية 92 في سورة يونس , فلقد قرئ (ننحيك) بالحاء كما جاء في كتب التفاسير ومنها تفسير البيضاوي جاء فيه ما نصه : " وقرأ (ننحيك) بالحاء أي نلقيك بناحية من الساحل."ببدنك " في موضع الحال أي ببدنك عارياً عن الروح ، أو كاملاً سوياً أو عرياناً من غير لباس .أو بدرعك وكانت له درع من ذهب يعرف بها" .. والفعل (نحّى) يعني أبعد وأزال (المعجم الوجيز) .. ولقد ورد في لسان العرب عن الفعل (نحّي) ما نصه :" نحّى الله عز وجل جوانب جوف الحوت عن يونس وجافاه عنه فلا يصيبه منه أذى ومن رواه عنه جوفه المسحوت (الجائع) يريد أن جوف الحوت صار وقاية له من الغرق".. ((12)) . وبمثل هذا المعنى يمكننا أن نقول أن الله قد نحّى جسد فرعون عن البحر في آخر لحظة وقبل غوصه في قاع البحر وانتفاخ بدنه وقبل أن تأكله أسماك البحر وألقاه ميتا سليم الجسد بشاطئ البحر لكي يراه بنو إسرائيل ويتأكدوا من موته بعد أن تشككوا فيه ولكي يعثر عليه المصريون جثة سليمة فيتمكنوا من تحنيطه ليكون لمن خلفه آية . وقرئ (بندائك) أي عندما نادى فرعون بأن : "آمنت بأن لا اله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين" .. و قرئ (بأبدانك) أي بأجزاء البدن كلها أو بدروعه كما جاء ذلك في تفسير البيضاوي وقد يفسر ذلك أن مومياء رمسيس الثاني عندما عثر عليها سنة 1881 م وتم فك لفائفها سنة 1886 م بواسطة الفرنسي جاستون ماسبرو وعاونه الأثري اميلي بروجش وذلك أمام الخديوي توفيق كانت سليمة الأعضاء وبحالة جيدة من الحفظ ثم تعرضت للتلف الشديد فيما بعد. كما يمكن أن نفسر قوله تعالى :" ننجيك بأبدانك" على أساس أن أبدان جمع بدن والبدن هو الجسد أو الجسم .. وكثيرا ما نطلق على أجساد الشخص بأنها جسده وجسد أبناءه وأحفاده وأبوه وجده وزوجته الذين رعاهم أو رعوه من أقرب أقرباءه.. وأننا نجد من بين أجساد (مومياوات) الملوك والفراعنة المصريين القدماء الذين عثر عليهم وعرضوا في المتاحف وشاهدهم الملايين من السائحين فأصبحوا علامة أو آية دالة عليهم وعلى تاريخهم حيث نجد من بينهم : - الملك رمسيس الثاني- أسرة 19 – (المتحف المصري –قاعة المومياوات ) وأبوه الملك سيتي الأول- أسرة 19 – (المتحف المصري –قاعة المومياوات) وزوجته الملكة نفرتاري– أسرة 19 – ( متحف تورين بإيطاليا رقم Supp. 5254 ) وابنه الملك مرنبتاح- أسرة 19 – (المتحف المصري –قاعة المومياوات) وحفيده الملك سيتي الثاني- أسرة 19 – (المتحف المصري ) ..
وحديثا حصلت مصر على مومياء جده الملك رمسيس الأول .. وكل هؤلاء الملوك والفراعنة هم أقرب الأقرباء الذي راعوا الفرعون رمسيس الثاني أو رعاهم عندما كان طفلاّ أو شاباّ أو كهلاّ أو شيخاّ مسناّ وبقيت أجسادهم (مومياواتهم) منذ أن ماتوا منذ أكثر من 3 آلاف سنة حتى الآن آية دالة وشاهدة عليهم وعلى تاريخهم . وتاريخياّ تعد هذه الحالة نادرة ولا يوجد لها مثيل في الآثار أو التاريخ المصري القديم ولا الحديث ولا في تاريخ العالم القديم ولا الحديث .. حيث لا يوجد جثمان سليم (أو شبه سليم) لرجل محنط ولزوجته ولأبوه ولجده ولأبنه ولحفيده في أي مكان في العالم وفي أي عصر قديم أو حديث غير حالة واحدة فقط هي لرمسيس الثاني .. لهذا أرى ان وجود مومياواتهم حتى يومنا هذا هو الأقرب لمعنى قوله تعالى :" ننجيك بأبدانك" ..